290

0

بين شطري البرتقالة "محمود  درويش"  و "سميح  القاسم"

 

 

بقلم : فرحان الخطيب

 

هما شلالان من ضوء الكلمة الساحرة والشاهقة  والمقاومة بآن ، شعّا كقمرين في ليل عربي وكوني أطبق وضيق الأنفاس على وردة القرن العشرين المسماة " فلسطين "، نبعان من جواهر الكلم المعتّق بالانتماء الوطني والعروبي، بل والإنساني حيث حلّقت معانيهما المسكوبة في أجلّ أردية الألفاظ المنتقاة والمصطفاة من أغزر وأوسع لغة في العالم، ليعلنا من خلالها أننا شاعران نحمل وجعاً وألما محفورين على جسدٍ معذب ومقهور ومغتصب اسمه " فلسطين "، وهما صوتان كرنين الذهب لم يتعرضا لبحّة من صدأ، أو زوبعة من غبار، أو دفقة من فتور، بل بقيا يصدحان بما أوتيا من بلاغة البرتقال، ومفردات الزيتون، وفصاحة السنديان، وموسيقا أجراس الكنائس وآذان المساجد ليصوغا أعذب وأقدس ما قيل من شعر.  هما الطالعان من عبق الأرض كنوّارتين مخضلّتين  برائحة الندى والتراب، نسمتين عاطرتين تجوبان حواري الرامة والبروة من من قرى صفد والجليل، طائرين يغتسلان بغمام فلسطين، وينقران من قمح حيفا وعكا والنقب، يحملان النّشيد الفلسطيني معلّقاً بأجنحة الرياح، وهاطلاً مع زخات المطر الصباحي إلى كل أسماع الصاعدين على دراج الصدق إلى مضافة الله .  وفي البدء كانت الكلمة، ومن الوجع كان الشعر، ومن الألم كانت القصيدة، ومن الاحتلال كان الصهيل في مرابع الدم، دواوين شعر، ورسائل نثر.  الشاعران درويش والقاسم جمعتهما طفولة الشعر، ووحدة التضاريس، وضراوة الاحتلال، فكانا وكوّنا الصديقين الدائمين يختلفان ليتفقا، ويبتعدان ليلتقيا، ويشاكسان ليأتلقا، ولكن سفر محمود درويش ومغادرته فلسطين عام ١٩٧٠، وبقاءَ سميح في فلسطين  أثارا نقاشاً وجدالاً واسعين في الأوساط الأدبية وبين عامة الناس، وحاول كل فريق أن يشدّ اللحاف إلى موقف صاحبه ليغطيه من برد الانتقاد، وصقيع الملامة، بعد رسالة العتب الحارة التي أرسلها سميح إلى محمود، فهذا سهيل إدريس صاحب مجلة الآداب اللبنانية، رأى أن خروج محمود من فلسطين ليس ما يؤخذ عليه كشاعر مؤمن بقضية شعبه ، بينما اعتبر علي جواد الطاهر صاحب دار الآداب إن ما يعنينا من محمود درويش ليس شعره فحسب ، بل ما يعنينا محمود درويش ككل وانتقاله من ميدان إلى ميدان، غير أن ما هوكائن بين الشاعرين كان أعمق  وأبعد أثراً، ولم يدرِ الكثيرون أنهما على خير ما يرام من دوام الود والصداقة والإخاء، ولم تمض مدة من الزمن حتى تلقى درويش خبر وفاة " أمّ قاسم " أم سميح، فأرسل له رسالة تعزية جاء فيها :

 

(  أمك، أم قاسم ، أمنا المشتركة ، تنام أخيرا على مترٍ من وطن، كيف أواسيك وأنت غلى مقربة من ثراها ، خذ قصفة حبق واذهب إليها ، وقبل ثوبها الترابي باسمي ، كلمتها منذ شهر ولم تقل لي بأنها ستغادر ذلك البيت القديم ، كلمتها ولم تخبرني بأنها ستذهب بهذه السخرية العبثية إلى النهاية .. ) .

 

هذا يدل على أن الشاعرين وإن أصبحا شطرين، فهما لبرتقالة واحدة، وليؤكدا ذلك بدأت تتوالى الرسائل الإخوانية  بينهما في النصف الثاني من ثمانينات القرن العشرين، وليأتي بعد ذلك الأديب والإعلامي الفلسطيني أميل حبيبي ويجمعهما في كتاب أسماه ( الرسائل – محمود درويش وسميح القاسم ) الصادر عن دار العودة في بيروت عام 1990  م، ووصفه في مقدمته " بأنها الرسائل المتبادلة بين شطري البرتقالة الفلسطينية محمود درويش وسميح القاسم، يقول :

 

(  لا ألوم إلّا نفسي على أنني لم أنتبه إلى روعة هذه الرسائل، المتبادلة بين شطري البرتقالة الفلسطينية محمود درويش وسميح القاسم، إلا بعد أن تكاملت بشراً سويّا. أما قصدي فهو الانتفاضة التي أحسا بمقدمها إحساس الطير بالعاصفة قبل هبوبها .)

