33

0

حين انتصر الشعر لغزة: العالم يقف قصيدة في وجه القصف

 
بقلم: بن معمر الحاج عيسى

 

في زمنٍ يوشك فيه العالم أن يفقد صوته تحت ركام الخوف والتواطؤ، في زمنٍ تاهت فيه العدالة بين طائرات "إف-16" ومجالس الأمن، كان لا بد لصوتٍ آخر أن يعلو، لا يمرّ عبر دهاليز السياسة، ولا يستأذن العروش، بل يخرج من الحنجرة الجريحة، من القلب المثقوب، من الشاعر الذي لا يحمل سلاحًا سوى القصيدة. هكذا، من رماد غزة، من ظلال المجازر، من دم الأطفال المسفوك على عتبات البيوت، من صراخ الأمهات في المخيمات، خرج الشعر ليعلن رفضه، ليكون ضميرًا للعالم حين خرس الضمير، وهكذا اصطفّ شعراء الأرض، واحدًا تلو الآخر، كأنهم طابور نور في مواجهة ظلمة الاحتلال، طابور من الكلمات في وجه رصاص لا يعرف الرحمة، أطلقوا صرخاتهم من قلب القصيدة، وكتبوا لغزة التي تنزف، لا من باب العزاء، بل من باب الانحياز، الانحياز للحق، للحياة، للإنسان.

ما الذي يجعل الشعراء ينهضون فجأة في لحظة مجازر؟ ما الذي يدفعهم لترك دفاتر التأمل واللغة، ليقفوا على جبهة القصيدة كمقاتلين؟ إنه الدم، إنه الوجع، إنه القهر الممتد من الذاكرة الكونية منذ قابيل وهابيل، لكنه في غزة بات عارًا لا يغسله إلا الحبر، صمتًا لا يقطعه إلا بيت شعري يشبه الطلقة حين تصيب هدفها في قلب القاتل. من فنزويلا، كتب فرناندو ريندون، رئيس حركة الشعر العالمي، قصيدته كمن يزرع الحياة في مهبّ المجزرة، يتحدّث عن الحلم الذي يتجدد من رحم الأرض، رغم القصف، رغم النيران، ليؤكد أن المجد لا يُقهر، وأن شجرة الزيتون لا تموت تحت الدبابات. ومن الهند، جاءت راتي ساكسينا لتحمل جراح الأنثى الفلسطينية، تلك التي ما زالت، في الطابق الثالث من مبنى مدمر، ترتب وسائد الوطن، وتُعدّ السرير كما كانت تفعل قبل أن تسقط القذيفة، وكأنها بذلك تعيد بناء ما هدمه الغزاة، وتصنع من الحطام مكانًا للحياة، للحب، للانبعاث.

وفي فيتنام، وقف نغوين كوانغ ثيو، رئيس اتحاد كتاب البلاد، أمام متحف محمود درويش لا ليبكي على الأطلال، بل ليستمع لصوت الشاعر الراحل وهو يبكي وطنه المفقود، ويستدعي الصرخات التي لا تزال تتردد في أقبية السجون الإسرائيلية، لأن السجين الفلسطيني لا يُنسى، ولأن القصيدة لا تخون الذاكرة. ومن إندونيسيا، كتب أنور بوترا بايو عن الطفلة "نصيرة"، تلك اليتيمة التي تمشي وسط الكوابيس والأنقاض، تحرسها أشباح أحبّاء قُتلوا، وتسكنها رعشة الخوف والحرب، هذه الطفلة لم تعد تعرف طمأنينة، لكنها تمشي، تمشي لأن الحياة لا تستسلم، لأنها شاهدة على أقذر جرائم العصر.

وفي سلوفينيا، كتب أتيلا بالاژ قصيدة لا تحمل سوى يقينٍ واحد: لا رابح في الحرب. حتى من يربح، يخسر في مكان ما من إنسانيته. وتبدأ صور القصيدة في التدفّق: النسور تلتهم أجساد الضحايا، الدموع وحدها تفيض، الرعب وحده ينتشر، والرصاص وحده يتكاثر، أما الإنسان، فإما ميت، أو ميت في داخله. بينما في ماليزيا، كانت الشاعرة شيفاني سيفاغوراناثان تسائل الشمس ذاتها: كيف ضربت عيون أطفال غزة؟ كيف يمكن لعينين كانتا تنظران إلى الأرجوحة صباحًا أن تصطدما برأس الأب المقطوع عند الظهيرة؟ إنها "ضربة شمس" لا تشبه حرّ الصيف، بل حرّ الإبادة.

