52
0
خليدة قايد... حين تتحول الجريمة إلى سيمفونية أدبية والكتابة إلى نبوءة

زوايا مدينة سعيدة احتضنت ميلاد الكاتبة خليدة قايد عام 2002، وسط تقاطع الصمت مع الأسئلة، وتفتح الأحلام من صدوع الواقع. حملت منذ وقت مبكر شغفا بالكلمة، لم يكن مجرد هواية، بل ملاذا وبوصلة هروب من ضجيج العالم نحو عوالم تصنعها وتعيد تشكيل قوانينها بإرادتها. خريجة كلية الحقوق والعلوم القانونية، لكنها آثرت أن تستأنف على الواقع بحبر الخيال، وتكتب لا لتفسر القانون، بل لتعيد صياغة الحياة وفق إيقاعها الخاص.
الحاج شريفي
منذ بداياتها، لم تكن الكتابة عند خليدة مهنة أو رغبة في النشر والشهرة، بل «نبض لا يسكت»، على حد تعبيرها. كانت كلماتها الأولى مثل طعنات خفيفة على الورق، تقودها لتكتشف أنها لا تنتمي إلى عالم القصص المسطحة، بل إلى العوالم الغامضة التي تتداخل فيها الرؤى بالأحلام، والمنطق باللامعقول، والواقع بأسئلة لا يجرؤ الكثيرون على طرحها.
"سمفونية الدم"... حين تعزف الجريمة على أوتار الفن
في أولى رواياتها، "سمفونية الدم"، تفاجئ خليدة المشهد الأدبي بنص غير تقليدي، لا يصنف بسهولة، ولا ينتمي إلى نمط واحد. الرواية ليست مجرد قصة بوليسية، ولا تندرج تحت الخيال الفنتازي فقط، بل هي مزيج قاتم من الفن والجنون، من الجريمة والفلسفة، من التشريح والرمز.
بطلا الرواية، المحقق "إيثان" والطبيبة الشرعية "رافييلا"، ليسا فقط شخصيتين تحركان الحبكة، بل عدسة مزدوجة لرؤية عالم يتآكل من الداخل؛ عالم يتشكل من الأحلام الدامية، ومن مشاهد مسرحية ترتكب على أجساد بشرية، ومن جرائم تترك وراءها رسائل غير مرئية، مشفرة بلغة الدم والجمال.
ما يميز الرواية ليس فقط الحبكة المتشابكة أو الشخصيات ذات العمق النفسي، بل تلك الرؤية الجمالية للدم، والقدرة على تحويل القبح إلى سؤال فلسفي، والموت إلى عرض فني. القاتل في "سمفونية الدم" ليس مجرد مجرم، بل فنان، نحات يعبر عن أفكاره بجثث الآخرين، وموسيقار يعزف مقطوعاته على جسد الإنسان.
تكتب خليدة عن القتل عن الجنون وكأنه حالة من الوعي المفرط. تكتب عن المدينة كما تكتب عن جرح مفتوح، وعن الجريمة كأنها وجه آخر للحقيقة التي نخاف رؤيتها.
رغم تكوينها الأكاديمي في مجال القانون، لم تقع خليدة في فخ التفسير الجامد، بل صنعت من فهمها للمؤسسات والنصوص قدرة على تفكيك الأنظمة، وكشف هشاشتها داخل النص الروائي. وهذا ما يبرز في "سمفونية الدم"، حيث لا يوجد جهاز أمني قادر على فك شيفرة الجرائم، ولا توجد قواعد واضحة تحكم حركة الشخصيات. كل شيء في الرواية يخضع لمنطق داخلي، تشيده الكاتبة ببطء، وتدعونا لاكتشافه على مراحل، عبر الدم والرمز والدهشة.
كما أن شخصياتها لا تحمل الخير أو الشر المطلق، بل تتحرك في مساحة رمادية قاتمة، تتغير فيها المواقف والنوايا كما تتغير نبرة الموسيقى، من عالية حادة إلى منخفضة مواربة، ومن صرخة إلى همسة.
لأنها لا تكتفي بإيجاد القاتل، بل تسأل: لماذا نحتاج إلى الفن لقتل أنفسنا؟ ولماذا يختبئ القاتل داخلنا جميعا؟
لأنها لا تقدم أجوبة، بل تضع القارئ أمام مرآة مشروخة يرى فيها نفسه، خيباته، مخاوفه، وهوسه بالجمال حتى وإن كان مميتا.
لأنها تحول القراءة إلى تجربة حسية وفكرية ونفسية، تشبه العزف على أوتار مشدودة من الدم والقلق.
خليدة قايد ليست كاتبة عابرة، ولا مشروعا روائيا تقليديا. في أولى خطواتها، استطاعت أن تضع بصمة حقيقية في أدب الجريمة العربي، بأسلوب جديد، رؤية ناضجة، وصوت سردي واثق من نفسه. وهي بلا شك تمثل جيلا جديدا من الكتاب الجزائريين الذين يمزجون بين الفكر والفن، بين الحداثة والجذور، بين الصمت والصراخ المكتوم في الحبر.
في "سمفونية الدم"، لا نقرأ فقط رواية، بل نسمع معزوفة خفية تعزفها خليدة من أعماقها، ونرى ملامح عالم لا نعرف إن كان هو الواقع… أم مجرد حلم آخر سيستفيق يوما، وقد تحول إلى دم.