 .

وعندما قمت بقراءة هذا الكتاب ( هذه الرسائل ) والتي تقترب من الأربعين رسالة، وجدت عدّة  نقاط تعلق في ذهن المتلقي نظراً لتأكيد الشاعرين عليها، فرغبت بتكثيفها، والإشارة إليها، واختصارها، وإن كان ذلك لا يغني عن قراءتها كلها نظرا لقيمتها الأدبية والتاريخية المهمة، ولكن قبل البدء لابد من نبذتين مختصرتين عن أهم المحطات في حياة الشاعرين.

 

   ولد الشاعر محمود درويش في قرية " البروة " في الجليل 13/03/1941  م . ووالده سالم درويش وأمه حرية درويش، هاجر إلى  لبنان عام ١٩٤٧، بعد أن دمر الاحتلال قريته، وعاش فيها حوالي ست سنوات، ويذكر منها الناعمة والدامور جيدا. يقول درويش :  وعندما رجعنا متسللين إلى فلسطين وجدنا قريتنا قد دمرت وأقيم مكانها قرية " موشاف " ، فعشنا لاجئين في قرية " دير الأسد " ثم انتقلنا إلى قرية " الجديدة "وامتلكنا فيها بيتاً ، ثم إلى حيفا وانهيت الدراسة الثانوية وعشت فيها عشر سنوات وعملت محرراً في جريدة الاتحاد، وخلال هذه العشر سنوات كان ممنوعا عليّ مغادرة حيفا " إقامة جبرية " ثم أعطونا بطاقة حمراء ثم زرقاء ثم إقامة دائمة ، ومن عام 1967  إلى عام 1970  كنت ممنوعا من مغادرة منزلي، وكنت أعتقل وأدخل السجن، وكنت قد انتسبت للحزب الشيوعي الاسرائيلي، وعملت في صحافته، " الاتحاد " و " الجديد " حتى أصبحت رئيس تحريرها، ومن عام 1961  الى عام 1969  اعتقلت خمس مرات إلى أن قيض لي أن أغادر فلسطين عام 1970  إلى موسكو لأدرس في " معهد العلوم الاجتماعية " ولكني وجدتها ليست مسكناً للفقراء كما كنت أخمن، والخوف يملؤها، والدولة موجودة في كل مكان، فرجعت إلى القاهرة ومكثت فيها بين عامي 1970  و 1972  ولم أصدق أنني خارج الوطن المحتل إلا عندما أفتح شباك غرفتي المطل على النيل، وفي القاهرة تعرفت على محمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ وعلى عدد من الكتاب كنجيب محفوظ ويوسف إدريس وتوفيق الحكيم ولم التق بأم كلثوم أو طه حسين وكنت راغبا في لقائهما، وصادقت صلاح عبد الصبور وعبد المعطي حجازي وأمل دنقل، وهناك حدث تحول هام في تجربتي الشعرية، ورأيت أن العرب كانوا يصفقون لكل شعر يخرج من فلسطين بعد عام 1967  جيدا أو رديئا ، لأنه يبرهن على أن في فلسطين عربا صامدين ويدافعون عن حقهم وهويتهم . ثم غادرت مصر إلى بيروت ومكثت هناك عشر سنوات حتى عام 1982  وأصبت طوال عمري بمرض الحنين إلى بيروت، وكتبت فيها بعض دواويني الشعرية، واندلعت الحرب، ومات لي أصدقاء وفي مقدمتهم غسان كنفاني، وأظن أننا أخطأنا كفلسطينيين بإنشاء دولة ضمن دولة في لبنان، وغادرت إلى دمشق. وفي دمشق رتبوا لي أمسية على مدرج جامعة دمشق فلم يتسع للجمهور فنقلوها إلى مكتبة الأسد ونقلوا الجمهور بباصات النقل الداخلي، وأذكر أن الشاعر أحمد الجندي قال : " لوقتلناه – نحن الشعراء – وشرحنا الأسباب للقاضي سنأخذ براءة .. " . ثم غادرت إلى تونس والتقيت الرئيس ياسر عرفات والإخوان هناك وكان المشهد تراجيديا، رأيت الثورة الفلسطينية تقيم في فندق على شاطىء البحر، ولكن سرعان ما أعاد عرفات ترتيب مؤسسته، وقال لي واصل إصدار "الكرمل" فذهبت إلى قبرص ورخصتها، فصرت أحررها  في باريس وأطبعها في نيقوسيا، وأصبحت مقيما بين باريس وتونس. وفي باريس يقول درويش، تمت ولادتي الشعرية التي أميزها، ومنها " ورود أقل ".وعندما جئت إلى عمان ١٩٩٥ م، كان بإمكاني أن أعود ولو على جزء من فلسطين، ووقفت كثيرا أمام خيار العودة لأن واجبي الوطني والأخلاقي يحتم عليّ ألا أبقى في المنفى، ولأنني لن أكون مرتاحاً لأنني سأتعرض لسهام النقد والتجريح، لذلك اخترت عمان  لطيبة شعبها وقربها من فلسطين .وهناك امتلكت شقة وعشت فيها وأصدرت معظم دواويني " كزهر اللوز أو أبعد " و " في حضرة الغياب " و " أثر الفراشة " . تزوج محمود درويش مرتين، الأولى من رنا قباني ابنة أخ الشاعر نزار قباني،  وبقيا معا ست سنوات، وبعدها من  مترجمة مصرية وانتهى الزواج إلى فشل،  أعلن أنه لن يتزوج بعد ذلك، دون أن ينسى محبوه قصة عشقه اللاهبة من ريتا الفتاة اليهودية من أب بولندي وأم روسية،  التي انتهت مع حرب حزيران 1967  م. لأنها عدوة الوطن والوطن أغلى منها . كان محمود درويش يخاف من الموت، وكان لشقته ثلاثة مفاتيح كي لا يموت فيها بمفرده بعد أن دخلت الستون فناء عمره . توفي في تكساس، أمريكا بعد عملية جراحية في القلب بتاريخ 9/8/2008  م . ودفن في رام الله، قصر رام الله الثقافي .   سميح القاسم :  سميح محمد القاسم ولد في مدينة الزرقاء في الأردن في 11/05/1939  م. حيث كان والده ضابطا برتبة " كابتين " في حرس الحدود الأردني . ووالدته هنا شحادة محمد فياض، واخوته محمود وسامي وسعيد وقاسم، وزوجته نوال سلمان حسين، وأولاده عمر وياسر ووضاح ووطن محمد. عاد الى الرامة مع أسرته عام 1941  م . ودرس في مدرسة الراهبات اللاتينيات، ثم درس في مدرسة الرامة من 1949  – 1953  م ، وبعدها انتقل الى مدرسة البلدة الثانوية 1953  – 1955  م .ثم درس في كلية تيرا سانطا 1955  – 1957  م . يقول سميح القاسم :

