227
0
( كيوبيد بلا أجنحة ) رواية الخيبات والإخفاقات للأديب أيمن قرقوط
بقلم : فرحان الخطيب
تقول الرواية :
أنا اسمي وحيد من قرية " الشيخ شمعون " أقطن في مغارة " بعدما آلت إلي المغارة بعد أن صعدت روح والدي إلى السماء ، وكنت عندها فتى يافعاً استنشق الذكريات العطرة عن البيت الذي شهد صرخة حياتي الأولى " ص 8 . ويصف وحيد قريته بأنها " غافية على أرض البراكين اللاهية عن حمم الغضب ، ولكنها ظلت شامخة على أديم الجبل المجبول بدم الضحايا وعرق المجاهدين، وكان البيت مشيداً فوق أكتاف المغارة كمنارة لتحديد الدروب " ص 9. . كان الرجل الكهل " مسلوب " ينصحه بألّا يفرط بالمغارة مهما اشتدّ عليه الفقر خلال دراسته الجامعية التي مرّت عليه سنواتها بألوان شتى من الضنك والحاجة، ويحدثه دائما عن الخرافات والمعتقدات السائدة، ولكن راضي ابن المختار قطع على مسلوب حديثه وأخذ يحدث وحيد عن وقائع الثورة السورية الكبرى ضد الاستعمار الفرنسي، وأمجاد معارك الكفر والمزرعة ونشوة الباشا بهذا الانتصار، كما قرأها في مذكرات والده . " مسلوب " يضمر شيئاً ما في نفسه تجاه المغارة ووحيد، إلى أن جاء اليوم الذي كشف فيه عن قصة المغارة وما قال له المغاربة العارفون بالآثار أن المغارة تحتوي على تمثال وإشارة تدل على كنوز، وهذا التمثال يقع في أقصى المغارة من الداخل، وهنا تبدأ رحلة الخوف عند وحيد، ما بين مصدق ومنكر وخائف، وعاش أياما وهو يفكر بهلع وفزع كيف يستطيع أن يكتشف هذا التمثال في سراديب المغارة الممتدة طويلا إلى الداخل، وهل سيصبح " مسلوب " شريكاً له في الثراء إذا ما اكتشفا رأس التمثال وما يخفي حوله من آثار. " وحيد " يصحو من شروده، يسافر إلى المدينة ليتابع دراسته، يجد غرفة مناسبة له، ويتعلق قلبه بحب بريء بياسمين ابنة صاحبة البيت الذي استأجره، والتي قال عنها " ياسمين التي كانت بحق ، بوجهها الأبيض وثيابها الخضراء وقدها الفارع ، سحرني جمالها الشامي وجذبني صوتها الرقيق وعيناها اللوزيتان ، تجاوبت مشاعرها مع مشاعري ، وارتعشت أوتار قلوبنا من النظرة الأولى . " . وتمر الشهور ويرجع وحيد للقرية، ويراه مسلوب ويكرر عليه موضوع المغارة وبقوة، يقول له : " المهم يا وحيد سترى رسماً منحوتاً يمثل أفعى، ورأسها يشير إلى مكان محدد، دقق جيداً في مكان الإشارة، ابحث كثيراُ تحت الصخور المتلاصقة، لأنك سوف تجد شيئاً ما، هكذا قال لي المغاربة هم متأكدون من كل شيء ..
• وماذا سأجد يا مسلوب غير الزبل والحجارة ؟
• ستجد ثروة يا بني آدم ، وإذا لم تجد شيئاً فرأس التمثال وحده يكفي لي ولك ويصبح الفقر من ماضينا .. " .
وحيد خاف من هذه الخطوة، وتظاهر أمام مسلوب أنه لم يعر الأمر اهتماماً، وعندما ألح عليه حاول طرده من منزله، ولكن الأخر انصرف بسرعة عجيبة وصفق الباب خلفه . ولكن روح المغامرة والاكتشاف لم تفارق مخيلة وحيد بعد تكرار مسلوب الحديث عن المغارة إلى أن قرر ذات مساء أن ببدأ رحلة الكشف فإذ بها رحلة خوف مرعبة ومفزعة : " عندما توغلت أكثر، شعرت بمخلوقات غريبة تلتف حولي ، تارة تدنو مني وتارة تبتعد ثم تختفي في ظل أحد النتوءات، ثم رأيت أفعى مرقطة تنسل أمامي، لم أدر أهي حقيقة أم خيال، وبدأت أشم رائحة الوحوش القابعة في إحدى الزوايا وأسمع أصوات مخلوقات عجيبة .." . وفي هذه الأجواء المرعبة والمخيفة ، بين التخيلات والواقع، بين الفقر وحلم الغنى، وبين عدة محاولات استطاع وحيد الوصول أخيرا ليرى :" رأس التمثال الرائع وأجنحته، حدقت به بشدة، أدهشني بروعة تصميمه الهندسي المتناظر ، اقتربت منه أكثر، ووضعت يدي الطليقة على جوانبه، فأحسست بملمسه الناعم المشغول بأحاسيس وعناية فنانين عظام .. " .
