78
0
كتاب الشيخ محمد الغزالي: الموقع الفكري والمعارك الفكرية
تأليف المفكر الدكتور محمد عمارة

الدكتور ابراهيم نويري : كاتب و باحث جامعي
حينما يكتب الكبار،أو العظماء عن بعضهم،فإنه يبقى لنا نحن مجال أو حيز للإعجاب و الاقتداء بهذا المسلك، أو السلوك الحضاري المتقدم النبيل ،كما أن هذا المسلك يعتبر خطوة إضافية جاذبة للقارئ و المهتم بحياة و سير عظماء الرجال وأعلام الفكر والبلاغ .. إن قوة الإشعاع الجاذب –حينئذ-تكون مضاعفة فهي إشعاعان،إشعاع المكتوب عنه وإشعاع الكاتب على سواء!
غمرني هذا الشعور حين تلقيت هذا الكتاب –إهداءً-من مؤلفه،المفكر الإسلامي الكبير الدكتور "محمـد عمارة" رحمه الله-و لمّا كنت أكره الأنانية خاصة في ميدان المعرفة-أحببت أن أشرك القارئ الكريم هذه المشاعر الفياضة،و أن يتحسس معي و يتذوق معاني الصدق و الوفاء و الحب،بين علَمَيْن من أعلام نهضتنا الفكرية المعاصرة،كما أنني قصدت تقديم نموذج آخر و رؤية أخرى،من نماذج و رؤى التجديد و التنوير المطروحة في ساحاتنا الثقافية و الفكرية والدعوية
صدر هذا الكتاب عن الهيئة العامة للكتاب بالقاهرة،و تتوزع أفكاره على مدى(119 صفحة)،وقد أهدى المؤلف كتابه، على غير العادة، للشخصية موضع الدراسة قائلا:"يقول رسول الله (صلى الله عليــه وسلم) فيما يرويه الطبراني :((يحمل هذا العلم من كلّ خلف عدوله ينفون عنه تحريف الضالين و انتحــال المبطلين))…وهذه الصفحات،التي يحملها هذا الكتاب،هي شهادة أتقدم بها إلى إمام من أئمة العلم الإسلامي،و عدل من عدوله،في هذا العصر الذي نعيش فيه.فإلى عالمنا الفاضل،الشيخ محمد الغزالي وشيخنا الجليل أهدي هذه الصفحات راجيا المولى سبحانه و تعالـى أن يبارك لنا في صحته و عمره و عطائه،وأن ينفع به أمة الإسلام و الإنسانية جمعاء".
ولعل الأمر الذي يشد الانتباه بقوة،أن المفكر الكبير الدكتور محمد عمارة وهو الكاتب المكثار،و المؤلـف الفذ ،و الذي كتب عن أعلام بارزين كالشيخ محمد عبده،و جمال الدين الأفغاني، وعلي المبارك،و عبد الرحمان الكواكبي، وقاسم أمين ،ورفاعة الطهطاوي.. ومؤلفاته باختصار تعادل أوتزيد على مؤلفات الشيخ الغزالي،ومع ذلك فإنه –كما يشير-يتهيّب من الكتابة عن عَلَم متوقّل في الشرف والمجد كالشيخ الغزالي،يقول:"تهيبت-و أنا الذي كتبت العديد من الكتب و الدراسات عن العديد من أعلام الإسلام-أن أكتب هذه الدراسات الموجزة عن داعية الإســلام وخادمه الشيخ محمد الغزالي؟..
وسر هذا التهيّب، هو نفوري من الكتابة عن الأحياء في زمن عزّت فيه الموضوعية في الكتابة عن الأحياء؟؟وأيضا فإن محبتي للرجل،و من ثم خشيتي أن أكتب من موقع "المحب"فأنظر بعين الرضا إلى القضايا التي أقدمها إلى القراء؟..لكنني غالبت هذا التهيب بعد أن اطمأنت نفسي إلى انتفاء المحذورات التي خشيتها و أخشاهـا على "الموضوعية"فيما أنا بسبيلي إليه …ثم ما الذي يمنع أن أكتب عن الرجل من موقع"المودة-الصادقـة"و "المحبة-البصيرة"..الموقع الوحيد الطبيعي و اللائق بعلاقة مثلي بمثله؟؟..
وأخيرا..فلو تحرّجت و تحرّج أمثالي من الكتابة عن مثل الشيخ الغزالي،لانفرد بهذه الساحة منافقون كثيرون يسّودون الصفحات الكثيرة التي تشد العقل إلى القاع بما تزيّفه عن أعلامنا الأحياء؟..أو أهل العي والسطحية، الذين لا يعرفون مغزى حياة الأعلام؟.."
