391
1
فتحُ الرّزاق الواحد.. بترغيب الرّاكع السّاجد في السّعي إلى بناء المدارس القرآنية والمساجد
.jpeg)
بقلم الأستاذ
محمد عبد الرحمـٰن بسكر
لقد عني ديننا الحنيف بالمساجد وأولاها عناية كبيرة , فتظافرت نصوص الوحيين حاثة على البذل فيها وذلك لما لها من آثار فعالة في تمكين أهل الإسلام من إقامة شعائر الدين من أداء للصلوات وجمع للزكوات وخطب الجمعات والدروس والمحاضرات والندوات واللقاءات، باجتماع صفوف المسلمين والمسلمات لعبادة الخالق جل وعلا بشتى أنواع الطاعات ومعالجة المشاكل الاجتماعية والآفات.
ولمّا قلّ اهتمام كثير من الناس في زمننا هذا ببناء المساجد والمدارس القرآنية لجهلهم الأجر العظيم الذي رتبه الله جل وعلا على بنائها وأنّ ذلك من الأجور التي لا تنقطع بعد موت أصحابها أردت أن أكتب هذه الكلمات عسى أن يجعلها ربي نافعات مفيدات لتحفيز إخواننا المسلمين والمسلمات لنيل شرف بناء بيوت خالق الأرض والسموات.
وبداية أقول :
لقد كانت أول أوقاف المسلمين مسجد قباء والمسجد النبوي وصدقة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في خيبر وصدقة عثمان بن عفان - رضي الله عنه - ببئر رومة و أرض بينبع تصدق بها علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - , وقد اعتنى الخلفاء الراشدون بالوقف رعاية وعملا على تنويع مصارفه ثم ازداد بعد ذلك الاهتمام به مع توسع الدولة الإسلامية وتنامي غلة الوقف مما دعا الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك إلى تنظيمه تحت إدارة مستقلة عرفت بديوان الوقف , ولم تنقطع أوقاف مسلمي الجزائر عن هذه الديار الطيبة منذ أن دخل الإسلام هذا القطر الطيب بقدوم الفاتحين بقيادة عقبة بن نافع الفهري - رضي الله عنه - إلى يومنا هذا.
وقد تولت الدولة في الجزائر المستقلة تنظيم ( الحبوس ) الأوقاف وجعلت لها وزارة ومديريات في كل الولايات تعنى بالقيام بإحصائها وجمع الريع العائد منها
ولكن أخي قارئ هذه السطور, هل تعلم كيف كانت المساجد زمن الاستدمار الصليبي الحاقد؟ .
يذكر المؤرخون أن القوات الفرنسية بعد احتلالها المدن كانت تهرع إلى مساجدها فتهدم بعضها وتحوّل البعض الآخر إلى كنائس أو مستودعات عسكرية.
والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصر في مطويتي هذه, ففي الجزائر العاصمة عام 1830 أغلقت سلطات الاحتلال 13 مسجدا كبيرا و108 مسجدا صغيرا ، و32 جامعا و12 مدرسة قرآنية, وفي عام 1862 لم يكن مخصصا للمسلمين لإقامة شعائرهم الدينية سـوى 4 مساجد كبيرة و8 مساجد صغيرة و9 جوامع فقـط.
وأهم المساجد التي طالتها أيدي الحقد والعبث الصليبي في العاصمة هـي:
- مسجد كتشاوة: حوّل بتاريخ 18 ديسمبر 1832 إلى كاتدرائية "سيدة الجزائر" وذلك بعد أن قتل الجنود الفرنسيون حوالي 4000جزائري اعتصموا بداخله منعا من تحويله.
- مسجد السيدة: حوّل إلى فندق " دي ريجـانس "
- مسجد علي بتشين: المشاد عام 1623 حول عام 1868 إلى كنيسة "سيـدة الانتصـار "
- مسجد " سيدي محمد الهواري "الذي بني عام 1799 بوهران حوّل إلى مخزن عام للعسكريين
- حوّل مسجـد صالح بـاي في قسنطينة إلى كنيســة.