 

 (  وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، عادت الأسرة إلى بلدتي " الرامة " في فلسطين، الجليل، ودرست الابتدائية في دير اللاتين، المدرسة الروسية القديمة، ثم المرحلة الإعدادية في المدرسة الحكومية، وأكملت المرحلة الثانوية في الناصرة، ولاحقا درست في أكاديمية موسكو الفلسفة والاقتصاد السياسي 1971 م )  .

 

ويذكر سميح أنه ردد في طفولته مع زملائه نشيد " بلاد العرب أوطاني " ونشيد " يا ظلام السجن خيّم " وكان يسمع بأسماء يهودية مثل " موشي دايان وبن غوريون " وفهم لاحقاً أن اليهود سيحتلون فلسطين . ويتذكر سميح أن والده عام ١٩٤٨ عاد ليحمل بندقيته الإنكليزية ومسدسه الحربي ليقود مجموعة من المتطوعين لقتال اليهود، حيث لحق بوالده فنهره ليرجع إلى البيت . 

 

عمل في التدريس في المدرسة الابتدائية الأولى في الجليل والثانية في الكرمل .

عمل في حيفا مساعد لحّام كهربائي في المنطقة الصناعية.

عمل في محطة وقود ومفتشاً في دائرة التخطيط العمراني .

نشر مجموعته الشعرية الأولى وهو في سن 19  سنة . 1957  م .

نشر مجموعته الثانية عام 1964  م .

عمل صحفيا في أوائل الستينات في صحيفة الغد .

ثم في صحيفة الاتحاد العائدة للحزب الشيوعي الذي انتسب إليه واستقر في حيفا.

ساهم في إنشاء دار الأرابيسك في حيفا 1973  م .