المشــروع الفكـــري:
بعد أن تعرض الدكتور عمارة لأهم المحطات في حياة الشيخ الغزالي مسلطا عليها الأضواء،لم يفته أن يحدد موقعه إزاء هذا الطود الشامخ الذي يدرس بعض جوانب حياته و فكره،لذا فهو يقول في تواضع يكاد حظ النفس،أو حب الذات،أن يختفي فيه و يتلاشى:"لقد تخرج الشيخ الغزالي –المولود سنة 1917م-من كلـية أصول الدين جامعة الأزهر سنة1941م..فهو مني بمنزلة الأستاذ من التلميذ،فلقد دخلت الأزهر ملتحـقا بمعهد دسوق سنة 1945م،و كان الشيخ الغزالي حينئذ شيخا و أستاذا و داعية و كاتبا في صحافة الإخوان المسلمين..و مع ذلك فأنا لم أبدأ التعرف المنظم على فكر الشيخ الغزالي،و المتابعة المنهجية لمشروعه الفكري إلا منذ سنوات قريبة جدا..أما عهدي بلقائه ،و تعرفي على مجلسه و حضوره فإنه لم يبلغ بعد ست سنوات؟.. و لقد أدركت –و أنا الذي سبق و درست الآثار الفكرية لأكثر من ثلاثين من أعلام الفكرالإسلامـي،وكتبت عنهم الكتب و الدراسات –أدركت أنني ،حيال الشيخ الغزالي ،لست بإزاء مجرد داعية متميز،أو عالم من جيل الأساتذة العظام ،أو مؤلف غزير الإنتاج ،أومفكر متعدد الاهتمامات ،أو واحد من العاملين على تجديد فكر الإسلام لتتجدد به حياة المسلمين..أدركت أنني بإزاء جميع ذلك ،و أكثر منه وأهم ..فالرجل صاحـب رسالة،جعل من حياته –ومن ثمراتها:فكره و قلمه-مشروعا فكريا متكاملا،هو عطاء مواهبه الفذة،الذي قدمه في ميدان تجديد الإسلام وإنهاض المسلمين".
إن المؤلف يسوق الأدلة المعضدة و الداعمة لرأيه،في كون مؤلفات الشيخ الغزالي إنما تمثل نسقا واحدا متكاملا،أي "مشروعا فكريا"مميز القسمات و الملامح في إطار الفكر الإسلامي المعاصر.ذلك أن هذه المؤلفات ،تمكنت من التوغل الإيجابي في أعماق الذات الإسلامية،كما أنها أحسنت تصوير آلام و آمال هذه الذات في أبعادها الإنسانية والحضارية على صعيد الواقع و آفاق المستقبل على السواء.
الموقــع الفكـــري:
إن إقرار هذا الرأي –و إن كان يستند حقا إلى أدلة-ينبغي أن يبحث له عن جذوره التاريخية التي تمثل بالنسبة له الإطار المرجعي ،و من أجل ذلك فإن الدكتور عمارة يحاول-في هذا الفصل من كتابه-عن طريق تقصي تراث الفكر الإسلامي ،أن يضع الشيخ الغزالي في موقعه الطبيعي-إستنادا لمنطلقات فكره و منهجه-ضمن مدرسة فكرية معينة من مدارس الفكر الإسلامي، و المدرسة الفكرية –في نظره –هي عنوان على إطار مرن ،يضم العديد من العلماء و المفكرين و الأعلام ،الذين تجمعهم "أصول" يتفقون فيها و منطلقات ينطلقون منها ،و غايات يرومون تحقيقها،و ذلك دون أن يكونوا "متماثلين" ..فهم "يتشابهون "في المناهج ،و"يتمايزون " في ترتيب أولويات القضايا و المهام،وفي درجات التركيز على بعض ميادين الإصلاح والدراسة،وفي المـزاج.. والأسلوب..ومستوى الخطاب..ونوع الجمهور..إلخ.. والدكتور عمارة يرى بأنّ تحديد الموقع الفكري للشيخ الغزالي أمر ميسور،وسبب هذا اليسر هو الاستقراء الواعي لمضمون مشروعه الفكري،وممارساته الحياتيـة.. وكتاباته أقصر طريق لهذا التحديد,فهو قد عرض لمختلف المدارس الفكرية في حضارتنا الإسلامية، كمدرسة"الأثر"ومدرسة"الرأي" ومدرسة"الموازنة بين الأثر والرأي"،ومدرسة"النهضة" التي يمثلها محمد عبده ورشيد رضا ومحمد عبد الله دراز ومحمد أبو زهرة،ومدرسة"الاختيار الشخصي والتنسيق بين مختلف وجهات النظر"..وهو بعد ذلك يصارح بأنه ينتمي إلى مدرسة الإمام"حسن البنا" وهذه المدرسة تعتبر امتدادا واعيـا لمدرسة "محمد عبده"و "رشيد رضا "..أي مدرسة الجامعة الإسلامية..أو مدرسة الإحياء والتجديد الحديثة لفكر الإسلام ومرجعيته الحضارية.
يقول الدكتور محمد عمارة:"ونحن نقول إن شيخنا الغزالي هو واحد من علماء هذه المدرسة،وأن موقعـه الفكري هو في الإطار الذي يجمع أعلام هذا التيار فالرجل يكاد أن يحتضن كل تراث الإسلام،وأن يستدعي من ثمرات إبداع المدارس الفكرية المختلفة كلّ اللبنات الصالحة للعطاء في مواجهة ما نواجه من تحديات..فموقعه إذن في إطار مدرسة الإحياء والتجديد،وخاصة فصيلها الذي انتقل بإسلامية المعرفة والحياة من إطار"الصفوة"-كما كان الحال على عهد الشيخ محمد عبده-إلى إطار"الأمة وجماهيرها"-وهي المرحلة التي بدأت بالشيخ حسن البنا إمامه رحمه الله.على أننا نظلم الشيخ الغزالي إذا لم ننبه على تميزه في الفصيل الذي كان حسن البنا إمامه في مدرسة الجامعة الإسلامية..فلقد كان متميزا منذ بدأ مشروعه الفكري سنة 1947 بكتابه الأول(الإسـلام والأوضاع الاقتصادية)..ثم إن الرجل قد امتدت به التجربة،وامتد به الجهاد بعد استشهاد حسن البنا..فواجه ما لم يواجه هذا الفصيل ،في النصف الأول من هذا القرن..ومن ثم فلقد أبدع الجديد الذي أضافه إلى رؤية هذا الفصيل".
