252
0
غزة للعالم في يوم حرية الصحافة: "هنا يُذبح الحُماة ويُكشف وجه الاحتلال المُزيّف

بن معمر الحاج عيسى
تحت سماءٍ مُثقلةٍ بدخان القنابل وصدى الرصاص، تُحوّل غزة يومَ الصحافة العالمي من مناسبةٍ للاحتفاء إلى محكمةٍ عالميةٍ تُدين الصمت الدولي. فبينما تُزين قاعاتُ الأمم المتحدة بالورود والخطب الرنّانة، تُسجل الأرضُ الفلسطينية أسماء 212 صحفياً استشهدوا منذ بدء العدوان، كلّ اسمٍ منهم يشكل فصلاً من ملحمةٍ بطولية: مراسلون دوليون سقطوا خلال نقلهم صور الأطفال المشوّهين تحت الأنقاض، مصورون التقطوا آخر لقطة لهم قبل أن تختطفهم رصاصة قناص، محررون كتبوا تقاريرهم بالدم بينما كانت طائرات الاستطلاع تُحلّق فوق رؤوسهم. ليست هذه أرقاماً مجردة، بل سِيَرٌ إنسانيةٌ تحكي عن مصوّرٍ كان يُخبئ كاميرته تحت قميصه كي لا تُسرق ذاكرة العدوان، ومراسلةٍ التزمت نقل الحقيقة رغم فقدانها ثلاثةً من أفراد عائلتها في غارة واحدة، وشابٍ اختار أن يُكمل مسيرة أبيه الصحفي الشهيد بعد أن وجد مخطوطاته الملطخة بالدماء في حقيبته المهترئة.
هنا، حيث تتحول الكاميرا إلى سلاحٍ وجودي، يُعاد تعريف معنى "الخطر المهني" كلّ ثانية. الصحفيون يعلمون أن عدساتهم قد تُصبح هدفاً للطائرات المسيرة التي تُبرمج خصيصاً لاستهداف مراكز البث، وأن هواتفهم المحمولة قد تتحول إلى أدلةٍ توجّه القنابل نحو بيوتهم، لكنهم يصرون على تحويل كل شارعٍ إلى ستوديو مفتوح، وكل أنقاضٍ إلى شاشة سينما تعرض أفلام الرعب الحقيقية للعالم. في مشهدٍ سوريالي، ترى الصحفية وهي تمسك الميكروفون بيدٍ بينما تحمل في الأخرى طفلاً نازفاً يُحاول الوصول إلى المستشفى، وكأنها تُجسّد تناقضاً مأساوياً: نقل المعاناة أم إنقاذ الأرواح؟ لكنها تختار الاثنين معاً، لأن الصمت هنا تواطؤٌ مع الجريمة.
في ظل هذا الواقع، تكتسب لوحات الفنان محمود البوليس بعداً نبوئياً. ففي لوحته "ذاكرة الرصاص"، تتحول الرصاصات إلى أقلامٍ تسيل حبراً أحمر فوق خريطة فلسطين، بينما تظهر عيون الصحفيين الشهداء كنجومٍ تُضيء سماءً سوداء. لا تُجسّد أعماله الموت بل تحويله إلى فعلٍ جماليٍ مقاوم، تماماً كما يفعل المراسلون حين يحوّلون لحظة الاستشهاد إلى فيديو يُحاكم الاحتلال دولياً. هذا التشابك بين الفن والصحافة يخلق لغةً كونيةً تفكك خطاب الاحتلال: فالصورة التي يبثها الصحفي من تحت الأنقاض تُصبح لوحةً فنيةً بدون إطار، واللقطة التي تلتقطها طائرة مسيرة لطفلٍ يحمل حقيبة مدرسية وسط الدمار تتحول إلى قصيدةٍ مرئيةٍ تذوب فيها الحدود بين الإعلام والأدب.
لكن القصة الأكثر قسوة تكمن في التفاصيل الخفية: ذلك الصحفي الذي كان يسجل مقابلة مع ناجٍ من مجزرةٍ عندما انفجرت عبوة ناسفة بالقرب منه، فاستمر في التصوير بينما كان الدم يسيل على عدسته، وكأنه يقول للعالم: "شاهدوا الحقيقة بدون فلتر". أو ذلك المصور الذي اخترع طريقةً لربط كاميرته بطائرة ورقية كي يتجاوز حظر الاتصالات، فكان يُنزل الأشرطة بعلب معدنية مربوطة بحبالٍ من على أسطح المنازل المدمرة. هذه الابتكارات اليائسة تُظهر أن الإبداع البشري قادرٌ على تحويل أدوات القمع إلى أسلحة تحرير، حتى عندما يُحاصرك الموت من كل اتجاه.
اليوم، بينما تُناقش المحافل الدولية "أخلاقيات الصحافة الرقمية"، يُكتب فصلٌ جديدٌ من تاريخ الإعلام في غزة: صحفيون يُديرون محطات إذاعية من داخل أنفاق المقاومة، شبابٌ يُحوّلون ألعاب الأطفال الإلكترونية إلى أجهزة بثٍّ بدائية، نساءٌ ينقلن الأحداث عبر منصات التواصل الاجتماعي باستخدام شفراتٍ شعريةٍ لتجنب الرقابة. هؤلاء لم يعودوا مجرد ناقلين للأخبار، بل مهندسي وعيٍ جمعيٍّ يُعيد تعريف معنى المقاومة في عصر التكنولوجيا. إنهم يثبتون أن الحقيقة أقوى من كل الرصاص عندما تتحول إلى فيروسٍ رقميٍّ يخترق الجدران الافتراضية للعالم.
في الختام، غزة لا تُذكّر العالم بيوم حرية الصحافة، بل تُعلّمه معنى أن تكون الصحافة حرّة: ليست امتيازاً يُمنح، بل حقٌّ يُنتزع من بين أنياب الوحوش. كل صحفيٍ يُقتل هنا يترك خلفه مليون كلمةٍ لم تُكتب، ومليون صورةٍ لم تُلتقط، لكنه أيضاً يزرع بذرةً جديدةً في تربةٍ لا تقبل إلا الدم كسمادٍ لنباتاتها. فلسطين تُدرّس البشرية درساً قاسياً: عندما تُسكت الأصوات بالرصاص، تتحول الكلمات إلى رصاصاتٍ من ورقٍ تخترق جدار الصمت العالمي، وعندما تُسرق الكاميرات، تُولد عيونٌ جديدةٌ من بين الرماد تُبصر ما لا يُرى.