676

0

فلسفة الصبر الطريق إلى الدولة ...

 د.  محمود عباس
 
 سيناريو لحلقات وثائقية تلفزيونية بثّها التلفزيون الفلسطيني، وأثناء إعداده كان المشهد يتهيأ "لعاصفة" أخرى على الطريق الطويل والصعب الذي يسير عليه الشعب الفلسطيني منذ عشرينيات القرن الماضي بدون توقف أو انقطاع، أو حتى فرصة لالتقاط الأنفاس.

في حركة تذكّر باقتحام "شارون" للمسجد الأقصى، دنس المستوطنون الصهاينة "الحرم القدسي الشريف" بحراسة جنود الاحتلال في محاولة مكشوفة لتقسيم المسجد الأقصى - مكانيا وزمانياً -بين المسلمين واليهود، فتصدى لهم المواطنون الفلسطينيون العزل بما تيسر لهم من أدوات بسيطة، وإيمان عميق بالحق الفلسطيني في المسجد والمدينة المقدسة والأرض المغتصبة.

كان الرئيس أبو مازن يَحْضُر رَفْعَ عَلَم دولة فلسطين، العضو المراقب الدائم، الدولة تحت الاحتلال، فوق مبنى الأمم المتحدة للمرة الأولى في تاريخ فلسطين، بينما كانت الانتفاضة الثالثة تتدحرج رويداً رويدا منطلقة من القدس المحتلة، فيما دعا أبو مازن لإبقاء الانتفاض سلمياً "بالتظاهر والحجارة والقبضات المرفوعة والأعلام المرفرفة"، لأن إسرائيل سوف تُغرقها بالدم إذا ما اندفعت إلى الرد العنيف على جرائم الجنود والمستوطنين الصهاينة.

فمن الواضح أن اليمين الإسرائيلي الفاشي وعلى رأسه المستوطنون مدعومين بحكومة نتنياهو المتطرفة، يريدون تدمير مسار السلام الذي بدأ في مدريد مروراً بأوسلو وصولاً إلى السلطة الوطنية الفلسطينية، الذي كان من المفترض أن تتحول إلى دولة مستقلة عام 2000م.

هذا الكتاب ليس سيرة شخصية، ولا يزعم أنه يؤرخ "للصراع الفلسطيني الصهيوني"، بل هو محاولة لاستعراض تجربة الرئيس محمود عباس "أبو مازن"، رئيس دولة فلسطين، الذي عاصر المأساة الفلسطينية منذ ولادته في صفد عام 1935م، ومن ثم لاجئاً في دمشق، ومناضلاً فلسطينياً وعضواً مؤسساً في حركة "فتح"، وعضواً في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية وأمين سرها منذ عام 1988م، ومن ثم رئيسها ورئيس دولة فلسطين بعد استشهاد القائد أبو عمار عام 2004م.

امتلك الكثير من الجرأة والواقعية لفتح الملف السياسي في مؤسسات منظمة التحرير منذ عام 1969م، يومها كان مجرد الحديث عن أي كلام سوى تحرير فلسطين من "البحر إلى النهر" يكاد يعادل الكفر.

تعدى الثمانين من العمر وما زال يقاتل بحيوية لإنجاز الدولة الفلسطينية التي كان يجب أن تقوم منذ عام 1948م بناء على القرار الأممي رقم 181 بتقسيم فلسطين إلى دولتين، يهودية قامت واستولت على أكثر من نصف الدولة الفلسطينية المقترحة أممياً عام 1948م، ثم احتلتها كلها بعد هزيمة حزيران عام 1967م.

استطاع أبو مازن منذ عام 2011م وحتى الآن وتحت سقف الشرعية الدولية أن ينتزع اعتراف " 149 مائة وتسعة وأربعين دولة" بدولة فلسطين بصفة مراقب في الأمم المتحدة "دولة غير عضو"، أي دولة تحت الاحتلال الإسرائيلي، من واجب كل دول العالم المنضوية تحت راية الأمم المتحدة أن تعمل لتحريرها كآخر بلد محتل في العالم المعاصر، لتكون "دولة مستقلة محررة سيدة كغيرها من دول العالم".