والواقع أن المؤلف لا ينطلق هنا ، في هذا الرأي من فراغ ،أو من مجرد العاطفة أو الرغبة في الاسترسال في الكلام وإطلاقه على عواهنه ,إن نظرة واعية في مضامين كتب الشيخ الغزالي الأخيرة،أو الجديدة نسبيا،لا سيـما كتاب:"دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين "..تثبت ذلك و تؤكده.
و عليه فإن فضيلة الشيخ الغزالي ليس فقط رمزا من رموز التجديد و الإحياء في الفكر الإسلامـي المعاصر،و إنما هو أيضا إلى جانب ذلك ،من القلائل ،ممن آلوا على أنفسهم القيام بواجب تطوير مواريث المدرسة التي ينتسب إليها من الناحية الفكرية و الاجتهادية،وهي ضميمة أخرى تضاف إلى رصيده لتؤكد جدارته بهذا الموقع و بهذا التميز.
المعـــارك الفكــرية:
القارئ المتتبع لكتابات الشيخ الغزالي ،يلحظ في غير عسر كبير أنها كتابات يغلب عليها عنصر المحاورة ،أو الدخول المباشر في مهاجمة الخصم،و لكن بالقدر الذي يعود بالنفع على الإسلام و الدعوة ،وهو في شــتى المساجلات أو المعارك الفكرية يعترض أهم التحديات و المخاطر التي واجهت و تواجه طموح الأمة الإسلامية في النهوض و التقدم و الانعتاق،ويروم إلى تحقيق حاجة الفكر الإسلامي إلى التجديد ،كي يكون قادرا علـى الوفاء بمتطلبات هذا التقدم المنشود بالنسبة لجميع المسلمين.
ويعترف المؤلف بأنه ليس بالإمكان ـــــ في هذا الكتاب الصغير المقتضب ـــ استقصاء كل المعارك الفكرية التي تجسدت في مشروع الشيخ الغزالي الفكري،فهذا الأمر كما يقول جدير بأن تفرد له رسالة دكتوراة.
وعليه فإنه يقترح الحديث عن المجالين الآتيين وكلاهما من نماذج معارك الشيخ الغزالي الفكرية:
1_أولى المعارك الفكرية ضد الظلم الاجتماعي :
يستغرب الكثير من المثقفين ،خاصة العلمانيين ذوي المرجعية الفكرية التغريبية ،أن تكون أولى معارك هذا الشيخ الأزهري،الذي لم يدرس الاقتصاد ولم يتفقه في النظريات الغربية(!)أن يستفتح مسار حياته العلميـة،بمواجهة المظالم الاجتماعية و الاستبداد المالي ،فقد جاءت كتبه الأولى كلها في هذا الإطار،مثل(الإســـلام و الأوضاع الاقتصادية) و (الإسلام و المناهج الاشتراكية)و(الإسلام في وجه الزحف الأحمر)و(الإسلام المفترى عليه بين الشيوعيين و الرأسماليين)و(الإسلام و الاستبداد السياسي)..وليس من شك- على رأي المؤلف-أن هذا الاستغراب أو التعجب من قبل هؤلاء العلمانيين و بعض المثقفين (!)إنما يثير قضية "الجهل والتجاهـل"العلماني لإسهام الإسلام و الإسلاميين المعاصرين في ميدان الفكر الاجتماعي ..فهل يعرف هؤلاء أن"حسن البنا" وحركته أول من طالب بتحديد ملكية الأراضي الزراعية ،و نزع الأملاك عن الحد الأقصى من كبار الملاك،وتوزيعـها - هي و أملاك الحكومة- على الفقراء و المعدمين من الفلاحين؟..ويُــرجع الدكتور عمارة بدءَ الشيخ الغزالي لسلسلة معاركه الفكرية بهذه المعركة،إلى خاصيتين رئيستين:
أ- فهو رغم روح الأديب في ثقافته و أسلوبه ،وطبيعة الفنان في نظرته إلى الأشياء ،قد امتلك الخبرة الذاتية العميقة بالأبعاد اللاإنسانية الرهيبة لمأساة الظلم الاجتماعي التي كانت تمسك بخناق الفلاح المصري –و فيه يتمثل جمهور الأمة –عندما نشأ في القرية المصرية "نكلا العنب" مركز إيتاي البارود ،كابن فقير،لأسـرة فقيرة تعيش في محيط الفقراء..
ب- امتلاكه الرؤية الإسلامية التي مثلت و تمثل عدل الله في ميزان القسطاس المستقيم الذي شرعه سبيلا للخلاص من الظلم ،بكل ألوانه في أي زمان و مكان..و لذلك رأينا هذا" الداعية " و الأديـب –الفنان"الذي يحترف" الوعظ " والإرشاد في مساجد وزارة الأوقاف ،يتوكل على الله ،ويبدأ معاركه الفكرية بمنازلة الاستبداد المالي والظلم الاجتماعي..أخطر أعداء الإنسان !