قام بإدارة معهد الفنون الشعبية في حيفا .

عمل رئيس تحرير مجلة يصدرها الحزب الشيوعي لمدة عشر سنوات .

عمل عضو في لجنة المبادرة الدرزية في اللجنة الوطنية للدفاع عن الأراضي العربية .

عمل في مجلة " كل العرب " محرر فخري والتي تصدر في الناصرة.

ترأس اتحاد الكتاب العرب في فلسطين .

 

توفي الشاعر سميح القاسم في بلدته الرامة في 19/08/2014 وشيع إلى قبره الذي أعده بنفسه في سفح الجبل المطل على الجليل في جنازة شعبية تليق بكبار الشعراء . بين شطري البرتقالة : قلت سابقا إن كتاب " الرسائل "  غنيٌّ وثرٌّ بالأفكار التي ولّدها ونثرها الشاعران، فمنها الذكريات والشوق والحنين والألم والأمل والشعر والغربة  الأرض والأم والبطولة والشهادة والكفاح  وغير ذلك الكثير، ولكن هناك نقاط ارتكاز واضحة بينهما أحببت أن أقف عندها وهي :

 

1 -   الشاعران وذكرى البدايات والبناء عليها :

 

الشاعران من جيل واحد، وتعارفا منذ نعومة شعرهما، فتأنسا بروحيهما، وجمعتهما القضية والهدف، ويرجع أول لقاء بينهما حسب ما ذكر سميح القاسم 1957  م ، حيث يقول :

 

 ( أنا أكبر من محمود بعامين، وقد زارني في الرامة، مع محمد علي وسالم جبران ومجموعة من الطلاب ليتعرفوا علي بعد إصداري الديوان الأول " مواكب الشمس " وكان عمىي ثمانية عشرة سنة، وكانوا مجموعة طلاب من ثانوية " يني يني " أحبوا أن يتعرفوا علي عن قرب، فجاؤوا وناموا عندنا، وقلت لمحمود أنت يا شاب لديك حساسية " شيلي " الشاعر الإنكليزي المعروف، وقال لي وأنت عندك عنفوان " بايرون " ومنذ خمسين عاماً ونحن أصدقاء).

 

 وعندما غادر درويش فلسطين عام 1970ى م . عتب القاسم، عتاب الأخ والصديق المحب، فأرسل محمود هذه الرسالة ليفتتح بها نهراً من الرسائل الحمالة لأشهى الكلام وأعمق المعاني، يقول :  " ما معنى أن يتبادل شاعران الرسائل ؟ لقد اتفقنا على هذه الفكرة المغرية منذ اسبوعين في " استوكهولم " الباردة، وها أنذا اعترف بتقصيري لأنني محروم من متعة التخطيط لمدة سبعة أيام قادمة، فأنا مخطوف دائماً إلى لا مكان أخر .. الآن أشمّر عن عواطفي وأبدأ، لا أعرف من أين أبدأ عملية النظر إلى مرآتنا المشتركة ولكنني سأبدأ لأنضبط ، ولأورطك في انضباط صارم .." .

 

يرد سميح :

 

" لقد أحزنني رحيلك أكثر مما أغضبني ، كان في رحيلك قسط من الأنانية بقدر ما كان قسط مماثل من الأنانية في سخطي عليك، قلت " الرامة " وقلت " دير الأسد " ، وتحضر على الفور تلك البداية السحيقة اللصيقة " لعملنا المشترك " في أعقاب زيارتك لي  في الرامة أهديتني قصيدة كان عنوانها  " عروس جبل حيدر " ومطلعها :

 

في حضن حيدر ترقدُ          حيثُ   الجمالُ  مغرّدُ

 

وبالطبع كان عليّ أن أردّ على النار بالمثل، وهكذا أهديتك قصيدة معارضة، كان عنوانها " جبل دير الأسد " وكان مطلعها :

قلبي    يثورُ    ويزبدُ         وعلى  الحنين   يعربدُ  مهلاً .. انتظر .. راجع المطلعين معي ، ألا تلاحظ شيئاً، بل تلاحظ بكل تأكيد من خلال هذين البيتين أننا منذ بداياتنا كنا مكرسين للتماثل والتناقض في آن، التماثل في الوجدان، والتناقض في شكل التعبير عن الوجدان.." .

