32
0
هولوكوست غزة
.jpeg)
بقلم: الحاج بن معمر
في قلب القرن الحادي والعشرين، حيث تتغنى البشرية بقيم الحرية وحقوق الإنسان، يقف العالم مذهولًا أمام مشهدٍ لا يقلّ رعبًا عن مشاهد المحارق النازية التي ظلّت ذاكرة الغرب الجماعية تستحضرها لعقود.
طفل فلسطيني هزيل، كأنَّه هيكل عظمي، التقطت صورته عدسات الإعلام، لكنّه لم يكن لقطة استثنائية؛ بل تجسيدًا يوميًا لسياسة إسرائيلية تقوم على التجويع والإبادة.
ما بات يعرف في الوعي العالمي ليس كأزمة إنسانية فحسب، بل كهولوكوست جديد يتكرّر على أرض غزة، أمام صمت دولي وازدواجية أخلاقية فاضحة. فالمحرقة التي كانت وما تزال إحدى أعمدة السردية الغربية، استثمرتها إسرائيل طيلة عقود لتبرير وجودها وشرعنة احتلالها، غير أن مشهد الطفل الفلسطيني الهزيل أعاد قلب الطاولة، إذ فرض نفسه على الرأي العام العالمي باعتباره صورة لا يمكن إلغاؤها أو تبريرها.
وفي الوقت الذي يحاول فيه بنيامين نتنياهو أن يُعلن معركة إبادة شاملة ضد الفلسطينيين، تحت ذريعة «تصفية القضية»، فإنه يجد نفسه في مواجهة يقظة عالمية متنامية، تتجلّى في الاعتراف بالدولة الفلسطينية وفي تبدّل لغة النقاش داخل المؤسسات الأممية وعواصم القرار الكبرى.
ومن رحم هذا الوعي الجديد، خرج الرئيس الفلسطيني محمود عباس بتوصيف بالغ الخطورة حين قال إن إسرائيل تسعى إلى «تدمير فلسطين بالكامل»، مؤكّدًا أنّ ما يحدث يتجاوز حدود الصراع السياسي ليصبح استئصالًا شعبياً وحضارياً. المفارقة أنّ التاريخ نفسه يستعيد المقارنات؛ فما يفعله الاحتلال اليوم فاق همجية الفايكنغ الذين اجتاحوا أوروبا قديمًا، إذ يقتل، يجوّع، ويدمّر بوعي كامل، ويعلن أنّه يقف في مواجهة العالم أجمع.
لكن الخارج لا يقف متفرّجًا فقط، فالمشهد يتقدّم على خطّين متوازيين: الأول إنساني، حيث تتعالى الأصوات والمنظمات الدولية لمحاولة إدخال المساعدات، لكن العجرفة الإسرائيلية تحاصر الغذاء والدواء وتحولهما إلى أدوات قتل بطيء؛ والثاني سياسي، تقوده دبلوماسيات وازنة مثل السعودية التي تصوغ تحرّكًا يجمع بين الشرعية الدولية والضغط العملي، بعدما ترأست بالشراكة مع فرنسا مؤتمرًا أمميًا رفيع المستوى لتثبيت حلّ الدولتين.
وهنا تتقدّم «سردية الصورة» على «بلاغة الخطاب»، فالمجتمع الدولي، بما فيه الولايات المتحدة، لم يعد يكتفي بالتحليل السياسي؛ بل صار يقرأ المشهد من خلال صور الجوعى والقتلى. استطلاع مركز «بيو» للأبحاث كشف أنّ النظرة الشعبية لإسرائيل داخل الولايات المتحدة نفسها باتت سلبية بنسبة 53 في المائة، ما يعني أنّ «معركة العلاقات العامة» التي طالما ربحتها إسرائيل لعقود بدأت تخسرها، حتى مع أشدّ حلفائها. ولعلّ تصريح الرئيس الأميركي الأسبق أوباما بأن إسرائيل تخسر معركة الرأي العام العالمي يعكس عمق التحوّل الحاصل في المزاج الغربي.
وفيما تستعد الأمم المتحدة لجلساتها القادمة، تتضح مسارات مزدوجة: الأول يتسع فيه الاعتراف بالدولة الفلسطينية من عواصم مؤثرة مثل باريس ولندن وكانبيرا وأوتاوا، والثاني يتشدّد في توصيف الجرائم الإسرائيلية بصرامة إنسانية غير مسبوقة. في كلا الاتجاهين، تتكرّس فلسطين باعتبارها حقًا تاريخيًا يفرض نفسه من جديد، فيما تتقدّم صورة الطفل الفلسطيني الجائع لتصبح رمزًا مقارنًا بمحرقة الهولوكوست في ذاكرة العالم الأخلاقية. عند هذه اللحظة، يصبح النقاش حول «مآل القضية» أقل ارتباطًا بإرادة تل أبيب وحدها، وأكثر خضوعًا لوعي دولي يتكوّن تدريجيًا، مدفوعًا بصرخة غزة وصورها القاسية.
إنها لحظة تعيد صياغة الرواية، وتضع إسرائيل أمام امتحان غير مسبوق: هل يمكنها بعد اليوم أن تحتكر خطاب الضحية في مواجهة العالم، بينما تتحوّل هي نفسها إلى رمز للجلاّد؟