535
0
في ظلال السياسة والدين: مقاربات في مستقبل الإسلام السياسي عالميًا

المستشار د. أحمد يوسف
منذ أكثر من قرن، والإسلام السياسي يُطلّ برأسه على الساحة العربية والإسلامية بوصفه مشروعًا بديلًا للنهوض والتمكين. غير أن هذا المشروع، الذي بدأ بوعود النهضة والعدالة الاجتماعية، يمرّ اليوم بواحدة من أكثر مراحله تعقيدًا وارتباكًا، لا سيما بعد موجة "الربيع العربي"، وما تلاها من صعود وهبوط، ثم إقصاء وتهميش.
فما الذي تبقّى من هذا الإسلام السياسي؟ وكيف يمكن قراءة مستقبله في ظل المتغيرات المحلية والإقليمية والدولية؟
تحولات عميقة.. وتراجعات مؤلمة
في العقد الأخير، بدا أن الإسلام السياسي في طريقه إلى التحول من حركة احتجاجية إلى قوة حكم. لكن التجربة لم تكتمل، واصطدمت بجملة من العوائق:
- ففي مصر، لم يُمنح الإخوان المسلمون الوقت الكافي لتثبيت أقدامهم في الحكم، فكانت الإطاحة السريعة بهم تعبيرًا عن حجم التحديات البنيوية، داخليًا وخارجيًا.
- في تونس، بدت حركة النهضة أكثر واقعية، وتمكنت من الحفاظ على حضورها السياسي لفترة، لكنها في النهاية رضخت لضغوطات داخلية وخرجت من المشهد طواعية أو قسرًا، وسط موجة شعبية ناقمة على كل النخب السياسية.
- أما السودان، فقد مثّل تجربة مركّبة، شهد فيها الإسلاميون الحكم المطلق لعقود، وانتهت تجربتهم بانقلاب شعبي وحكم عسكري لم يُفلح في بناء البديل.
تجارب آسيوية ملهمة: تركيا وماليزيا
اولًا) تركيا: المزج بين المحافظة والديمقراطية
شكلت تركيا، بقيادة حزب العدالة والتنمية والرئيس أردوغان، نموذجًا بارزًا في تحولات الإسلام السياسي. فالحزب الذي انبثق من رحم التيار الإسلامي الذي أسسه البروفيسور نجم الدين أربكان (رحمه الله)، نجح في تقديم نفسه كحزب محافظ ديمقراطي، يقود دولة علمانية بمؤسسات قوية.
لكن التجربة التركية لم تكن خالية من التحديات؛ فمع النجاحات الاقتصادية والنهضة في البنية التحتية، واجهت البلاد اتهامات بتآكل الديمقراطية وتراجع الحريات. ومع ذلك، فإن بقاء الحزب في الحكم لأكثر من عقدين يشير إلى قدرة الإسلام السياسي -إذا ما راعى قواعد اللعبة الديمقراطية واحتياجات الاقتصاد والمجتمع- على التكيّف والبقاء.
ثانيًا) ماليزيا أنور إبراهيم: إسلامية معتدلة بنَفَس إصلاحي
تُعدّ تجربة د. أنور إبراهيم في ماليزيا واحدة من التجارب الفكرية والسياسية الجديرة بالتأمل. فالرجل، الذي بدأ مسيرته ناشطًا إسلاميًا في حركة (إبيم)، ثم تقلد مناصب حكومية عليا في عهد مهاتير محمد، واجه السجن مرتين بتهم سياسية، قبل أن يعود لاحقًا إلى المشهد زعيمًا لتحالف متعدد الأعراق، ويصبح رئيسًا للوزراء عام 2022.
قدَّم د. أنور إبراهيم نموذجًا يجمع بين الهوية الإسلامية، والانفتاح على الديمقراطية، والاحترام الكامل للتعددية الدينية والعرقية. وقد أثبتت تجربته أن الإسلام السياسي ليس بالضرورة خصمًا للديمقراطية، بل يمكنه أن يكون أحد روافدها، إذا ما تحرر من عقلية التمكين والوصاية.
ما يميز نموذج د. أنور إبراهيم هو خطابه الأخلاقي العابر للطوائف، وقدرته على توظيف القيم الإسلامية في خدمة العدل والشفافية، بدلًا من الصراع على السلطة أو احتكار الحقيقة الدينية.
وهناك ايضًا في شمال افريقيا تجربة جديرة بالإشارة إليها وتناولها بالتحليل، وهي:
المغرب: الإصلاح من الداخل ثم التآكل الصامت
في المغرب، خاض حزب العدالة والتنمية تجربة فريدة ضمن نظام ملكي دستوري. كان الحزب منخرطًا في العمل السياسي منذ سنوات، وتمكّن من الوصول إلى رئاسة الحكومة مرتين. غير أن نتائج الانتخابات الأخيرة في 2021، التي شهدت تراجعًا صادمًا للحزب، كشفت عن هشاشة القاعدة الشعبية، وإحباط شرائح واسعة من الأداء الحكومي، خاصة في ملفات العدالة الاجتماعية والتشغيل.
التحولات الاجتماعية وسقوط الهالة
إنَّ أحد أهم التحديات أمام الإسلام السياسي اليوم يتمثل في تغيّر المزاج الشعبي. فجيل الشباب الجديد -الذي قاد المظاهرات في الشارع ورفع شعارات الكرامة والديمقراطية- لم يعد يرى في الأحزاب الإسلامية ملاذًا أو بديلًا. فهناك تراجع واضح للتدين السياسي، مقابل صعود أشكال من التدين الفردي أو حتى العزوف عن الدين كمرجعية في الشأن العام.
السيناريوهات المحتملة: انكفاء.. أم تجديد؟
في سياق استقراء مستقبل الأسلام السياسي واستشرافه، هناك عدة سيناريوهات تدور حولها التوقعات، وهي:
1. العودة إلى المجتمع والدعوة: إذ قد تشهد المرحلة المقبلة انكفاءً اختياريًا للحركات الإسلامية نحو المجال الدعوي والخيري.
2. المراجعات الفكرية والتنظيمية: يُتوقع أن تُجري بعض الحركات الإسلامية مراجعات عميقة، تطال خطابها وتحالفاتها.
3. التحالفات العابرة للأيديولوجيا: قد تتجه إلى التحالف مع قوى مدنية أخرى على أساس أجندات مشتركة.
4. بقاء "الطليعة المؤمنة" في الظل: تركيز على التربية والتنظيم الداخلي في ظل التضييق الأمني.
خاتمة:
إنَّ المشهد الراهن لا يُبشر بعودة قريبة للإسلاميين إلى السلطة في أغلب دول المنطقة. لكن هذا لا يعني موت الفكرة، بل انتقالها إلى أطوار جديدة. وإذا كان من دروس مستفادة من تجارب تركيا والمغرب وماليزيا، فإنها تؤكد أن النجاح لا يكون بالتمكين السريع، بل بالتراكم الذكي، والاندماج الهادئ في الدولة والمجتمع.
وإذا أخذنا بما جاء في الحديث
"إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كلِّ مائة سنة من يجدد لها دينها"، فإن التغيير بإطلالته القادمة هو حتمية كونيّة، ستتوزع ملامحه وأشكاله بين ما ذكرناه وأشرنا له من سيناريوهات محتملة.