ويرى المؤلف بأن الشيخ الغزالي ممن يؤمنون عن بصيرة وفهم بأن صلاح أمر الدين مؤسس على صلاح أمور الدنيا-وليس العكس-مستشهدا بقوله في كتاب (الإسلام والأوضاع الاقتصادية):"لقد رأيت بعد تجارب عدة،أنني لا أستطيع أن أجد بين الطبقات البائسة،الجو الملائم لغرس العقائد العظيمة،والأعمال الصالحة ،والأخلاق الفاضلة!..إنه من العسير جدا أن تملأ قلب إنسان بالهدى،إذا كانت معدته خالية،أو أن تكسوه بلباس التقوى،إذا كان جسده عاريا!..إنه يجب أن يؤمّن على ضروراته التي تقيم أوده كإنسان،ثم ينتظر بعد ذلك أن تستمسك في نفسـه مبادئ الإيمان..فلا بد من التمهيد الاقتصادي الواسع،والإصلاح العمراني الشامل،إذا كنا مخلصين حقا فـي محاربة الرذائل والمعاصي والجرائم باسم الدين،أو راغبين حقا في هداية الناس لرب العالمين..".
لذا فنحن لا نتعجب إذا رأينا الشيخ الغزالي يرفض الزيف ويقول:"إن نظرتي واقعية اقتصادية للأشياء لا أثر فيها للخيال"..وذلك لأنه يحارب زيف الفكر الذي يتوهم أصحابه إمكانية إصلاح أحوال الناس بالمواعظ والأفكار دون تغيير الواقع المادي والاجتماعي،الذي يلعب دوره البارز في فتح العقول والقلوب كي تتقبـل المواعظ والأفكار..وهكذا فإن شعوب الشرق الاسلامي-برأي الشيخ الغزالي-تحتاج قبل أن تفهم الإسلام، وقبل أن ينتظر منها إعزاز الإسلام،إلى جهود جبارة لرفع مستواها المادي والأدبي،أي إلى تصحيح إنسانيتـها أولا..أما جهود المصلحين-قبل اتخاذ هذه الخطوة-فهي أمواج من الماء تتدفق على صحراء الرمال..فهيهات أن يكون لها ثمر؛ذلك أن للرذائل التي يحاربها الدين أسبابا اقتصادية،لا بد من معالجتها إذا شئنا إقامة الدين الحق في هذه الحياة..
والشيخ الغزالي يدافع بحرارة عن إسلامية هذا المنهج في إصلاح أدواء الناس والمجتمعات المسلمة،نافيا الوهم الذي يحسب أصحابه أن إعطاء العنصر،أو العامل الاقتصادي والاجتماعي حقه في العملية الإصلاحية،إنما هو خصيصة من خصائص المنهج المادي الشيوعي،فالإسلام دين واقعي يوازن بين أشواق الروح ومقتضيات المادة والضرورة الإنسانية,فالفاقة أو الاضطراب الاقتصادي يكون في أحوال كثيرة جدا السبب الأوحد في نشوء الرذيلـة وانتشارها؛والحديث النبوي"إن المدين قد تلجئه قلة الوفاء إلى الكذب"يؤكد هذا الفهم ويدعمه،ويضع أيدينا على طرف الحقيقة،بعيدا عن أي غموض أو ريبة.
2 -أحدث المعارك الفكرية:ضد النصوصية الحرفية:
ربما كانت آخر المساجلات العلمية،والمعارك الفكرية التي خاضها الشيخ الغزالي ،تلك الزوبعة المدويّة التي أثارهــا كتابه ذائع الصيت : "السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث"؛وإنه لمن المؤسف حقا،أن يعتقد بعض علمائنا ومثقفينا بأن هذا الكتاب إنما هو ضد السنة النبوية وضد المحدثين؟!!والحقيقة المؤكدة أن الشيخ الغزالي داعية إلى حب السنة حبا واعيـا على النحو الذي يجعلها-كما أراد الله-بيانا للقرآن الكريم؛وهو في ذلك يروم تحقيق التكامل بين فقه الفقيـه ورواية المحدث،بين الدراية والرواية،لتنتفي ولتزول من ساحتنا الفكرية أسباب الشذوذ،التي جعلت البعض ينكر السنة جملة ويتنكر لها ويرد كل مصادرها، وجعلت آخرين يمارسون تقديم روايات آحاد ومرويات معلولة على النص القرآني المحكم،الذي تعهد الله بحفظه.
فهو إذن صاحب رؤية في الموضوع لها وزنها العلمي،وليس هذا بغريب-في الواقع-على الفكر الإسلامي،فقد عرف هذا الفكر في"مدرسة الرأي"التي نظر فقهاؤها إلى الظروف والملابسات التي أحاطت بــــ"الأثر"-أي النص والحديث منه بوجه خاص-ففسروا الحديث على ضوء هذه الملابسات،وفي إطار الآيات القرآنيـة المحكمة؛وجعلوا الآية القرآنية المحكمة حاكمة على الحديث ومحددة لمعناه.فكيف يساء الظن بهذا المنهج المعروف في تاريخنا العلمي؟! ويساء الظن أيضا بمن هو في تعامله الاجتهادي يعمل على ضوء هذا المنهج ؟حتى وإن كانت أعماله وحياته وجهاده العلمي مناقضة لهذا الظن!!
