85
0
بين الحياة والموت.. أعوان الحماية المدنية بالجزار يُخاطرون بحياتهم لإنقاذ كلبة سقطت في بئر ترابي

في صباح هادئ من صباحات منطقة الجزار بالولاية المنتدبة بريكة، كُسر روتين اليوم بخبر غير مألوف: كلبة سقطت في بئر ترابي تقليدي بعمق 20 مترا، في مشتة أولاد مقلاتي بالمعذر.
ضياء الدين سعداوي
لكن ما بدا في البداية مجرد حادث عرضي بسيط، سرعان ما تحوّل إلى قصة إنسانية بامتياز، تُبرز الجانب النبيل من مهام الحماية المدنية، وتكشف عن شجاعة رجال يُخاطرون بأنفسهم من أجل كل روح حيّة، حتى وإن كانت روح كلبة.
مغامرة في عمق الأرض
في موقع الحادث، كان البئر الترابي الجاف والمكشوف يفتح فاه على اتساعه، كندبة مهملة في جسد الأرض. قطره بلغ ستة أمتار، وعمقه عشرون، وهو ما يجعل النزول إليه محفوفًا بالمخاطر. لكن الأعوان، ودون تردد، باشروا التحضير لتدخل دقيق، محفوف بكل الاحتمالات، مدفوعين برغبة صادقة في إنقاذ حياة مخلوق ضعيف، وتفادي كارثة بيئية محتملة.
أحد أعوان الحماية المدنية، ممن شاركوا في العملية، وصف المشهد قائلا:
"ليست المرة الأولى التي ننقذ فيها حيوانا، لكن كل مرة نشعر وكأنها الأولى. رؤية المخلوق يحدق فيك من عمق البئر، بعينين فيهما رجاء، كافية لتحرّك إنسانيتك بكل قوة."
وبحضور ممثلين عن المصالح الصحية البلدية و المصالح الفلاحية، عمل الفريق بروح تنسيق عالية ودقة كبيرة، مُستخدمين الحبال وأجهزة النزول الخاصة، لإخراج الكلبة دون أن تتعرض لأي أذى.
من كلبة إلى ناقوس خطر
هذا الحادث، الذي استدعى تدخلا معقدا لإنقاذ حياة كلبة، أعاد إلى الواجهة خطرًا ظلّ صامتًا في قلب الريف: الآبار التقليدية المهجورة. وهي آبار حُفرت في زمن الحاجة، لكن لم تُغلق حينما هُجرت، لتتحول إلى مصائد مفتوحة، تهدد الإنسان والحيوان على حدّ سواء.
في أعقاب الحادث، شُكلت لجنة مشتركة على مستوى دائرة الجزار تضم قطاعات الحماية المدنية، الفلاحة، الأمن، والدرك الوطني، إلى جانب البلدية ومصالح حفظ الصحة، لإجراء إحصاء شامل لهذه الآبار، التي يتراوح عمق بعضها بين 20 و35 مترا، بل ويتجاوز ذلك أحيانا. الهدف هو تحديد مواقعها بدقة واتخاذ إجراءات فورية لحمايتها أو ردمها، حفاظًا على الأرواح والممتلكات.
الإنسان حين يعلو على الخطر
ما يُميّز هذه الحكاية ليس فقط إنقاذ الكلبة، بل الوجه الإنساني للمهمة. فهنا، لم يكن الأمر متعلقا بحياة بشرية، لكن رجال الحماية لم يترددوا. شجاعة دون مقابل، وإنسانية بلا تمييز، واحترافية تُثبت أن الواجب لا يُقاس بقيمة الهدف، بل بصدق النية.
مشاهد الحذر والتنسيق، الأنفاس المحبوسة وهي تنتظر صعود العون من أعماق البئر، والصمت المشوب بالتوتر حتى ظهرت الكلبة سالمة بين يديه... كلها لحظات تُجسد عمق الروح الإنسانية في هؤلاء الرجال، وتجعل من عملهم أكثر من مجرد وظيفة، بل رسالة.
الحماية المدنية: أكثر من طوارئ
يتعامل المجتمع عادة مع أعوان الحماية كقوة تدخل عند الحرائق أو الحوادث، لكن مثل هذه الحوادث تُذكرنا بأنهم جنود في خدمة الحياة بكل أشكالها. سواء تعلق الأمر بإنقاذ طفل، عجوز، قطة، أو كلبة... فإن القيم التي يحملها هؤلاء لا تُميز، بل تنبع من عقيدة احترام الحياة.
وفي حديث لممثل لجنة الصحة البلدية، أشار إلى أن "هذه الواقعة ستحفّز جهود التوعية في المنطقة، لا فقط بخطورة الآبار المهجورة، بل أيضًا بأهمية احترام الحيوان كجزء من بيئتنا وتوازننا الإنساني."
رسائل ما وراء الحادثة
حادثة الجزار ليست فقط قصة إنقاذ، بل دعوة صريحة لإعادة النظر في علاقتنا بالفضاء الريفي، بأخطاره، بإهماله، وبما ترك فيه الإنسان من ندوب، من حفر غير مغلقة، وأسوار مهدّمة، ومسؤوليات مؤجلة.
وهي أيضًا تذكرة بأن الرحمة لا تحتاج إلى كثير من الشعارات، بل إلى رجال يعملون بصمت، في صقيع الصباح أو لهب الظهيرة، لأجل كل حياة، حتى وإن كانت حياة كلبة عالقة في بئر مهجور.
ربما خرجت الكلبة من البئر بخدوش بسيطة، لكن ما تركته خلفها من درس في الإنسانية، لن يُنسى في وجدان كل من حضر أو تابع أو قرأ عن هذه الحادثة. إنها قصة كلبة، لكنها أيضًا قصة رجال حملوا الحياة على أكتافهم، ونزلوا إلى عمق الخطر ليعيدوها إلى الضوء.