وفي لاوس، كتب ثونغباي فوثيسان أن حب الشعر هو حب الوطن، وأن القلم لا يمكن أن يكون حياديًا حين يكون الشعب تحت النار. أما أندريه ساليفو من النيجر، فقد كتب نشيدًا إنسانيًا يقول فيه: "يا لكل هذا الرعب في غزة!"، ويدعو إلى وقف نهر الدماء الذي يتدفق من رفح إلى خان يونس، إلى جباليا، إلى دير البلح، وإلى كل حارة حوّلها القصف إلى شاهد عيان. في تشيلي، كانت ماريبيل مورا كورياو تكتب صهيل الأمل، ترسم الغيوم تعود إلى سماء فلسطين، تغني لغزة حين تستعيد ألعاب الأطفال وفساتين الأعياد وأغاني العودة، فتبدو كأنها تكتب من المستقبل، من ذلك الحلم الذي قد يأتي إن لم يخن العالم مرّة أخرى.

أما في ساحل العاج، فقد كتبت باتريسيا كاكو مارسو مبايا واحدة من أكثر القصائد وجعًا: "عندما أفكر في وطني"، فتتذكّر الطفل الذي قُتل بين يديها، والأم مقطوعة الرأس، وتعلنها بمرارة مقدّسة: "كفى للرعب!"، وتصلّي من قلب القصيدة من أجل السلام، من أجل ألا نخاف بعد الآن، من أجل أن يظل الأمل معلّقًا في عنق اللغة. ومن روسيا، يكتب فاديم تريوخين بوجع وجودي: "يزعجني أنني لم أمت في حلم، بل في الواقع"، كأن الحرب أصبحت الحلم الملعون الذي لا يستفيق منه أحد.

هذا الحشد الكوني من الشعراء، لم يجتمع في صالة فخمة، ولا تحت قبة الأمم المتحدة، بل في حضن القصيدة، حيث يمكن للحق أن يُقال دون مواربة، وحيث تُحمل فلسطين كما تُحمل القصائد في الروح. لقد كتبوا جميعًا، لأنهم يعرفون أن الطفل الميت في غزة ليس فلسطينيًا فقط، بل هو ابن الإنسانية كلّها، وأن القصيدة التي لا تقف مع هذا الطفل، لا تستحق أن تُكتب. هكذا، يتبيّن أن القصيدة ليست ترفًا لغويًا، بل قد تكون أكثر جدوى من آلاف البيانات الرسمية، وأكثر صدقًا من ألوف المؤتمرات. القصيدة هنا فعل مقاومة، صرخة أخلاق، وضمير أممي حيّ.

في غزة، لا تزال الكلمات تُكتب بالدم، والشعراء في أنحاء الأرض يوقّعون باسم الإنسان. وحدها القصيدة لا تحتاج إلى فيزا لتعبر الحدود، وحدها تجرؤ على تسمية القاتل باسمه، وعلى الانحناء للضحية دون خجل. إن وقوف شعراء العالم مع غزة ليس مجرد حدث ثقافي، بل هو انتفاضة ضمير، شهادة كونية على أن هذا العصر، رغم كل القبح، لا يزال قادرا على كتابة الجمال، لا يزال يملك من الحبر ما يكفي لمقاومة الطغاة. القصيدة، في النهاية، قد لا توقف الصواريخ، لكنها تفضح القتلة، تُربك حساباتهم، تُعيد للضحايا أسماءهم. وفي هذا وحده، يكمن انتصار كبير.

شكراً لهؤلاء الشعراء الذين كتبوا كما تُكتب الحياة على حافة المجازر، شكراً لأنهم لم يصمتوا، لأنهم لم يكتفوا بمشاهدة النشرة المسائية ثم النوم. شكراً لأنهم أقاموا جبهة شعرية عالميّة، أعادت لغزة مكانتها في الوعي الإنساني. ومن قال إن القصيدة لا تصنع فرقًا؟ القصيدة، حين تكون منحازة للعدالة، يمكنها أن تُزعج قاتلًا، أن تفضح مجرمًا، أن تُعانق يتيمًا. في زمن القنابل الذكية والقتل المُمنهج، نهضت القصيدة كغيمة فوق الركام، كمنديل على جبهة أمّ ثكلى، كمفتاحٍ قديم في راحة لاجئ، كغصن زيتون في منقار حمامة تحلّق في سماء لا تزال، رغم كل شيء، تحمل بعض الأمل.

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services