- حوّل مسجد أبي الحسن الذي بني عام 1279م في تلمسان إلى متحف .
- وفي معسكر، حوّل مسجد العين البيضاء إلى مخزن الحبوب للجنـد , وهو المسجد الذي أعلن مِن على منبره الأمير عبد القادر - رحمه الله - الجهاد في سبيل الله من أجل تحرير بلدنا الحبيب من استدمار دولة الصليب ،
لقد ذكرت لك هذا بداية – أخي - كي تحمد الله تعالى على نعمة الاستقلال بأن أعاد الله المساجد والتصرف فيها لنا نحن المسلمين , فهل يليق بنا أن نهملها ولا نشارك في بنائها ولو بدينار ؟
وهم ينفقون الغالي والنفيس على دينهم الباطل وكنائسهم ومعابدهم الباطلة , عيب وعار عليك يا جزائري أن تسمع أئمتك وخطباءك وهم يرشدونك ويدلـّونك على بناء مسجد الحي الذي تسكن فيه أو البلدية التي تقيم فيها ويبخل جيبك عن إعطاء دينار واحد تجد أجره مضاعفا يوم لا ينفعك أخوك ولا أمك وأبوك ولا بنوك ولا كثير مالك الذي أودعته في البريد
و المصارف والبنوك ...
فهيا بنا - أخي المحسن , أختي المحسنة - نسمع ونقرأ نصوص الكتاب والسنة وسير سلف الأمة في البذل والعطاء عسى أن يكون ذلك دافعا لنا في الإنفاق بسخاء .
يقول الشيخ أبو بكر جابر الجزائري – رحمه الله - في تفسيره للآية 114من سورة البقرة ( ...ينفي الله تعالى أن يكون هناك من هو أكثر ظلما ممّن منع مساجد الله تعالى أن يعبد الله تعالى فيها, لأنّ العبادة هي علة الحياة فمن منعها كان كمن أفسد الحياة كلها وعطلها ...) من كتاب أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير
وأقول : إذا كان الأمر بهذه الدرجة العظيمة من الخطورة فإنّ العكس لا بد أن يكون صحيحا وأقصد بذلك أنه لا يوجد أفضل ممن يسعى في إعمار المساجد وبنائها وتجهيزها وصيانتها وترميمها ...إلخ
طبعا إذا كانت نيته خالصة لوجه الله تعالى , كيف لا ؟ وقد رتب الله تعالى أجورا عظيمة على تلك القربات والصدقات الجارية :
فعن عثمان بن عفان - رضي الله عنه - أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(( من بنى لله مسجدا يبتغي به وجه الله بنى الله له بيتا في الجنة )) متفق عليه
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال :
(( من بنى لله مسجدا ولو كمِفحَصِ قطاة بنى الله له بيتا في الجنة )) صحيح كما في تمام المنة , رواه أحمد وابن حبان والبزار بسند صحيح.
القطاة : طائر , و المفحص هو العشّ الذي تبيض فيه .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (( إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة صدقة جارية و علم ينتفع به و ولد صالح يدعو له )) رواه مسلم
همسة في آذان , إخواننا المحسنين-
و المحسنات :
ذكر الصحابي الجليل طلحة بن عبيد الله أن رجلين من قضاعة أسلما مع النبي صلى الله علية وسلم واستشهد أحدهما وأخّـر الآخر سنة .قال طلحة - رضي الله عنه - فأريت الجنة فرأيت المؤخر منهما أدخل قبل الشهيد , فعجبت لذلك . فأصبح طلحة - رضي الله عنه - فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم (( أليس قد مكث هذا بعدُ سنة فأدرك رمضان فصامه وصلى كذا وكذا سجدة في السنة ؟ فلما بينهما أبعد ممّا بين السماء والأرض )) صحيح الجامع , [...فانظر ياعبد الله إلى ذلك الرجل الذي عاش عاما بعد صاحبه حتى بلغ به العمل الصالح ما بلغ فكان الفارق بينهما ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم فكيف لو عاش بعده عشرة أعوام ؟ ... قد يكتب الله لك أن تعيش لتزداد من الحسنات بعد أقرانك سنوات , ولكنك بالصدقة الجارية- عبد الله - يحصل لك ذلك في حياتك وبعد مماتك وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء
إنّ من يوقف من ماله في أعمال الخير النافعة كبناء المساجد والمدارس القرآنية وتعليم العلم و...وغير ذلك من وجوه البر يحظى بفضل عظيم من الله : ثواب يتجدّد وأجر يجري وحسنات تضاعف تتجاوز حدود عمره المحدود بالسنوات وشتان بين عبدين : عبد تطوى بموته صحيفة حسناته وعبد يجري عليه الأجر إلى يوم القيامة...] – عن مؤسسة الوقف الإسلامي بتصرف
قد تتعجب – أخي - عندما تعلم أنّ التبرعات و الأوقاف ليست حكرا على المسلمين فقط دون غيرهم ؟
قال الله تعالى : ((إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون)) الآية 36 من سورة الأنفال ,
إنّ أولى الناس وأحقهم بالوقف – طبعا - هم المسلمون , ولكن هل تعلم أخي أن عبّاد الصليب النصارى الضالين لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه من تنصير في العالم أجمع زمن الكوارث والأزمات إلا بتبرعاتهم وأوقافهم ؟
فعلى سبيل المثال جاء في الإحصائيات مايلي :
[ 01- بلغت الأوقاف المخصصة لمجلس الكنيسة بإنجلترا2381 مليون جنيه استرليني
02- بلغت التبرعات في الولايات المتحدة الأمريكية عام 1999م بأنواعها المختلفة ما يزيد على 190بليون دولارا, بزيادة قدرها 64بليون دولارا تقريبا عن عام 1998م
03- زادت تبرعات الشركات والمؤسسات الأمريكية للوقف من 9.65بليون دولارا عام 1998م إلى 11 بليون دولارا عام 1999م ] عن مؤسسة الوقف الإسلامي ,
فانظر يا عبد الله كيف يعمل أعداء الله ويجتهدون بكل ما يملكون لبناء معابدهم الباطلة ونشر دياناتهم الزائفة المحرفة , أما نحن فقد رخُـصَ علينا ديننا حتى بخلنا بما يفضل من فتات أموالنا لبناء مساجدنا ومدارسنا القرآنية التي يتربى فيها أبناؤنا وبناتنا ويحفظون فيها القرآن الكريم كلام ربّ العالمين , ويتعلمون فيها التربية الإسلامية والأخلاق العالية , فإلى متى هذا البخل يا أحفاد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي - رضي الله عنهم أجمعين ؟
قال الله تعالى : (( ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء ... )) الآية 38من سورة محمد
إياكم ومحقرات النفقات :
كثير من الناس يزهد في الإنفاق بحجة أن ماله لا يفي بالغرض , فنقول له : لقد أخبرنا الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم -أن الصدقات تتفاوت بنسبتها لأموال المتصدقين , فعن أبي هريرة - رضي الله تعالى - عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( سبق درهم مائة ألف درهم . فقال رجل : وكيف ذاك يا رسول الله ؟ قال : رجل له مال كثير أخذ من عُرضه مائة ألف درهم تصدق بها , ورجل ليس له إلا درهمان فأخذ أحدهما فتصدق به ) رواه النسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحه واللفظ له والحاكم وقال صحيح على شرط مسلم , المنذري .
