612

0

حين بكى المئذنةُ طائرُها… وشيّع المصلّون ظلالهم

باتنة تُودّع مسجد الشيخ العربي التبسي

بهدوءٍ مُحمّل بالشجن، أُسدل الستار في حيّ بارك أفوراج الشعبي بمدينة باتنة على فصلٍ عميق من الذاكرة الجماعية لسكان الحي، بعد أن أعلن إمام مسجد الشيخ العربي التبسي أن صلاة العشاء ليلة الأحد ستكون آخر صلاة تُقام في هذا المسجد العتيق، قبل أن تبدأ صباح الإثنين عملية تسييجه تمهيدًا لهدمه.

 

ضياء الدين سعداوي

 

قرارُ الإغلاق جاء إستجابةً لتقرير الهيئة الوطنية التقنية للبناء التي خلصت إلى أن بناية المسجد أصبحت هشّة وخطرة على مرتاديها، ما دفع والي باتنة إلى إتخاذ إجراءٍ فوري بإخراجه من الخدمة على أن يُعاد تشييده من جديد وفق معايير عمرانية وهندسية حديثة.

 

جدرانٌ أرهقتها العقود… وأرواح لم تغادر بعد

 

مسجد الشيخ العربي التبسي الذي سُمّي على اإسم أحد أعلام الإصلاح والدعوة في الجزائر، لم يكن مجرّد مبنى للصلاة بل واحة روحية تحتضن ذاكرة جماعية حيّة و فضاءً تربويًا و دعويًا تَشبّع داخله أجيال من أبناء الحي بأخلاق الدين وتعاليم القرآن على مدى أكثر من نصف قرن، ظلّ المسجد يشكّل مركزًا روحانيًا و اجتماعيًا نابضًا وسط حي بارك أفوراج أحد أعرق الأحياء الشعبية في المدينة.

 

 

رغم تواضع بنائه و بُعده عن الطابع المعماري الفخم فإنّه ارتبط في وجدان السكان بمكانة لا تقل عن أضخم المساجد فكل زاوية فيه تحمل قصة و كل سجادة شهدت دمعة تائب أو رجاء محتاج.

 

تقرير تقني يضع حدًّا للعُمر المتعب

بحسب مصدر من داخل المسجد أدلى بتصريح للموقع الإخباري "بركة نيوز"، فإن تقريرًا صادرًا عن الهيئة الوطنية التقنية للبناء أكد وجود اختلالات هيكلية خطيرة أبرزها تآكل في الأساسات و تصدّعات متقدمة في الجدران، ما يشكّل خطرًا مباشرًا على سلامة المصلين. وبناءً على هذا التقرير أصدر والي باتنة قرارًا فوريًا يقضي بإغلاق المسجد والشروع في عملية إعادة بنائه حفاظًا على الأرواح و تماشيًا مع معايير السلامة الحديثة.

 

وداعٌ مؤثّر... وصلاة أخيرة في حضرة التاريخ

 

كان المشهد استثنائيا في ليلته الأخيرة، المصلّون جلسوا طويلاً بعد الصلاة يتأملون الجدران والسقف و المحراب، كما لو كانوا يلقون نظرة الوداع على صديق قديم ، دموعٌ سالت بصمت و أدعية همس بها رجالٌ شابت لحاهم في زوايا هذا المسجد فيما الأطفال يتأملون في صمت ما يجهلونه من معاني الغياب.

 

الإمام وبصوت خاشع، أعلن أن “هذه الصلاة ستكون آخر ركعة في حضرة هذا المكان المبارك، لكننا على موعدٍ مع ولادة جديدة للمسجد تليق بإسمه وتاريخه”.

 

بين الهدم والبناء ..وعيٌ جماعي ورهان على الذاكرة

 

رغم وطأة المشهد العاطفي،ط فإن وعيًا جماعيًا تشكّل حول ضرورة ترميم هذا المعلم الديني بما يضمن أمن المصلين ودوام رسالته ، و على عكس ما كان يُتوقّع، لم يتبنَّ الأهالي خطابًا احتجاجيًا ضد القرار بل سادت لغة التفاهم والقبول مترافقة بدعوات متكرّرة بضرورة الحفاظ على رمزية المسجد وإشراك المجتمع المحلي في التصور العمراني الجديد.

 

في حديثه لنا قال أحد وجهاء الحي:“ليست الجدران من تصنع المسجد بل قلوبُ من عمرها والنية التي يُبنى بها ، لكننا نأمل أن يحمل البناء الجديد شيئًا من روح المكان القديم.”

 

 

 

 

المسجد الجديد... بوعد الوفاء للقديم

تفيد المعطيات الأولية أن مشروع إعادة البناء سيحترم المعايير التقنية والوظيفية الحديثة دون أن يُفرّط في الهوية التاريخية للمكان ، كما يُنتظر أن يُخصَّص فضاءٌ واسع للتعليم القرآني والدروس الدينية فضلًا عن توسيع المساحة لإستيعاب الأعداد المتزايدة من المصلين.

 

وقد أكدت مصادر محلية أن المشروع سيُنجز تحت رقابة دقيقة من السلطات المحلية و بتمويلٍ من ميزانية الولاية إلى جانب مساهمات تطوعية من سكان الحي و المحسنين ما يعكس العلاقة المتجذّرة بين المسجد وسكانه.

 

ما بعد الإغلاق... حلول مؤقتة وروحٌ لا تغيب

خلال فترة الأشغال ستُقام الصلوات اليومية في مساجد قريبة في الحي على غرار صلاة الجمعة حفاظًا على وحدة الجماعة ونسق الحياة الدينية في المنطقة.

 

ورغم أن المسجد قد أغلق أبوابه فإن صوته لا يزال حيًا في قلوب محبيه و سيرته تُروى للأطفال وتفاصيله تُوثّق في صور وذكريات في انتظار اليوم الذي يعود فيه “العربي التبسي” من جديد لا فقط كفن معماري بل كروح حية تتجدد.

 

هل سيُغادر طائر اللقلق المئذنة… بسلام؟

ومع بدء الإجراءات الفعلية للهدم لم يكن الإنسان وحده من يُفارق المسجد ،فقد شهدت مئذنته على مدار سنوات طويلة استقرار عش لطائر اللقلق الذي أصبح جزءًا من المشهد البصري و الوجداني للمكان ،هذا الطائر الذي أحب المئذنة كموقع مرتفع وآمن بات بدوره معنيًا بقرار الإخلاء.

 

وإدراكًا لأهمية الحفاظ على التوازن البيئي، رفع مواطنون من الحي نداءا إلى مصالح الحماية المدنية لنقل عش اللقلق إلى مكان آمن، يحفظ الطائر وصغاره من أي خطر محتمل، خطوة إنسانية لاقت استحسان واسعًا، وأكّدت أن للمكان ذاكرة لا تُختصر في الحجر فقط بل تمتد إلى الطير والهواء وأصوات الأذان.

سوف يُهدم المبنى لكن لا أحد يستطيع هدم الذكرى و سيرحل اللقلق لكنه سيعود إلى مئذنته حين تشرق من جديد في الأفق.

في كل مسجدٍ ذاكرة… وفي كل ذاكرة وعود لا تموت ، مسجد العربي التبسي يُهدم اليوم ليُبنى غدًا... بنفس الحبّ، وبعزم أكثر على البقاء

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services