هذا الحلم الذي بدا مستحيلاً ذات يوم بات "الحل الوحيد"، مما يصيب اليمين الفاشي الصهيوني بنوبات من الجنون، يعبر عنها الصهاينة بقتل الأطفال والنساء والرضع وإحراقهم أحياء، وإطلاق النار بوحشية على تظاهرات سلمية في الضفة وغزة وحتى في الجليل والنقب والناصرة، كما يزيد في قناعة العالم أنه لا طريق آخر.

مدخل

ولد محمود رضا شحادة عباس في صفد عام 1935م، في حارة الصواوين" في دار أهله قرب جامع خفاجة، الذي أعاد ترميمه جده "الحاج شحادة عباس". ثمانون سنة من عام 1935 إلى عام 2015م، و"أبو مازن" الطفل الفتى الشاب المناضل الوطني القائد المؤسس في حركة فتح، عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية وأمين سرها ومن ثم رئيسها، رئيس وزراء فلسطين رئيس السلطة الوطنية المنتخب منذ عام 2005م، رئيس دولة فلسطين المنتخب من المجلس المركزي عام 2008م.

رحلة طويلة، كانت فلسطين حاضرة في كل لحظة منها.

يقول أبو مازن: "أذكر كثيراً مما مرت به بلادنا في تلك الظروف لأنني خرجت من فلسطين وكان عمري (13) سنة، فكنت واعياً تماماً لكل التفاصيل الصغيرة والكبيرة".

كنت طالبا في المدرسة (خارج من الصف السادس إلى الصف السابع)، لكن جاءت أحداث عامي 1947 و 1948م وأُخرجنا من فلسطين.

عندما خرجنا لم يكن يخطر ببالنا أننا خارجون إلى لجوء طويل الأمد، فكنا نتوقع أو قيل لنا إننا سنعود خلال أسبوع أو أسبوعين أو ثلاثة، ولكن مع الأسف حصل ما حصل وذهبنا، ولا زلنا نعاني اللجوء للآن بعد 67 عاما".

إنها رحلة الفلسطيني "عوليس"، هذا الزمان الذي كف عن إنتاج الأساطير، غير أن العالم اعترف وبكثير من الاندهاش "وشاء من شاء وأبى من أبى"، أن "الفلسطيني الشعب، الثورة، القضية" هو أسطورة العالم المعاصر.

يكمل أبو مازن: "تعتبر مدينة صفد من أجمل مدن فلسطين، ليست الأجمل طبعاً، ولكن من أجملها، وهي المصيف لكل فلسطين، وهي مدينة جبلية ليست كبيرة المساحة، وعدد سكانها قليل جدا بالنسبة لذلك الوقت ونحن من أبناء هذا البلد الذي عاش به جدودنا وآباء جدودنا وآباؤنا ونحن عشنا في هذا البلد".

حينما تفتحت عيناه على الدنيا في عروس الجليل "صفد"، المطلة على بحيرة طبرية في منظر ساحر، سمع أخبار الثوار والشهداء، وتردد أمامه أسماء قادة العمل الوطني وقادة الجهاد المقدس وعلى رأسهم الحاج أمين الحسيني، حسن سلامة، عبد الرحيم محمود، عبد القادر الحسيني، وصبحي الخضراء، وتوقف ملياً أمام صورة أحد الأبطال المبكرين في رحلة الإلياذة الفلسطينية "فؤاد حسن حجازي ابن مدينة صفد الذي شارك بشجاعة في انتفاضة عام 1929م، وهاجم المسلحين الصهاينة في الحي اليهودي في "صفد"، فحكمت عليه محكمة الجنايات الإنجليزية المحتلة في حيفا بالإعدام.

يقول د. عبد السلام المجالي - رئيس وزراء الأردن الأسبق: "قامت ثورات متفرقة في فلسطين في العشرينيات ودعمت دعماً كبيراً من بعض الدول العربية وليس كلها خصوصا الدول القريبة من فلسطين".