وها هو الشيخ العلامة الإمام عبد الحميد بن باديس يشرح لنا هذا الحديث فيقول– رحمه الله – :
{ ... يقول - صلى الله عليه وآله وسلم – إنّ درهما واحدا تصدّق به صاحبه نال به من الأجر والفضل أعظم ممّا نال صاحبُ مائة ألف درهم تصدق بها , فبلغ بدرهمه إلى غايةٍ من الأجر والفضل لم يبلـغ إليه الآخر , ولمَّا خفي وجهُ هذا على السائل لأنّ المعروف أن ثواب الكثير أكثر , بيّن له – صلى الله عليه وآله وسلم – أنّ هذا حيث يكون الدرهم بالنسبة لمال صاحبه كثيرا , فإنّ درهم ذي درهمين هو شطر ماله , وتكون المائة ألفٍ بالنسبة لمال صاحبها قليلة , فإنها لم تكن إلا من جانبه , وسَلِمَ أصلـُه ومعظمُه ... ثم يضيف الشيخ ابن باديس - رحمه الله - ... يقعد الشيطان للقليل المال في طريق الإنفاق فيُـزَهِـّدُهُ فيه , ومن مداخله عليه أنه يحقر له ما ينفقه من قليلٍ بأنه لا غناء فيه , فيقبض يده عن الصدقة بذلك القليل الذي يستطيعه فيفوته أجر كبير , فبصّرنا نبينا - صلى الله عليه وآله وسلم – بالحقيقة وبيّن لنا أنّ ذلك القليل بالنسبة لمال صاحبه هو كثير ,حتى أنه يسبق كثير غيره من أهل المال العظيم , ليشارك فقيرنا غنينا بقليله , فيكون من السابقين إلى الأجر الكثير... } من كتاب مجالس التذكير من حديث البشير النذير
وأختم مقالي هذا بقصة واقعية عسى أن تكون فيها العظة والعبرة
قصة وعبرة :
رجل تاجر من الأغنياء الموسرين صاحب الملايين يعيش في بحبوحة من العيش وسط أموال كثيرة وأبناء تجاوز عددهم العشرة . ولما سقط مريضا طريح الفراش إثر نوبة مفاجئة قال لأحد أصدقائه ممن توسم فيه الخير :( أريد أن أبني مسجدا فهلاّ بحثت لي عنه كي أتكفل ببنائه ؟ ) وبعد بحث وعناء أخذ قرابة ثلاثة أسابيع وجد ضالته وسارع بالخبر إلى الرجل الموسر في المستشفى فإذا به يعلم أن الله عزوجل أنزل الشفاء عليه فذهب إلى منزله زائرا مهنئا بزوال البأس , ولما أراد أن يودع التاجر ويذهب أخبره أنه وجد المسجد المطلوب فقال التاجر : ( ليس الآن فيما بعد يكون خيرا ) ومدّ في إخراج الحروف بما تعني من طول مدّة , وبعد سنتين من تلك الحادثة مرض التاجر مرة أخرى فأدخل المستشفى وكرر نفس الطلب لصديقه ولكن الموت يأتي بغتة وصديقه لا يزال يبحث له عن مسجد فإذا به يسمع عن وفاة التاجر فقال :
( لعله أوصى أولاده بتلك الصدقة الجارية بعد أسبوعين أو ثلاثة سأنقل رغبته لورثته لعلهم أن يقوموا بتنفيذها ) , ذهب الرجل إلى الورثة وأبلغهم رغبة أبيهم لكنه وجد عند الأبناء العشرة الجفاء والغلظة وعدم تقبـّل فكرة بناء المسجد , والشيء المحزن الذي أهمّ الرجل هو أنه علم منهم أن أباهم ذلك التاجر الذي ملك الملايين لم يوص بشيء من ماله الكثير الوفير ولو بأضحية أو حجة , والأبناء بخلوا وأحجموا عن بناء المسجد من مال والدهم الذي جمعه هما وغما في سنوات عمره الطويلة وتركه لهم عليه غرمه ولهم غنمه- القصه رواها الشيخ عبد الملك القاسم في مقال رسالة الوصيّة
وأخيرا أخي المحسن :
- هل تتاجر بكل أنواع التجارات مع البشر ولا تريد التجارة مع الله ربك خالق كل شيء ؟
- ألا تريد أن تتحصل على الأجور والثواب في حياتك وبعد موتك؟
- ألا تريد أن تشارك في عمارة المساجد بطاعة الله وحلقات تحفيظ القرآن الكريم وتدريس العلوم الشرعية ؟
- ألا تحبّ أن ترى ثمرة صدقتك في حياتك فتقر بها عينك ؟
فلا تبخل على نفسك – أخي - بتلك الأجور العظيمة ...
وفقني الله و إياك وسدّد خطانا واستعملنا في طاعته ... آميـــن