يقول الشيخ الغزالي:"تواجه السنة النبوية هجوما شديدا في هذه الأيام،وهو هجوم خال من العلم ومـن الإنصاف.وقد تألفت بعض جماعات شاذة تدعي الاكتفاء بالقرآن وحده.و لو تم لهذه الجماعات ما تريد لأضاعت القرآن و السنة جميعا، فإن القضاء على السنة ذريعة للقضاء على الدين كله".
وعن الفريق الآخر يقول:"..على أننا نعتب على جماعات كثيرة تنتسب للسنة،وتظهر التمسك بها؛فــإن مسلكها قد يكون وراء انصراف بعض الناس عن السنن،وشكهم في جدواها..ونأخذ على هذه الجماعات أمرين:
ـ أولهما أنها تخلط الصحيح بالسقيم،ولا تدري بدقة ما يقبل ويرد من المرويات.وثانيهما قصورهم الفقهي،فليست لهم قدم راسخة في فقه الكتاب الكريم!-مع أنه الأصل-وهل السنة إلا امتداد لسنا القرآن،وتفسير لمعناه،وتحقيق لأهدافه ووصاياه؟..كما أنهم يأخذون الأحاديث مقطوعة عــن ملابساتها،ولا يضمون إليها ما ورد في موضوعها من مرويات أخرى قد تؤيدها وقد تردها".
والدكتور عمارة-يرى-ويؤيد-بأن المنهج الذي ارتضاه الشيخ في دراسة السنة النبوية،وفي الاحتجاج بها..هو منهج الجمع بين القرآن والسنة ومحاكمة مرويات"البيان"إلى آيات "البلاغ"..والجمع-في عقل العالم ومنهجه-بين "الدراية"و"الرواية"..ذلك أن الاكتفاء بصحة السند –أي الرواية-قد يجعلنا نقبل المرويــات المكذوبة التي أسندها الوضاعون والكذبة إلى رواة ثقاة وعدول؛وهاهو الإمام أحمد بن حنبل-إمام المحدثين-يقول عن الراوي"أبو فضالة فرج بن فضالة الشامي":"لقد حدّث عن يحي بن سعيد مناكير،وحدث عن ثقات أحاديث مناكير" !![انظر ابن حجر العسقلاني"تهذيب التهذيب"ج 8ص260وما بعدها].. فالركون إلى"الرواية"دون "الدراية"،وعزل القرآن الكريم،وهو الأصل،عن السنة النبوية،التي هي بيانه المفسر؛إنما يقود إلى كم من التناقضات والمفارقات،ويفضي إلى العديد من الثغرات التي يستند إليها أولئك الذين ابتدعوا ويبتدعون دعوى إنكار كل السنة،اكتفاء بالقرآن!!
وهكذا فإن معركة الشيخ الغزالي في هذا المجال،هي في حقيقتها،دفاع عن السنة النبوية المطهرة،في مواجهة طرفي الغلـو فيها..المنكرين لكلّ مروياتها بإطلاق..والمتعصبين لكلّ مروياتها بإطلاق!!
ونحن نعجب من ذاك السيل المتدفق من الكتب والمقالات والخطب والندوات،التي تصدت لرؤية الشيخ الغزالي التي ضمنها كتابه الفذ"السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث".. أقول الفذ لأنّ للشيخ الغزالي كتباً غريبة عجيبة في بابها، فتح بها أبواباً كانت موصدة في أفق الفكر الإسلامي المعاصر، منها الكتاب المذكور، و كتاب " دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين" و كتاب" مستقبل الإسلام خارج أرضه كيف نفكر فيه " وكتاب" التعصب و التسامح بين المسيحية والإسلام " وغيرها ..ومهما يكن من أمر فإن هذه المعركـة ستظل معلما آخر من معالم مشروع الشيخ الغزالي الفكري،الذي استهدف به إيقاظ الأمة،وتجديد فكرها وإحيائها بالإسلام لتواجه التحديات المفروضة عليها،وتتخطى حواجز التخلف والاستــلاب الفكري والحضاري؛ وإن الحقيقة المجردة لتفرض علينا الإقرار بأن هذا الفكر هو الذي تحتاجه أمتنا اليوم لإعادة بناء حاضرها،وتأسيس وتأمين مستقبلها.أما الفكر الخامل،الذي تكتنفه الخرافة،ويسوده الغموض والتناقض والاضطراب،فحري بنا جميعا إطراحه،لنحققانعتاقنا،ونضمن انطلاقنا في الاتجاه الصحيح.
النقد الذاتي..أو الرجل الأواب
في هذا الفصل الأخير من الكتاب يتحدث الدكتور محمد عمارة عن ميزة أخرى شخصية يمتاز بها الشيــخ الغزالي،ويتحلى بها في أخلاقه ومعاملاته وواقعه،هذه الصفة هي العودة إلى الحق إذا ما تبين،وممارسة نقد الذات كأسلوب مستمر في تربية الضمير؛وهذه القيمة الخلقية الرفيعة-عند النظر-كانت سببا في وجود الكثير مـن الصفحات المشرقة في تاريخ أمتنا.