 

2 - الشاعران  والتعبير عن قضية وطن – قضية حق :

 

 يدرك الشاعران بأنهما على حق في التعبير عن قضية حق، ويدركان أكثر بأن هذا الحق يقع تحت الظلم في رأد الضحى، وعلى مرأى من الجميع، وكلما اشتدّ الظلم ضعف الحق :

 

يقول محمود عزيزي سميح :

 

" فضحتني دمعتي منذ أيام، عندما كنت أسجل حديثاً تلفزيونياً في مدينة هلسنكي انقض عليّ أحد المحاورين ، وهو كاتب فنلندي شهير بهذا السؤال المدهش، هل تعرف كيبوتس " يسعور " ؟ أجبت : نعم، لأني أعرف أنقاضي، ولكن لماذا تحرك فيّ هذا العطش ؟

قال أنا من هناك ، أعني عشت هناك عشر سنين، ومن حقي أن أعود إلى هناك متى أشاء .  قلت : في أي وقت تشاء ، لماذا ؟

قال : لأنني يهودي .  قلت له وقد تحول إلى مرآة، يا سيد دانيال كاتس، يبدو لي أنك تعرف أنني ولدت هناك، تحت غرفة نومك، وتعرف أن لا حقّ لي في العودة إلى مكان ولادتي، بينما أنت الفنلندي، صاحب العشرين ألف بحيرة، تملك الحق في العودة إلى بلادي وقت تشاء ..قال : أعرف هذا الظلم .. " .

 

رد سميح : أخي محمود :

 

" ها أنت تعود في رسالتك إلى الإنكسارات الأولى، إلى الطفولة التي تنهض من ركلة الحذاء العسكري الانجليزي حتى فاجأتها ركلة الحذاء العسكري الصهيوني شلومو ، ها أنت تعود إلى الانقطاع القسري عن لعبة السحالي في" البروة " وماذا أقول لك عن الأيام الثلاثة بلياليها التي قضيناها مرتدين ثيابنا، منتعلين أحذيتنا في انتظار المصفحات اليهودية القادمة من أنقاض البروة عبر طلعة " الليات " على طريق صفد، ماذا أقول لك عن الخوف غير المفهوم " الأطفال يخافون فحسب " والاستعداد الكامل للهرب مرة أخرى، لا إلى كروم الزيتون وكهوف جبل حيدر القريبة، بل إلى المنافي العربية، إنني خجل من مكوثي، خجل من رحيلك، وكم تلوّعني الأيام التي نسميها النكبة .. " .

 

3 -  الشاعران ووجع الحنين :

 

وهو مولود تنجبه الغربة بكل أشكالها، فما بالنا إذا كانت غربة عن وطن يسحب من بين أسنانك، ويقضم أمام ناظريك، وتغلق أبوابه دونك من سارقه منك، هنا نكون أمام حنين مشغول بإبرة الوجع على قماش الفرقة الحادة ، يكتب درويش، عزيزي سميح :  " لماذا توبّخ حنيني ، ألأنك تخشى أن أطيعه، فأرتكب حماقة تودعني السجن هناك، أو تعلقني على حبال الفضيحة هنا، هكذا أريد أن أفهمك، وأريد أن أغبطك ، جحيم هنا، جحيم هناك " ..  وعبارة جحيم هنا وجحيم هناك، عبارة قاسية وحارقة على قلب الفلسطيني أينما كان، فلا هو مرتاح إذا غادر، وذات الإحساس إذا بقي، فهو خارج المكان الآمن أينما حل، ويتابع درويش :  " ولكني أغبطك إذ ليس في وسعي أن أجد جداراً أسند عليه ندائي ، أو ناي عظامي، غير ذلك المكان المنحوت، المرفوع على الآذان الأول، أبعد ما عجزت الفكرة والمرأة عن صد إلحاح الخريف . " .

 

يرد سميح :

 

" أخي محمود، هنا وهناك ..لا مفر أننا نعترف ونبوح ونستجدي الذكريات عزاء ما عن غربة الحضور، وحضور الغربة، ولامفر ، نشهر أحزاننا صواري ناصعة، ونندفع بزوارق الحنين بين المدرعات وحاملات الطائرات، ولا مفر ولا مكان على هذه اليابسة المزدحمة، إلى هذا الحد ضاقت بنا الأرض، أجل إلى هذا الحد، وتمتد عبر ركام العمر يدٌ صغيرة لذكرى صغيرة تهمس " خذني " أريد أن أغتسل ، أريد أن أولد من جديد، ونعود إلى منزل ما في شارع المتنبي على سفح الكرمل، المتنبي يصير شارعاً في حيفا، وتصير حيفا نمطاً جديداً من " شِعْبِ بوّان .. آهٍ مغاني الشعب .. آه أبا الطيب، ولكن العربي فيها .. " من الصعوبة والقهر بمكان أن تحنَّ إلى وطنك وأنت في وطنك !! ماذا نسمي هذا ؟.