ويقول طاهر المصري- رئيس وزراء الأردن الأسبق: "أصبحت فلسطين قضية عالمية، وهي تمثل مفاهيم الاحتلال الغاشم والاستعمار الذي كان قائما في بلدان كثيرة، خصوصاً في أفريقيا والعالم العربي، وهي قضية شغلت العالم، وما زالت وسببت الكثير من التداعيات والصراعات التي نراها الآن تدور في منطقة الشرق الأوسط أو المنطقة العربية، التي تنعكس آثارها على أوروبا والسلم العالمي بشكل واضح".

يقول الباجي قائد السبسي - رئيس تونس: "القضية الفلسطينية هي القضية الوحيدة التي تلتف حولها كل الشعوب العربية والإسلامية".

في العام الذي ولد فيه "محمود عباس" استشهد الشيخ المجاهد عز الدين القسام في قرية "يعبد" بقضاء جنين. وقبل أن يكمل عامه الأول اندلعت ثورة الاستقلال الفلسطينية الشاملة، "ثورة عام 1936"، التي استمرت إلى عام 1939م، حيث اندلعت الحرب العالمية الثانية.

يقول أبو مازن: "أهم ما في هذه الثورة أنها استمرت ثلاث سنوات، لكن لا أحد يعلم أنه حدث فيها إضراب استمر ستة أشهر، يُمكن أن يقال عنه إنه أطول إضراب في التاريخ، فعاش الناس 6 أشهر بلا عمل وبلا أي شيء، وتحملت كل هذا من أجل أن تنجح الثورة، لكن مع الأسف الشديد كانت الحرب العالمية الثانية على الأبواب، فاتصلت بريطانيا العظمى بالدول العربية التي كانت في ذلك الوقت خمسًا أو ستًّا، وقالوا لهم (حق الفلسطينيين لدينا)، لكن اطلبوا منهم أن يسكتوا عن الثورة، ليتم توجيه نداء من قبل الملوك والرؤساء العرب إلى الشعب الفلسطيني بناء على وعد من صديقتنا بريطانيا، وهو "إننا نطالب الشعب الفلسطيني أن يرمي السلاح ويتوقف ونحن نتعهد كما تعهدت بريطانيا أن يأخذ حقوقه"، وكانت النتيجة طَرد من طُرد من الشعب الفلسطيني عام 1947م، ولم نأخذ حقوقنا، واعتمادنا على صديقتنا بريطانيا، كان نتيجته أننا أُخرجنا من بلادنا".

كانت فلسطين والعالم العربي بأسره يرزح تحت الاستعمار المباشر أو الهيمنة الاستعمارية من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق. وكانت هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى المدخل المزدوج للاستعمار الفرنسي الإنجليزي للمشرق العربي بكامله...

كانت الدولتان العظيمتان فرنسا وبريطانيا المنتصرتان في الحرب العالمية الأولى قد اتفقتا على تقسيم المشرق العربي إلى كيانات أو "دول تحت الانتداب".

يقول د. عبد السلام المجالي - رئيس وزراء الأردن الأسبق: "كلنا نشتم ما يسمى اتفاقية (سايكس - بيكو) لأنها قسمتنا، فأصبحت فلسطين وشرق الأردن ولبنان وسوريا وكل منطقة بقطعة، وهذا حدث تحت الانتداب الفرنسي والإنجليزي وتعتبر نوعا من خيانة الغرب للعرب، وهي باقية لليوم، وتعتبر سبباً كبيراً للمآسي التي حدثت خلال 100 سنة، ومن المؤسف جداً أحياناً مع شتمنا (لسايكس بيكو) نتمسك بها ونقول: أنت فلسطيني، أنا أردني، أنت سوري، سوري يحضر، لا يحضر، يدخل لاجئ أم لا يدخل، ومع كل أسف يجب أن نجلس ونفكر هل سايكس بيكو السبب، ونظل نشتمها ونقول إنها سبب مأساتنا، أم لا نتمسك بها ونعتبر أنفسنا شعباً واحداً وأمة واحدة، أم نتمسك بها ونصبح إقليماً. لا نستطيع أن نلعب لعبتين".

لم يستطع الجنرال اللنبي "حينما دخل القدس" أن يخفي حنينه الصليبي، وكأنه يثأر لهزيمة ريتشاد قلب الأسد، الذي دخلها حاجاً مسالماً بموافقة صلاح الدين بعدما عجز عن دخولها حرباً، أو كأنما يستعيد النظرة الحزينة لآخر ملوكها الصليبيين يوم حررها صلاح الدين عام 587 هـ.