وعن هذه المسألة يقول المؤلف:"أما شيخنا محمد الغزالي..فأنا أشهد أنه واحد من الأوابين في علماء العصر الذي نعيش فيه؛إن الرجل لا يفتأ يردد-كلما جاء الحديث عن معاركه الفكرية-وبصدد نقده للذات:"إنني رجل فيَّ حدة!.."وهو يدعو الآخرين إلى تجاوز"الأسلوب"إلى لب الموضوع"..ثم إن تاريخ الرجل-وهو ملئ بالمعـارك الفكرية- بل هو معركة فكرية متعددة الحلقات!-حافل بمراجعته لفكره،وتطويره لمواقعه،وضبطه لأحكامه،ومحاسبته لنفسه،وإعلانه-في شجاعة عظماء العلماء الأوبة إلى الحق والصواب،إذا هو تبين غير ذلك فيما خط قلمه أو نطق لسانه من آراء..وتلك لعمري!واحدة من خصائص الفكر الحي للأحياء من العلماء.. فالذين لا يراجعون أفكارهم إما أن يكونوا أمواتا،أو هم كالأموات!..".
وفي هذا السياق من الكتاب يذكر المؤلف عدة أحداث وآراء ومواقف..كلها تثبت صفة الأوبة إلى الحق في سلوك الشيخ الغزالي،و مراجعته لمواقفه ونقده لذاته كلما استدعت الموضوعية ذلك.
وهذا المسلك ثقيل على النفس،لذا فهو نادر في البشر،ولا يلتزم به في واقعه إلا الممتازون والعظماء مـن الناس؛ومن الأمثلة التي يسوقها المؤلف في هذا المقام مراجعة الشيخ الغزالي لبعض مواقفه وآرائه؛مثل رجوعه عن موقفه من الأستاذ المغفور له حسن الهضيبي وكذا شعوره بالندم عن الرأي الذي قدمه إبان المؤتمر الوطني للقوى الشعبية،المنعقد في مايو سنة1962 حيث طالب فيه بلباس موحد للرجال وآخر للنساء حفاظا على السمت الإسلامي والشرقي لمجتمعاتنا،ومصدر الندم أن الموضوع الذي تحدث فيه لم يكن ملائما ولا مناسباً لتجمّع في مثل المؤتمر الوطني للقوى الشعبية،حيث كان من الأنسب-كما يشير-لو تحدث عن موضوع أخطر كالحريات العامة مثلا،كما أن مصدر الندم أيضا أن حديثه ذاك-كما يقول في كتابه معركة المصحف في العــالم الإسلامي-قد فتح الباب واسعا أمام الاتجاهات التغريبية للحديث في الصحافة بالطعن في التشريع الإسلامي ووصفه بمختلف النعوت! ويندرج في هذا المقام كذلك مراجعة الشيخ الغزالي لمجموعة من أفكاره وآرائه التي سبق وضمّنها كتبــه الأولى..وقد جاء في الطبعة الجديدة لكتابه(الإسلام والأوضاع الاقتصادية)قوله:"..وقد تبين لي-وأنا باحث أنشد الحق ولا ابتغي إلا وجه ربي-أن كثيرا من مواطئ أقدامنا تحتاج إلى تبيين..وأن بعض الاجتهادات ربما تحتاج إلى تمحيص..ففي كتابنا هذا-في طبعاته السابقة-كنا قد عرضنا لبعض القضايا..وقد جدّ من الحقائق ما يدعونا إلى أن نعود إليها بشيء من التمحيص..فقد كان هناك شطط في المصادر التي نقلتْ بعض الصور -التي اعتمدنا عليها-و بالغت في تشويهها..كانت الرؤية خاضعة لظروف وقتية ،فلما تكشفت الحقائق لزم تغييـر الآراء.." !!
ويرى المؤلف بأن الشيخ هنا –في هذا الموقف-يضرب نموذجا آخر من نماذج الموضوعية في محاسبة النفس،و نقد الذات ومراجعة الفكر ،و العودة لما يراه حقا..وتلك شواهد صادقة على عظمة هذا الشيخ الأواب؟..
ويختم المفكر الكبير الدكتور محمد عمارة هذه السياقات المجسدة لخلق المحاسبة و الأوبة و نقد الذات،بقصة كان هو الشاهد فيها هذه المرة،و قد تركتْ في نفسه بالغ الأثر مما جعله يثبتها في هذا الكتاب للتاريخ و الإنصاف،و الأهم للإقتداء،و يبدأ في سرد هذه القصة قائلا:
إنني أبادر فأسوق هذا الشاهد في هذا المقام،لا لأنني كنت طرفا فيه،وإنما لأني قد تعلمت منه ما لم أتعلم مـن كثير من الأعلام والشيوخ المعاصرين في هذا المجال،وأود أن أشرك معي في التعلم منه كثيرين،سواء منهم أولئك الأعلام الذين هم في مواقع القدوة والصدارة والقيادة،أم الشباب،الذين هم في حاجة إلى نماذج تعيد إليهم الثقة في الرواد والقادة والأئمة من العلماء والأعلام،لهذه الحكمة،ولهذا السبب،ولهذه الغاية،أسوق هذا الشاهد فـي ختام هذا الحديث عن صفة الأواب في هذا الشيخ الجليل..