 

4 -  الشاعران  واستشراف دوام الصمت والعماء العربي :

 

 يقول درويش مستشهداً ببيت للمتنبي مخاطباً سميح : " ربّ يوم بكيتُ منه  ولمّا         صرتُ  في  غيره بكيتُ عليهِ،  ترى هل سنرى ما هو أسوأ مما نحن فيه، لقد صحوت على رائحة حزيران هذا الصباح، ولكن بلا ضجيج . .. لقد تعلمت الأمة العربية  نعمة الصمت الحكيم، أما جامعة الدول العربية فإنها ما زالت مشغولة في البحث عن ميزانية تشييدها الجديد . شلوم عزيزي سميح شلوم .. ولكنني لا أظن أن من حق السادات أن يفرح كثيراُ، فما زال في روزنامة العرب ما هو أشد سواداً، أما لأخر الليل من أخر ؟ ما علينا إلا أن نستعد لا ستقبال ليل أشد حلكة ، فإن قاع هذه الهاوية ذات الشق المفتوح من طنجة إلى عدن لا نهاية له .." .

يرد سميح، ويقول أخي محمود :

 

" مسكين ساعي البريد المتنقل بيننا مثل رقاص ساعة أثرية، مسكين ساعي بريدنا، حمل رسالتك – دمعتك الأخيرة، كيف يوصلها إلي ، فحملته الحيرة كيف يوصلها إلي ، كيف ومن أين ومتى ؟ أبواب القارة العربية ونوافذها موصدة، مختومة بالشمع الأحمر المصنوع في الولايات المتحدة الأمريكية ، أو في ولاية اسرائيل الأمريكية، يا له من ساع مسكين .. "

 

5الشاعران  والإصرار على الكتابة :

 

يقول درويش ، عزيزي سميح :

" لا ينقذنا غير من لا نعرف ، ولسنا ضروريين إلا للمجهولين ، ما هذه المفارقة!؟  لم يخطر على بال " أرثر ميللر ( 1915 – 2005 )  عندما صبّ عذابه الشخصي في مسرحية ما " بعد السقوط " إنه سينقذ كاتباً مصريا من السقوط وهو صديقنا الكبير يوسف إدريس الذي قال لآرثر وقال لي : إن هذه المسرحية كانت طوق نجاته من أزمة غم قاتلة .. ومن حق آرثر ميللر ألّا يفهم من إلحاح يوسف إدريس عليه بالتماسك والإيمان بجدوى الكتابة .." .

 

 

 يرد سميح :

 

أقول لك في إحدى رسائلي السابقة أكتب إلي .. أكتب إليك، بضم الهمزتين وبمعنى أن  الكتابة إلى صديق ، والكتابة بحد ذاتها تشكل في خلاصتها نوعا من مخاطبة الذات، تساعدنا على اكتشاف أنفسنا من خلال اكتشافنا للأخرين، والكشف عن الأشياء التي تتناولها الكتابة

 

6 -  الشاعران وفضح الانتماء اليهودي الكاذب والمنقطع الجذور :

 

يقول درويش :

 

" السيدة " شيرلي هوفمان " أمريكية – اسرائيلية تعيش في مدينة القدس ، التقيت بها في مهرجان الشعر العالمي في " روتردام " هولندا، قرأتُ شعراُ عن أزقة القدس، وقرأتْ شعراً عن حجارة القدس، قرأتُ عن تيهنا الجديد، وقرأتْ عن تيهها القديم، وأرجعت سبب الحروب في الشرق الأوسط إلى النساء،  إلى جدتهم سارة وجدتنا هاجر" اللتين كانتا زوجتين لنبي الله ابراهيم " . لم تكن مشكلة السيدة هوفمان الوحيدة هي أنها جاءت لتمثل الشعر العبري الحديث دون أن تفقه شيئاً في اللغة العبرية، ولكن مشكلتها أن ابنتها اليهودية الأمريكية متزوجة من شاب هولندي مسيحي ، وحين سافر العروسان إلى القدس تعرفا على شيخ مسلم سرعان ما أدخلهما في الدين الإسلامي، وهكذا فإن أحفاد السيدة هوفمان اليهودية سيكونون مسلمين هولنديين امريكيين اسرائيليين ، قلت لها: هذه هي الحياة، وهذه هي القدس.

