1108
0
حين يفقد المثقف لغته بين صرخة الغضب وواجب النقد
منشور بذيء لأستاذ جامعي يكشف مأزق الخطاب الأكاديمي في الجزائر... هل تحول الغضب إلى بديل عن المعرفة؟

بقلم:ضياء الدين سعداوي
لم يكن منشورا لأستاذ جامعي و أكاديمي معروف حدثًا عابرًا في فضاء التواصل الإجتماعي ، بل صدمة فكرية وأخلاقية للكثيرين من طلبة وقراء و متابعي هذا الأكاديمي المثقف الذي أفنى عمره في البحث والتدريس وأثرى النقاش الأكاديمي والسياسي بتحليلات رصينة لم يجد أمام حجم التدهور الذي يراه إلا أن يختزله في كلمة بذيئة
صدمة هذا الموقف ليست في وقع الكلمة ذاتها بل في دلالتها، حين يصل مثقف بهذا الحجم إلى عتبة اليأس فذلك يعني أن البنية الرمزية للخطاب العقلاني قد تصدعت.
و من هنا نبدأ في طرح السؤال: هل تعكس الشتيمة بذاءة اللسان أم فداحة الوضع؟ قد يرى البعض أن الوضع أضحى أكثر بذاءة من كل توصيف لغوي وأن الكلمة مهما كانت فاحشة لا تستطيع الإحاطة بما آلت إليه الأحوال ، غير أن المعضلة ليست في "صدق" الإنفعال بل في "شرعية" الخطاب ، فالمثقف ليس مجرد مواطن يصرخ في وجه العبث بل هو حامل مسؤولية مضاعفة، في أن يترجم الغضب إلى وعي واليأس إلى معرفة والإحباط إلى بدائل ، فالشتيمة مهما بدت كصرخة صادقة تظل فعلا بلا أفق و تنفيسا لحظيا و ارتطاما بجدار الصمت في لحظة ما.
الفرق بين المثقف الأكاديمي و"المعلق الغاضب" على شبكات التواصل الإجتماعي ، هو أن الأول يمتلك أدوات التحليل والتفكيك بينما الثاني محكوم بالإنفعال العفوي ، فحين يتنازل المثقف عن موقعه الرمزي وينزل إلى مستوى العنف اللفظي فإنه سيفقد إحدى ركائز شرعيته المتمثلة بالأساس في القوة الأخلاقية للخطاب ، حتى أن صوته سوف لن يعود مرجعًا معرفيًا بل مجرد صدى من أصداء جوق الغضب الشعبي.
لكن في المقابل علينا أن نفهم و نعي السياق المتمثل في انسداد قنوات التعبير الحر، وتجاهل لكل صوت نقدي جاد و استفحال الأزمة على مستويات متعددة ، كلها عوامل تجعل المثقف نفسه يقع في فخ الإحباط ، في هذه الظروف تتحول الشتيمة أحيانًا إلى شكل من أشكال المقاومة الرمزية ، لكنها مقاومة قصيرة النفس لأنها لا تقدم بديلًا بل تكتفي بالهدم.
إذن المطلوب اليوم ليس أن يكون المثقف "موظفًا لغضبه" بل أن يكون صانعًا للمعنى ، مفسرًا للأزمات و شاقا لطريق الخروج منها ، نحن بحاجة إلى نقد رصين لا ينزع من خطابه حرارة الغضب لكن يكسوها بالمعرفة والتحليل ، الغضب بلا تحليل ينقلب إلى سباب والتحليل بلا غضب يتحول إلى جمود أكاديمي معزول عن الناس ، المعادلة الصعبة هي المزج بين حرارة الإنفعال وصرامة التفكير.
الأكاديمي الذي يصرخ بشتيمة قد يثير انتباه الناس ليوم أو يومين لكنه لن يمنحهم أفقًا للفهم ، أما الأكاديمي الذي يغوص في جذور الأزمة ويعيد تفكيك آليات إنتاجها ويصوغ بدائل معرفية وسياسية فإنه يحافظ على شرعية خطابه ويمنح المجتمع فرصة لإعادة بناء الأمل.
ما نواجهه اليوم من تحديات لا يحتاج إلى ألفاظ بذيئة كي نقتنع بفداحته ، هو بذاته أقسى من أي كلمة ، لكن التحدي الأكبر يبقى في كيفية تحويل هذا الغضب إلى خطاب نقدي يحمل معنى ويمنحنا بدائل ويعيد لنا الثقة في أن هناك من يقاوم اليأس بالمعرفة.
المثقف الذي يستسلم للشتيمة يخسر دوره التاريخي ، أما المثقف الذي يحول إحباطه و انتكاسه إلى مشروع نقدي، فيظل رغم كل شيء آخر حصن للأمل.