وقف وحيد أمام التمثال مندهشا وصامتا، خائفا وشجاعا، متسائلا ومجيبا، وإذ بالتمثال بعد صمت ينطق ويبدأ حواره مع وحيد، فاستبد الخوف به، ثم تجاسر وبدأ مع التمثال حواراً مهما حول الإنسان وغرائزه وجشعه وطمعه وشروره وحقده وابتعاده عن الحب الذي خلق لينقذ البشرية، كل هذه الأمور أثارها " كيوبيد " إله الحب وكم بدا ساخطا على بني البشر، واستمر السجال إلى أن لفت هيولى غائمة التمثال واختفى، ووحيد خرج متثاقلا ضيق النفس إلى أن استعاد وعيه .
غادر وحيد قريته إلى العاصمة ، ورغم الفقر جد واجتهد ونجح ، وسافر لإتمام دراسته في ايطاليا، ورجع الى بلده سورية ليعمل في المدينة باختصاصه، وبعد العديد من السنوات عاد للقرية وقد تغير الكثير من معالمها، ليجد رسالة قديمة مرسلة له على بريد القرية من ياسمين تخبره عن رحلة عذابها بزواجها من زوجها السيء، وليجد مسلوب وقد مات ميتة بشعة، وأخبروه عن وفاة المختار الطيب بميتة تليق به ، وتوالت عليه أخبار القرية وكيف لاحقت الشرطة عصابة المهربين للآثار، ولكنه بعد أيام أثر الرجوع للمدينة، والاطمئنان على ياسمين والتي وجدها على أسوء حالة من المرض، وكتب له أن يحضر الوفاة مغتما حزينا ..
ودارت الأيام ليجد وحيد نفسه بعد التقاعد يطوف مع بعثة سياحية الى البلد التي نهل من علمها " إيطاليا " فوصلها غروب الشمس، وفي اليوم التالي شاء القدر أن :" يسوقني إلى أحد المتاحف العريقة ، ويمنحني فرصة لكي أتأمل التاريخ بحيثياته الدقيقة، وعند البهو الفسيح كان سهم من سهام " إله الحب " يشير إلى طريق إليه، تبعته بسرور، ما زلت أتقدم وأنا اتخذ من نبال الإله سمتا لدربي إليه، ولكن تباشير الأمل لاحت أخيراً، عندما رأيته متربعا في صدر المعبد يملأ حناياه وقاراً وقدسية، بدا التمثال شامخا ومسيجا بصمت حزين، وكانت المفاجأة الصاعقة عند يقيني من أنني أقف أمام نفس رأس تمثال المغارة وجها لوجه ، فزلّ لساني صارخاً بعفوية ، إنه هو .. يا الله .. " . ص١٢٥ .
وبعد الانتهاء من قراءة الرواية نجد أن الروائي أيمن قرقوط اعتمد في سرد أحداث الرواية على الراوي " وحيد " الشخصية المحورية في الرواية، وابتعد عنه تاركاً له حرية التحدث سرداً وحواراً حتى ليظن القارىء أن الراوي تقمص شخصية الروائي وما انفكا عن بعضهما طيلة أحداث الرواية، وقد وجدنا شخصيات أخرى تتراوح مفاهيمها وسلوكها بين الخير كالمختار وراضي ابنه والشيخ صبر الدين، والشر كمسلوب وسارقي الآثار وأخرى تأخذنا دلالاتها إلى البؤس والحزن وفقدان الأمل في الحياة، ولم تجنح شخصيات الرواية إلى أي فعل فرح سوى عرس ابن المختار الذي كان الفرح فيه لدى الرواي آنياً، لأن مسلوب حرمه من سهرة العرس مع الشباب وهو يحدثه عن المغارة وأسرارها وموجوداتها.