 

رد سميح :

 

" وفوق طينتنا نبتل بالخرافات، وبالسيدة " شيرلي هوفمان " التي تتحدث عنها برسالتك، أمّا بشأن " هاجر " فإنني أكتفي بالرمز، ولعلك تعلم أنني أطلقت هذا الإسم على طفلتي التي لم تولد بعد، سارة شيء أخر، وأكتفي بالرمز مرة أخرى، أنا لا أحب النساء المستهترات اللواتي يلعبن بأفئدة الرجال الشيوخ فيدمرن الأسر ويشردن الأمهات والأطفال، وأكثر من ذلك ، فإنني احتقر هذا النوع من السيدات وأؤمن بأنهنّ في جوهرهنّ نساء تعيسات منكوبات بعقدة الشعور بالنقص والسادية.." . وبالتأكيد ندرك جميعا إلى ما يقصد الشاعران اللبيبان من هذا الموقف عند درويش، وبالرد الواضح عند القاسم.

 

7 -   الشاعران وما زال الجرح مفتوحاً :

 

عزيزي سميح : يقول محمود درويش :

 

" ماذا ستقول عندما تذهب إلى كفر قاسم ؟ لقد حلت الذكرى الثلاثون لإحدى مذابح  هذا العصر بالمذابح، كفر قاسم .. اسم من دمنا .. أحد أسماء دمنا.. كفر قاسم .. تحرك في النفس غابات " الأخر " حوار السيف والرغيف ، خطاب الوحش إلى طفلة مهجورة هي إحدى حفيدات " هاجر" اسم تتنازعه هويتان : " أنا أقتل ..إذن أنا موجود " .  " كفر قاسم " بعد ثلاثين عاماً من انتصار حبة القمح على البندقية، لا تتذكر إلا نفسها، فلاحين وتاريخ أرض ويرتد الدم إلى وجه القاتل هوية وحيدة، وشكل حياة مشروطاً بالموت، كفر قاسم لا تحتفل إلا بنشوة البقاء . لا أتمنى أن أكون معك هذه المرة، على مقبرة بلغت من العمر ثلاثين عاماً، طالت نباتات الشوك وكبرت أشجار النخيل ، واشتعلت شجرة الخبيزة ثلاثين مرة ، للمقابر أيضا عمر وتاريخ

 

 

ويقول سميح ردّاً على رسالة درويش :

 

" ولأنني لم أتمكن من المشاركة هذا العام في مهرجان الذكرى الثلاثين لمجزرة كفر قاسم على أرض المجزرة وبين ورودها الحية بدماء الشهداء .. ومع ذلك فالمطر يواصل هطوله وتواصل الحقيقة ظهورها ونموّها .. ومع هذه الأمطار الغزيرة ظهرت حقائق جديدة بشأن مجزرة كفر قاسم، فقد نشرت صحيفة " هعير " الصادرة في تل أبيب في العاشر من تشرين الأول اعترافات عدد من " أبطال " المجزرة، ويكفي أن نسجل اعترافات الجندي شالوم عوفر : كنا مثل الإلمان ، هم أوقفوا الشاحنات وأنزلوا اليهود منها وأطلقوا الرصاص عليهم، وهكذا نحن لا فرق، نفذنا أمراً مثلما نفذ الجندي الإلماني أمراً إبان الحرب حين صدرت الأوامر له بذبح اليهود ..

ويتابع عوفر : أنا إنسان عديم الإحساس غير نادم على شيء، فقد كنت متورطاً في أمور أسوأ ، فمنذ الخامسة عشرة من عمري وأنا معتاد على المشي فوق الجثث .." .

 

 

8 -  الشاعران ومطر الشتاء :

 

 

يقول درويش :

 

" وها أنذا في شتاء جديد ، أشجار عارية وأشجار من فضة وثلج اصطناعي، وبعد قليل سيولد السيد المسيح، وابن بلدنا، وبعد قليل سيولد من خطاه عام جديد ، وبعد قليل سننخرط في عادة التأمل فيما صنعت بنا الجلجلة .. ليس لي ليل لأحتفي بشتاء لا يفعل ما هو أكثر من إطالة الليل ، وحشو القلب بالتوجس والوحدة .. إلى أين أخذه ، إلى أين يأخذني هذا الشتاء ؟ وكيف نقوى هو وأنا على سأم التكرار وابتكار معجزة الدهشة وسط ركام الخيانة الكبرى المرفوعة إلى مستوى القداسة .. شتاء .. شتاء من دم ؟ مطر أحمر على المخيم. ولا يملك شعبي غير قوة هذه العزلة هنا وهناك .."