في النصف الثاني من سنة 1983 م،كان الأستاذ عبد الرحمان الشرقاوي ينشر في صحيفة"الأهرام" فصول"الصور الأدبية"التي كتبها عن الإمام علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه،وقد اختار لها عنوان:(علي:إمام المتقين)..وأخذتْ آراؤه وتقويماته لأحداث التاريخ الإسلامي وصراعاته،في حقبة صدر الإسلام،تثير الجدل في عدد من الصحف والمجلات،ما بين ناقد،ومحبذ،ومعترض،ومهاجم..وكان الشيخ الغزالي، وقتئذ يعيش في" قطر"أستاذا في جامعتها..فأدلى بدلوه في هذه المعركة،من موقع الناقد-بعنفوان-للمنهج اليساري في تفسير التاريخ الإسلامي.. وفي محاضرة عامة،حول هذه القضية،ألقاها في قطر، وجه هجومه الغاضب إلى الذين يسمون أنفسهم بـــــ"تيار اليسار الإسلامي"..وكانت مفاجأة لي عندما قرأت في صحيفة"الأهرام"الفقرة التي نقلها الشرقاوي عن محاضرة الشيخ،والتي جمع فيها أسماء كتاب اليسـار الإسلامي،الذين صبّ عليهم هجومه الغاضب..كانت مفاجأة لي أن وجدت اسمي ضمن هذه الأسماء؟!....
لقد فوجئت، لأن هذه ليست حقيقة موقفي الفكري..وفوجئت لغيبة هذه الحقيقة عن الشيخ الغزالي-الذي اعتقدت-رغم أننا لم نكن قد التقينا بعد لقاء مباشرا-أنه لا بد وأن يكون ملماً ولو بطرف قليل مما قدمته للمكتبة الإسلامية من فكر لا يباعد فقط بيني وبين دعاة"اليسار الإسلامي"وإنما هو ينقض ويهدم-من الأساس-مصداقية ومشروعية وجود مثل هذا التيار!..
لقد فوجئت..لكنني لم أغضب..فضلا عن أنني طويت الأمر مع طيي لصحيفة الأهرام!..
ثم حدث أن سألني صديق-أستاذ في جامعة قطر-عن مشاعري حيال هجوم الشيخ الغزالي الذي تناولني فيمن تناول؟..
فأجبته-صادقا-بأنني على يقين من أن الشيخ الغزالي قد تناولني وهو غاضب؛لكنني على ذات الدرجة مـن اليقين بأن غضبته إنما كانت لله ولدينه،وانتصارا للحق الذي يبتغيه..ولذلك فإن حبي للشيخ،واعتزازي بفكره وجهاده،لم ولن يؤثر بوضعه لي-إبان غضبته المشروعة هذه- في الموقع الذي لا أحب ولا أرضى!..ثم حدث أن بلغ رأيي هذا إلى شاب مثقف-كان يتولى إدارة الشؤون الثقافية بجامعة قطر-ليست بيني وبينه معرفة مباشرة- لكنه كان يقرأ لي-مع إعجاب و تقدير-وفي ذات الوقت كان من مريدي الشيخ الغزالي ومحبيه..فعزّ عليه وجود هذا الخلاف المعلن بين الشيخ الغزالي وبيني مع يقينه-وهو الذي يتابع فكرنا معا-بأنه خلاف لا مبرر لوجوده أصلا..فتطوع وذهب إلى الشيخ الغزالي،وعرض عليه أن يقرأ عددا من المقالات القصيرة،كنت أنشرها أسبوعيا في مجلة(الشراع)-البيروتية-في زاوية أطلقت عليها عنوان:"التراث والمستقبل".
حدث كل هذا المسعى الطيب دون أن أدري عنه شيئا!.وما هي إلا أيام،حتى تسلمت خطابا أثار مظروفه الانتباه!..فعلى المظروف عبارة:"المرسل: محمد الغزالي-كلية الشريعة-جامعة قطر".ولم أكن من قبل قد التقيت بشيخنا الجليل..ولا تبادلنا المراسلات..وأقرب العهد به هو خبر ذلك الهجوم الذي أشرت إليه!.فلما فتحت المظروف،وقرأت خطاب الشيخ الغزالي..كانت المفاجأة التي هزت كياني من الأعماق..لقد وجدتني أمام وثيقة لا يكتبها إلا واحد من عظماء الرجال..فهذا الشيخ الجليل،الذي يقع مني موقع الأستاذ من التلميذ..يجلس في موقعه هذا ليراجع نفسه،ويحاسبها،ولينتقد ذاته،وليعلن لي عن تصحيحه لموقفه مني؛لا في إطار هذه الرسالة فقط،وإنما علنا وعلى رؤوس الأشهاد!!حقا إنه رجل أواب..وإذا كانت رسالته هذه قد هزت كياني من الأعماق..فبادرت أكتب إليه قائلا:إن أمة فيها أمثالك لا بد منتصرة بإذن الله..فإن الذي تعلمته من رسالة هذا الشيخ الأواب، أجدني مطالبا-أمام ضميري-بأن أيسّر مصدره ليتعلم منه الآخرون،وليقوم شاهدا حيا على صدق الذي أقوله عن هذا الجانب من جوانب خلق هذا الشيخ الجليل..لقد كتب في رسالته تلك يقول:بسم الله الرحمن الرحيم أخي الأستاذ الدكتور محمد عمارة : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته-وبعد- : فإن القليل الذي قرأته لك أخيرا ردني إلى الصواب في أمرك،وجعلني أندم على تعجلي في عدك من كُتاب"اليسار الإسلامي"..لقد كنت في ضيق شديد للحرج الذي وقع فيه الفكر الإسلامي عندنا هنا..في الخليج الذي يمرح فيه الغزو الثقافي في غير خجل ولا قلق..