نحن على أبواب نهاية و رحيل أيام مباركات من العشر الأول من شهر ذي الحجة، ساعاتها مباركات، ولحظاتها غاليات، إذ فيها من الخصائص والصفات ما يجعلها أفضل أيام الدهر، وأبرك ليال العمر، وإذا كان أصحاب التجارات في الدنيا يعرفون للمواسم قدرها، فيكثفون فيها النشاط ويضاعفون فيها الجهد طمعًا في تحقيق الأرباح الوفيرة، فإن تجار الآخرة لا يضيعون الفرص الثمينة، فهم يعرفون لمواسم الطاعة حقها ومستحقها، فيتأهبون لها ويشمرون جميعًا على سواعد الجد، إذ يضع كل واحد خطة تفصيلية للاستفادة من هذا الموسم، ثم يستثمرها الواحد منهم بكل جد ونشاط، وهو يترقى في درجات معرفة الله - تبارك وتعالى- والتقرب إليه، والإنس به - سبحانه وتعالى -.
فتكون هذه الأيام بمثابة محطة تعبئة للوقود الإيماني يتزود منها لما بقي من له من أيام العام، فرمضان محطة تعبئة وفي عشرها الأخيرة كان حجر الأساس وهو قوله تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)، والحج محطة تعبئة وفي العشر الأول كان الاكتمال والتمام بقوله تبارك وتعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا).
وقوله تعالى: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ ۚ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ ۗ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ).
أو كما قال الشاعر الحكيم :
تزود من التقى فإنك لا تـــــــــدري إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجر
فكم من صحيح مات من غير علة وكم من سقيم عاش حينا من الدهر
خصائص العشر الأول من ذي الحجة وفضائله
تتميز العشر الأول من شهر ذي الحجة بعدة خصائص لم تجتمع في غيرها، منها: قوله تعالى:
وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِىٓ أَيَّامٍۢ مَّعْلُومَٰتٍ، قال بن عباس- رضي الله عنهما - : الأيام المعلومات هي العشر الأول من شهر، ذي الحجة.
ومن خصائص الأيام العشر الأول أن الله - عز وجل - أقسم بها قائلا: (وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ) والعظيم لا يقسم إلا بعظيم، وقد قال بن عباس-رضي الله عنهما-: المراد بها العشر الأول من شهر ذي الحجة.
ومما يجعل الموسم متميزا أنه ميدان المسارعة في الخيرات والتسابق في الطاعات، بل هو أفضل أيام العمل الصالح، فما تقرب المتقربون إلى الله- عز وجل- أفضل من هذه الأيام المباركات، وذلك لما رواه البخاري عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال:
ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام، قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلًا خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء
إن فضل هذه الأيام يتجلى باعتبارها موسما للحج وهو الركن الخامس من أركان الإسلام، ففيه أيام عظام، وليال كرام، مشاهد الحجاج الكرام وهم يطوفون بالبيت و يسعون بين الصفا والمروة، ويقفون بعرفات، يحدو بهم النشيد الرباني: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد لك والملك، لا شريك لك)
يا لها من أيام عظيمة، منها يوم التروية في الثامن من شهر ذي الحجة، وفيه يصعد الحجاج من مكة إلى منى ملبيين بالحج، وبعده يوم عرفة يوم مشهود، وهو خير يوم طلعت فيه الشمس، دون أن نغفل يوم النحر الذي هو يوم الحج الأكبر، ولقد ورد فضله في الجامع الصحيح، أن النبي – صلى الله عليه وسلم- قال:
" أعظم الأيام عند الله يوم النحر "
ومن خصائص هذه الأيام أن الله أكمل الدين فيها وأتم على عباده النعمة، قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا)
إذن؟ فهذه الأيام هي أفضل أيام الدنيا، كما جاء في قول النبي-صلى الله عليه وسلم
أفضل أيام الدنيا العشر : يعني العشر من شهر ذي الحجة. فيا لها من أيام عظيمة، وساعات ثمينة، اجتمعت فيها الطاعات وتعانقت فيها القربات، من صلاة وصيام وحج وصدقات!