 

 

يقول سميح :

 

" أخي محمود ، أمطرت رسالتك الشتائية على القلب، وكان عارياً كما ولدته غربته، فلا لوم عليه إذا ارتجف، عصفوراً في العاصفة، ورقة نابية عن شجرة الحكمة ، او ولداً من أولاد المخيم الصغير تحت خيمة الله الكبيرة .. مطرٌ عندنا .. وليس لنا .. مطرٌ لا ينقطع ..هرة غريبة تموء في مثل هذا الوقت الغريب .. وقلب يموء مثل هرة منبوذة تحت المطر .." . كلنا يعلم رمزية المطر في الشعر والحياة، إنه رمز العطاء والخير، ولكنه حين يهطل على قلب موجوع أنهكته الغربة في الوطن، وثقل عليه الوطن في الغربة، يصبح المطر بلون أخر .. وتفسيرات بعدة ألوان إلا لونه الحقيقي .

 

 

9 -  الشاعران والحجر والإنتفاضة :

 

أخي محمود :

 

" كم أنا سعيد وممتلىء غبطة وتفاؤلاً بوردتنا الطالعة من حجر .. وفي الوقت نفسه أنني خائف على هذه الوردة .. وتعال نحاول أن ننظر إلى حجرنا هذا من زاوية أخرى .. إنّ مئتي مليون عربي، تعمر بهم قارة شاسعة واسعة لا حدود لثرواتها وخيراتها يجدون كرامتهم المفقودة في حجر عار تقذفه راحة فتى فلسطيني يكاد يكون عارياً في مخيم يكاد يكون عارياً منذ أربعين سنة.  لماذا ؟

لماذا لا يكون العكس المنطقي هو الصحيح ؟ لماذا لا تكون هذه الملايين العربية هي التي تعيد إلى الفتى الفلسطيني كرامته المغتصبة .

إلى هذا الدرك من الفقر السياسي والأخلاقي تردت أمتنا التي كانت عظيمة؟ ألا تستطيع هذه الملايين استرداد كرامتها.. كرامتها بنفسها ؟ أما من حجارة في الوطن العربي ؟ قسماً بكل ما نحب ونقدس ، لو أن هذه الأمة قررت مقاطعة الكوكا كولا الأمريكية لأسقطت عالماً وأقامت عالماُ .. أرجو وأصلي .. قبلتي الحجر .." .

 

 

عزيزي سميح :

 

" نعم ..إن المعاني التي يبذرها هذا الحجر ، القادر على كل تأويل وترتيل وتنزيل، في تحوله من تراب إلى سنونو، من ماء إلى نار ، من هواء إلى كلمة، هي أكثر أيام حياتنا موهبة وإشراقاً .. وأنت على حق ياعزيزي، في أن تنزف صرختك: أما من حجارة في الوطن العربي؟ ولكن إياك أن تصدق الشكل الذي يتم فيه تقاسم الوظائف بين هذه العواطف. نعم لقد وجدت الملايين العربية تعويضاً عن كرامتها في حجر، ومن قبو سجنها الكبير صفقت لنموذج البطل العائد إليها في طفل فلسطيني يُشهر آمالها، أما بعض الكتبة، فلا يقرأ من آيات هذا الحجر غير ما يبرر التصاق جبهته بحذاء الحاكم، وأما بعضهم فقد أدمن شتم الذات لسهولة دوران هذه الإسطوانة.

ليت الحاكم العربي يترك الداخل وشأنه، ليته لا يشارك الاسرائيلي الخوف من استقلال الفلسطيني العربي، وليته لا يشارك الاسرائيلي والأمريكي عملية الإجهاز على الانتفاضة .. " . لقد أصبحت رسائل الشاعرين محمود درويش وسميح القاسم " شطري البرتقالة " من الكتب التي نرجع إليها، ليس للقراءة فحسب، بل لندرك أن الكلمة الحق لن تموت، وإن الشاعرين كانا خارج فلسطين أو داخلها، هما حمّالان للكلمة بل رسولان للشعر وللوطن بآن، يبشران وينذران ويحذران، يحومان حول مذابح الأمة وينقلان الهول والخراب ويستحثان الضمير العربي والإنساني، وما أصعب الرسالة حين لا مجيب لها، إنهما شاعران كما حفرا فلسطين على روحيهما وفكرهما وشعرهما وجسديهما، أيضاً فعلت فلسطين بهما، فأوتهما في ثراها برتقالة ذات شطرين، يرقدان ليزهرا يوما ولا بد  أن يزهرا، الشطر الأول يرقد في رام الله، والشطر الثاني في الرامة، ليكونا رغم كل شيء برتقالة فلسطينية ذات سيادة وكبرياء بين برتقال فلسطين، وليس غير فاسطين. 

 

 

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2024.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2024.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services