وتناولتُ ناسا قرأت لهم ما لا يسر،ولكني ما كنت قرأت لك،وإنما حدثني البعض أنك تصف الشريعة الإسلامية بأنها من وضع الفقهاء،وتتبنى النظرة المادية إلى الفلسفة الإسلامية..ما كان يليق بي أن أعتمد السماع في تقدير الرجال،ومن ثم كنت-بعد وصفي لك باليسار الإسلامي-قلقا في عدالة الحكم الذي صدر مني بالنسبة لكم خاصة..والآن، وبعد قراءات قليلة لآثارك الأدبية أيها الأخ العزيز رجعت إلى مَن حدثوني وقلت لهم:إن الطبيعة العقلية للدكتور محمد عمارة تتسم بعمق النظرة،وسعة العلم،والتجرد للحق..وإذا مضى في هذا الطريق فأحسبه سيكون نموذجا للأستاذ العقاد،وعبقرياته الإسلامية..معذرة عما قلته،وعند أول فرصة لكتابة عامة سأنشر رأيي،فهذا حقك الذي يفرضه علي ديني. والسلام عليكم ورحمة الله. الدوحة في: 25 جمادى الآخرة سنة 1404 هجري / أخوك محمد الغزالي
كلمــة أخـــيرة
لقد كانت هذه الرسالة طافحة بنبل المشاعر الإنسانية،وعمق التجرد للحق،والتسامي على نقائص النفس،ولزوم المراجعة ونقد الذات.. إلى درجة أنها هزت- بصدقها وتجردها للحق-أعماق و وجدان المفكر الدكتور محمد عمارة وملكت عليه شغاف قلبه،فكتب عنها يقول:"تلك هي الرسالة –الوثيقة"..التي احتفظتُ بها ست سنوات، رافضا إلحاح كثير من الأصدقاء عليَّ كي أنشرها..فلما شاء الله و شرعت أكتب هذه الدراسة عن هذا الشيخ الجليل..وعنّ لي أن أتناول هذا الجانب من جوانب شخصيته و خلقه..محاسبة النفس ..و مراجعة الفكر..و نقد الذات..آثرت أن أشرك غيري في أن يتعلم منه..وأحببت أن أقيم شاهدا آخر –قد لا يعلمه الناس-على تحلي هذا العالم ..المجدد..المجاهد..بخلق المسلم الأواب.." !!
فهذا نموذج من كتابة الكبار عن بعضهم ،نقدمه لقرائنا الأفاضل ..و نحن على يقين من أن هذا المسلك لو كتُب له الإننتشار و الذيوع المطلوب ،فإنه سيحول دون تسرب المرويات المكذوبة،و الدعايات المغرضة عن أعلام نهضتنا،و هو الأمر الذي يعني كذلك بالتبعية،الحفاظ على منابع ثقافتنا وصونها عن كلّ ما بإمكانه الإساءة إليها،سواء بالدس في أحشائها مالا ينفع ،أو بتزييفها و تمييع وجهتها،كي لا تكون شديدة الصلة بأجيالنا المقبلة ناهيك عن التأثير المطلوب فيها والتعلّق البصير بمراميها ومقاصدها الروحية والحضارية.
إن الدكتور محمد عمارة في هذا الكتاب ،بل في هذا العمل الفذ،و اللفتة الفنية ،و الأفق الفكري ،إنما ينهج نهجا،نحن فعلا في مسيس الحاجة إليه،و تأصيله،و جعله تقليدا محترما و مرغوباً في سلوكنا الثقافي و واقعنا الفكري.
فماذا لو يكتب عظماء و أعلام أمتنا عن بعضهم في كلّ عصر..أفلا يكون ذلك طريقا و منهجا لتوثيق الكثير من الحقائق ؟ أم أن المعاصرة ستظلّ دائما –كما قيل- حجاباً،يجعلنا لا نرى الحقيقة كما ينبغي أن نراها،فيفوتنا الكثير من الخير الذي عليه بعض علمائنا وأدبائنا و أعلامنا..لا لشئ إلا لأن عصرا واحدا قد جمعنا في العيش معهم؟! و الشيخ الغزالي بدوره أدرك منزلة الدكتور محمد عمارة و قوته في الكرّ على أعداء الفكر الإسلامي و المنهج الإسلامي في النظر للحياة و شؤونها ، فقال له ذات يوم مطرياً بأسلوبه البديع المعروف، و بابتسامته الملائكية التي تظهر على محياه ــــ أحيانا ـــــ : " أنت لست "عِمارة " أنت " قلعة " حصينة شامخة شديدة البأس؛ تكرّ منها على أعداء الإسلام وشانئيه، ولا ترضى الإياب إلا بعد أن تتركهم صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية " !!.
هكذا أرجو أن تكون المودة و الإزدلاف في الحق و الإخاء و الصفاء بين علمائنا و أعلامنا و دعاتنا و مفكرينا .. فرحم الله تعالى شيخنا فضيلة الشيخ الإمام محمد الغزالي،و رحم أستاذنا و أستاذ أجيال الصحوة الأستاذ الدكتور محمد عمارة، و طيب ثراهما و أسكنهما فراديس الجنان الأعلى مع الأنبياء والشهداء والصديقين، و نفع الأجيال المسلمة الجديدة بتراثهما الفكري الثر المترع بالقوة و الحيوية و الذكاء في المنافحة عن قضايا الإسلام ، في عصر لا يقبل الطرح العشوائي و الأساليب الفجّة المؤسسة على إثارة المشاعر و العواطف الدينية أو القومية و الوطنية .
و الله وليّ التوفيق