كانت بريطانيا قد وعدت زعيم الحركة الصهيونية "حاييم وايزمان" بإقامة وطن قومي يهودي في فلسطين، جاء ذلك الوعد على شكل رسالة وجهها "أرثر بلفور"، وزير المستعمرات البريطاني، إلى وايزمان عالم الكيمياء ورئيس المنظمة الصهيونية العالمية، وأول رئيس لدولة إسرائيل بعد إقامتها على أرض فلسطين في 15 أيارعام 1948م.

يقول طاهر المصري - رئيس وزراء الأردن الأسبق:

"تقول الصهيونية إن أرض الميعاد هي فلسطين كاملة، ويقول الدين اليهودي إن أرض الميعاد هي فلسطين كاملة، وهم يعلنون ذلك، وقد احتلوها بتعاون مع الغرب، واستولوا على فلسطين بعد وعد بلفور، وفي عام 1948م، وبعد عام 1967م احتلوا باقي فلسطين "الضفة الغربية وغزة"، فأصبحت الأرض محتلة وبحوزتهم، لكن مشروعهم لم ينته، فالخطوة الأولى كانت إنشاء دولة، أما الخطوة الثانية فهي "القدس" كعاصمة لهم كما يدعون، وهي الآن تواجه إجراءات تهويدية كاسحة، أما الخطوة الثالثة فهي الإعلان النهائي عن إنشاء إسرائيل التوراتية، وذلك ببناء الهيكل وهذا أمر يُحضّر له".

يقول د. عبد السلام المجالي - رئيس وزراء الأردن الأسبق: "بدأت القضية الفلسطينية كمشكلة في أوائل القرن الماضي عندما أعلن بلفور وعده المشؤوم بإقامة الدولة اليهودية في أرض فلسطين، والتي رفضها قائد الثورة العربية الشريف حسين رفضا باتًّا وكلفته هذه القضية عرشه، بحيث عندما رفض ذلك، تم نفيه إلى قبرص، ثم توفي وطلب أن يدفن في المسجد الأقصى المبارك".

يقول باسل عقل - عضو المجلس الوطني الفلسطيني: "أشار وعد بلفور إلى الشعب الفلسطيني بمثابة الجاليات غير اليهودية في فلسطين، وكنا نشكل 92% من السكان، وعندما يشير إلينا وعد بلفور بأننا الجاليات غير اليهودية، التي حرص وعد بلفور على حفظ حقوقها المدنية والدينية، اقترحت لجنة بيل تقسيم فلسطين عام 1937م، وكنا نشكل حوالي 90% من السكان، كانوا يريدون تقسيم تاريخنا، تاريخ الثورات والاستشهاد".

يقول د. صائب عريقات - أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية: "عندما صدر وعد بلفور عام 1917م، الذي نص على إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين مع الحفاظ على الحقوق الدينية والمدنية للأقليات غير اليهودية، كان المسيحيون والمسلمون الفلسطينيون يشكلون 92% من السكان، واعتبروهم كأقلية وجالية، وقالت الحركة الصهيونية "سوف نحيي هذه الصحراء"، في الوقت الذي كانت فيه فلسطين مهداً حضارياً عريقاً وميناء أساسياً على البحر الأبيض المتوسط، وتحتوي ثلاث جامعات وتصدر فيها 17 جريدة ومجلة بشكل شهري وأسبوعي".

لكن الوعد البريطاني، أي وعد بلفور، اشترط ألا يضر الوطن القومي اليهودي بمصالح وأهل البلاد الأصليين، أي شعب فلسطين، تلك العبارة المخادعة التي وردت في ختام الوعد القليل الأسطر، الذي نظرت فيه حكومة جلالة ملكة بريطانيا العظمى بعطف على اليهود لإقامة وطن قومي في فلسطين، لا أحد إلى الآن استطاع أن يجد حلاً لذلك التلفيق الآثم، ولا الإجابة على السؤال المرير: كيف سيقوم الوطن القومي اليهودي في فلسطين، ولا يؤثر على مصالح أهل البلاد؟.