فهل من مشمر لاستغلال هذا المواسم الكريمات؟ هل من متسابق في مضمار الخيرات؟ هل من مجيب لنداء رب الأرض والسموات؟
كيف نغتنم أواخر العشر الأول من ذي الحجة
هذه الأيام المباركة، كيف نغتنمها بما يكتب لنا الحسنات ويرفع لنا الدرجات، ينبغي علينا أن نتوب من جميع أنواع الذنوب، ونراقب في كل حركة وسكنة علام الغيوب، ونسارع في العودة إلى الله، قبل حلول الخطوب، و فوات الأوان.!
أخص الأعمال قاطبة في هذه الأيام هو الحج إلى بيت الله الحرام لقوله الملك العلام ، وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا
ومن الأعمال التي تؤدى في أيام العشر ولياليها: التكبير الكبير باسم الإله العلي القدير بقولنا: (الله أكبر، الله أكبر، لا اله إلا الله، الله أكبر، ولله الحمد) ، فقد كان الصحابة الكرام- رضي الله عنهم- يرفعون أصواتهم بالتكبير في هذه الأيام العشر، وهذه ما اختصت به هذه الأيام العشر دون غيرها، ويسمي هذا بالتكبير المطلق بالليل والنهار..
ومن الأعمال التي يستحب فعلها في هذه الأيام صيام تسعة أيام لغير الحجاج، وأما الحجاج فلا يصومون اليوم التاسع، للتقوي على الوقوف بعرفة، وأما غير الحجاج فصيام هذا اليوم في حقهم يكفر الله به ذنوب السنة الماضية والسنة الآتية، لما وراه مسلم عن قتادة-رضي الله عنه-قال سئل رسول الله عن صيام يوم عرفة؟ قال:
وهذا فضل عظيم من الله سبحانه وتعالى، وفي حديث حفصة: (أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-كان يصوم هذه العشرة).
وفي يوم النحر يشرع ذبح الهدي أو الأضاحي، وأول ما يبدأ فيه في يوم العيد هو ذبح الهدي، وهذا بالنسبة للحجاج..
وأما غير الحجاج فيذبحون الأضاحي، تقربًا إلي الله سبحانه وتعالى، وسنة نبوية سنها أبونا إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- وأحياها نبينا محمد-صلى الله عليه وسلم-.
والأضحية قربان عظيم يتقرب بها المسلم إلى الله، ويرى الإمام أبو حنيفة - رحمه الله - أن ذبح الأضحية واجب على الموسر، وأما جمهور أهل العلم فيرون أنه سنة مؤكدة، وليس بواجب؛ وعلى كل حال فذبح الأضاحي والهدي في هذا اليوم وما بعده يدل على فضل هذا اليوم؛ وهو المراد بقوله تعالى:
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
(فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ)،
فصل صلاة العيد، وأنحر هديك، أو أضحيتك في هذا اليوم كما جاء في الصحيحين: قال رسول الله :
إن أول ما نبدأ به يومنا هذا، أن نصلي، ثم نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سنتنا، ومن ذبح قبل ذلك فإنما هو لحم قدمه لأهله، ليس من النسك في شيء
ويسن للمضحي أن يأكل من أضحيته، ويهدي للأقارب والجيران و والفقراء، قال تعالى:
(فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ)، يا لها من أيام خالدة مجيدة! ويا لها من فرص ثمينة قد لا تعوض! وستظل مجرد كلمات جمعت في عبارات ما لم نجسد معانيها في معترك الحياة. فدونكم هذه المواسم الكريمة، ألا فاغتنموها بالطاعات والقربات، عسى الله أن يدخلنا
وإياكم فردوس الجنات.
تقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال
وعيدكم مبارك سعيد
|