وقدم لنا الرواي من خلال روايته الحبكة التقليدية حيث عرض لنا الأحداث من بدايتها إلى نهايتها مرتبة ترتيباً زمنيا تصاعديا منذ نعومة أظافر وحيد إلى أن أنهى دراسته وحياته الوظيفية وأحيل إلى التقاعد وقيامه برحلة إلى روما البلد التي درس فيها، باستناءات قليلة حين دخل إلى تقنية الاسترجاع من خلال مذكرات والده عن الثورة السورية الكبرى وجليل معاركها وانتصاراتها ، وحين يستعرض إخفاقاته من موت ياسمين وسرقة التمثال – إله الحب كيوبيد – وعدم زواجه لأسباب عدة، قرر الرجوع إلى مسقط رأسه قرية الشيخ شمعون حزينا يا ئساُ، ليعيش فيها بقية عمره، وبهذا يكون الفضاء الزماني بلغة المصطلحات النقدية محصوراً بعمر وحيد الزمني، دون أي خرق أو استذكاراً أو استشرافا.
وأبضا لم يكن الفضاء المكاني متخيلاً أو افتراضياً، بل كان واقعاً عاشه وحيد من قريته إلى دمشق إلى ايطاليا، ورجوعا إلى هذه الأماكن الثلاثة أكثر من مرة دون تجاوزها، إلى أنه كان قادراً على منحنا رؤية تخييلية عالية لهذه الأماكن من خلال قدرته على الوصف الجميل والمتقن، كوصفه لروما حين وصوله إليها :
" بدت الطبيعة كمشاهد خلابة للرسم والتصوير، وواحة للشعر والموسيقا، ومسرحا للرقص والغناء، طبيعة ساحرة ، يلزم المرء لوصفها إلى سيل من المداد، فخصوبتها للنبات كما للخيال، إنها الغادة الغناء الني أتاحت النبوغ لدافنشي والعبقرية لفرجيل والسطوع لفيردي والموهبة لباغانيني " . ص ٩٥ .
وكثيراً ما ظهرت اللغة لديه جميلة شفيفة راقية، يغلفها أحيانا لبوس شاعري لطيف لا يثقلها، ولا يعرقل دورها في السرد الروائي، لتضيف إلى قراءتك متعة أخرى تضفي على الرواية عطر الكلمات وحفيف المفردات المتمايلة في غابة الأحداث، ونمرر هذه الشواهد للبرهان :
" وبدت رطوبة التعرق تحت إبطيه تمتد كزبد البحر على رمال الشاطىء " و " عدت من وحشة المكان محزوناً، شريداً كطيور الربوة، معكراً كمياه بردى، مشتتاُ كأعشاب الصحراء " و " رؤية الأواني النحاسية على شفاه الجمر " .
الرواية تقع تصنيفاً مع الروايات الاجتماعية التي تصف لنا العادات والتقاليد في مجتمع ما زال يؤمن ببعض الخرافات كاقتراب يوم القيامة وتحديد موعده ، وتمتزج قليلا بالأحداث التاريخية المسترجعة، وتتعالى فيها القيمة الوطنية على ما عداها من القيم حين رفض وحيد المس بالتمثال إله الحب " كيوبيد " أو خلعه من مكانه والاتجار به، معتبراً إياه تراثاً وطنياً، إلّا أن الخيبة الكبرى عندما رأى تجار الوطن وسالبو ثرواته قد سرقوه وانتزعوه من مكانه ، وقطعوا يديه وباعوه لخارج الحدود، ليغتدرنا إلى متاحف روما، وهذا ما دلت عليه الرواية بمواضع كثيرة، وهو أننا حين نفتقد الحب فلابد للكره والضغينة أن يجدا طريقهما إلى نفوس الأشخاص المرضى، فيزداد بلاء المجتمع، ويكثر حجم الشقاء، فتزدحم الخيبات والإخفاقات بسبب هذه العلل الاجتماعية التي تهدم أعمدة الوطن ككل، ليعود وحيد خائباً حزيناً إلى بلدته .
الأديب والروائي أيمن قرقوط كنت موفقاً بموضوعة روايتك " كوبيد بلا أجنحة " متمنياً المزيد من العطاء والإبداع .