وفي الواقع اتّضح في اللحظة الحاسمة أن تلك العبارة كانت خداعاً كاملاً؛ إذ ما أن انتشر الجند الإنجليز في الربوع الفلسطينية حتى فتحوا باب الهجرة اليهودية إلى فلسطين على مصراعيها.

يقول د. محمد اشتية - عضو اللجنة المركزية لحركة فتح: "يتمحور منظور إسرائيل للاستيطان من خلال ما صرح به "زنغیل" عام 1897م: (فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض)، وبالتالي يُحضرون اليهود من كافة أنحاء العالم ويسكنوهم في هذه الأرض".

كان المؤتمر الصهيوني الأول قد عُقد في بازل في سويسرا عام 1897م، وفي ذلك المؤتمر قررت المنظمة الصهيونية العالمية العمل على "إقامة وطن لليهود في فلسطين".

يقول طاهر المصري - رئيس وزراء الأردن الأسبق: "لماذا قامت إسرائيل؟، وإلى أي مدى يُخطط المشروع الإسرائيلي؟، سيصل إلى الأساس، فهم مؤمنون بأن هذه الأرض أرض الميعاد، وهي لهم، ويقولون في أدبياتهم إنَّ الممالك الإسرائيلية القديمة في وسط فلسطين، ووسط الضفة الغربية التي يسمونها "يهودا والسامرة"، ولم تقم على الساحل كما هي الآن، لذلك هم يبنون كل شيء بناء على "التوراة"، فيجب أن تمتد دولتهم وتقوم - وأعتذر عن الحديث بهذه اللغة-، لكن المناطق التوراتية تبعدهم، لذلك لم تكتمل إسرائيل لغاية الآن، وعندما بدأ الإسرائيليون المفاوضات قبل اتفاقية أوسلو وبعدها كانوا متذبذبين ويسيرون بمراحل مختلفة ما بين العاصفة والهدوء، لكن مخططهم واضح وهو إنشاء دولة إسرائيل".

اتصل رئيس المؤتمر والمنظمة ومؤسسها "ثيودور هرتسل" "بالسلطان عبد الحميد"، وأغراه بالملايين الذهبية اليهودية ليسمح لليهود بالهجرة إلى فلسطين واستيطانها، لكن "عبد الحميد" رفض العرض بشكل قاطع. استخدم "هرتسل" وقادة المنظمة نفوذهم في برلين لدى القيصر الألماني "غليوم" ليتوسط لدى السلطان العثماني الذي أصر على رفضه بغضب. كانت برلين يومها مركز نشاط المنظمة الصهيونية.

غير أن هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الأولى ومعها حليفتها الدولة العثمانية، قد نقلت ثقل النشاط الصهيوني ومركز المنظمة إلى لندن، فلعب "آل روتشيلد" وسواهم من أرباب المال اليهود في فرنسا وبريطانيا دوراً حاسماً في احتضان الإنجليز للمنظمة الصهيونية التي أطلقت الوعد المشؤوم ورعت التنفيذ، وأقامت للمهاجرين دولة ظل دعيت "الييشوف" ضمن دولة الانتداب وبرعايتها وبحمايتها. في الوقت الذي قاومت فيه السلطة المنتدبة بمنتهى الشراسة والعنف أي مظهر لتأسيس الكيانية الفلسطينية حتى لو كان جنينياً أو في المهد.

يقول د. عبد السلام المجالي - رئيس وزراء الأردن الأسبق: "استمر الانتداب البريطاني في تهويد المنطقة بوضع عقبات كثيرة أمام الشعب الفلسطيني، سواء في التملك أو الحركة، في الوقت الذي كانت فيه هجرة اليهود على شكل موجات متتالية إلى فلسطين بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية".

يقول د.عبد السلام المجالي - رئيس وزراء الأردن الأسبق: "لا شك أن الغرب في مجمله لا يستطيع ولا يريد الوحدة للعرب والمسلمين، لأنهم في موقع خطير استراتيجياً وسياسياً واقتصاديا من جانب، وخوفهم من أن مثل هذه القوى لن يستطيعوا السيطرة والتأمين عليها من جاب آخر، وطبعا أحد أسباب خلق إسرائيل هو نوع من (المخفر) المتقدم لهم في المنطقة".

وفي المآل الأخير، كانت بريطانيا الدولة الاستعمارية الأكبر حتى الحرب العالمية الثانية، هي الحاضن للمشروع الصهيوني حتى تحقيقه في دولة استيطانية عبر اقتلاع جماعي للشعب الفلسطيني، الذي واجه وحيداً هذا المشروع الاستعماري الاستيطاني المرعب، وكان ضحيته المباشرة.

وقد أكد الرئيس "أبو مازن" هذه الحقيقة بإدراك علمي عميق، حينما أورد في مؤلفه البالغ الأهمية الصادر عام 1984م "قنطرة الشر.. إسرائيل طريق الإمبريالية إلى العالم الثالث".

كانت "صفد" وقضاؤها أولى مدن فلسطين التي ركَّز عليها الاستيطان الصهيوني، لأن اليهود "السفارديم" يعتقدون أن "الماشيح المخلص" سينزل فيها ليخلص اليهود من رحلة الشقاء الطويلة. أما قادة الصهاينة فكان لهم شأن آخر، إنّ "لصفد" موقعًا استراتيجيًّا بالغ الأهمية، فهي تقع على أعلى جبال الجليل، وهي تطل على "بحيرة طبريا"، خزان الماء الأكبر لفلسطين، الذي تصب به ينابيع وأنهار الجولان والجليل الأعلى وجنوب لبنان "الدان وبانياس والحاصباني والوزاني"، وإليها تنحدر مياه الأمطار الغزيرة والثلوج الكثيفة في حرمون شتاء، ومنها يتدفق "نهر الأردن" الذي تعمد فيه السيد المسيح عليه السلام، إلى البحر الميت، والذي كان يعتبره آباء الصهاينة نهر الحياة لفلسطين. وإضافة إلى كل ذلك فهي موقع عسكري منيع ومشرف، ولهذا أحاطوها بالمستوطنات في وقت مبكر، وإلى الحي اليهودي الغربي الصغير فيها تسللت العصابات الصهيونية المسلحة عام 1929م ، فتصدى لها أبناء صفد ضمن ما عرف بثورة "البراق".

يقول د. محمود عباس - الرئيس الفلسطيني: "كانت هناك ثورة في عام 1929م، وكانت معالمها واضحة وبارزة في مدينتي الخليل وصفد، ما أسفر عن اشتباكات وحالات قتل بين الطرفين، وسببها الأساسي هو الهجرة اليهودية أو الموجات المهاجرة من أوروبا الشرقية والغربية للتوجه إلى فلسطين، فكانت (ناقوس الخطر) الذي يدق في عقول الفلسطينيين بأنهم يريدون أن يحلوا محلهم".

كان عدد اليهود في فلسطين لا يتجاوز الخمسين ألفاً في مطلع القرن العشرين، ولم يتجاوزوا التسعين ألفاً عام 1919م. بينما كان عدد الفلسطينيين يزيد عن ستمائة ألف مواطن، لكن المستعمرين الإنجليز، رعاة المشروع الصهيوني فتحوا الأبواب للهجرة اليهودية.

كان التصدي الفلسطيني للهجرة اليهودية مبكراً، بدأ منذ عام 1886م، وتكرر في أعوام 1889، 1891، 1898 من الفلاحين الذين فقدوا أراضيهم وبين المستوطنين الصهاينة الذين اشتروا الأرض من كبار الملاك. كان من اللافت أن اليهود من سكان فلسطين الأصليين كانوا يتعاطفون مع الفلاحيين العرب ضد الصهاينة.

وقد اتخذ هذا الصراع المبكر أشكالاً عديدة، بالعنف مرة وبالسياسة مرة أخرى. كما اتخذ طابعاً إعلامياً تحريضياً عبر سلسلة مقالات في الصحف الفلسطينية التي بلغت أربع عشرة مطبوعة كان أبرزها سلسلة المقالات التي كتبها "نجيب نصار" عن الصهيونية وأخطارها وهدفها الرامي إلى الاستيلاء على فلسطين بكاملها.

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services