754
0
أنيس بويلي... حين يصبح الإمتياز عادة
ولاية باتنة تحتفي بـ302تلميذًا من صنّاع التفوق، و تلميذ واحد يتصدر المشهد بـ19.42

في صباح مشمس من صباحات شهر جوان، وبين جدران متوسطة "زيغود يوسف" المتواضعة في بلدية عين التوتة، كان طفلٌ يرتدي "تيشرت " أبيض بأكمام قصيرة رمادية، يتلقى التهاني بابتسامة مرتبكة. لم يكن يصرخ أو يرفع شارة النصر، بل كان يردّ بإبتسامة مقتضبة وعينين لا تغادران الأرض.
ضياء الدين سعداوي
ذلك الطفل هو أنيس بويلي، التلميذ الذي دوّى اسمه في جميع المؤسسات التربوية لولاية باتنة بعد أن حقق أعلى معدل ولائي في شهادة التعليم المتوسط: 19.42 من 20.
لكن أنيس، رغم الأرقام اللافتة، لم يكن سوى نقطة ضوء في مشهد أوسع من التألق ،301 تلميذًا آخر في باتنة، نالوا معدلات تساوي أو تفوق 18 من 20، بمستوى امتياز رسمي، كما أعلنه الوالي محمد بن مالك خلال زيارة خصصها لأنيس في بيته بمدينة عين التوتة، تكريمًا له ولزملائه المتفوقين.
رقم يُقرأ اجتماعيًا… لا تربويًا فقط
"نحن أمام مؤشرات تؤكد نضجًا تربويًا في ولايتنا"، قال الوالي للصحفيين، وهو يسلّم شهادة تهنئة رمزية لأنيس وسط تصفيق أهله و الوافدين، لكن خلف هذه الجملة الإدارية الهادئة، يكمن ما هو أبعد من التفوق الرقمي.
فالعدد 302 لا يمثل فقط عدد التلاميذ المتفوقين، بل يكشف عن تحول نوعي في علاقة المدرسة بالمجتمع في باتنة، وعن مستوى دعم غير مسبوق – رسميًا وعائليًا – يُوجّه نحو التعليم كرهان للإرتقاء.
وبين كل هؤلاء، لم يكن أنيس مجرد "الأول"، بل النموذج الصافي لما يمكن أن تفعله العزيمة اليومية حين تتقاطع مع بيئة منزلية حريصة، ومنظومة مدرسية تؤمن بالهدوء أكثر من الصخب.
من القسم التمهيدي إلى المنبر... رحلة تلميذ حافظ للقرآن الكريم
ولد أنيس بويلي سنة 2010 في أسرة متوسطة الدخل، لم يُصنع له طريق خاص، ولم تكن له امتيازات تعليمية استثنائية. لكنه – كما يخبرنا والده – أظهر نبوغًا مبكرًا منذ نعومة أظافره :
"منذ التمهيدي، لم يسبق له أن حصل على نتيجة أقل من المراتب الأولى، كان مختلفًا، لا بالذكاء فقط، بل بالإنضباط و الأخلاق . أصرّ و واصل إلى أن حفظ القرآن الكريم كاملًا، قبل سن الثالثة عشرة."
في منزله، لا تلفاز كبير، ولا بلايستيشن، بل مكتبة صغيرة بزاوية الغرفة تضم مصحفًا، كتبًا مدرسية، ومجموعة من كتيبات الفيزياء و الرياضيات المخصصة للمبتدئين.
وحين تسأله عن حلمه، يجيب دون تردد:
"أحب أن أكون طيار، أحب أن أرى زروقة كوكب الأرض من أسفلي .
مؤسسة عادية... ونتيجة غير عادية
متوسطة زيغود يوسف بعين التوتة لا تملك تجهيزات متطورة، ولا تصنّف من بين المؤسسات "النخبوية". لكن داخل جدرانها، كما تؤكد مديرتها، يسود مناخ يركّز على التحفيز النفسي والإنضباط الجماعي.
"نحن لا نصنع المعجزات، بل نرافق التلاميذ باحترام ومسؤولية"، تقول المديرة. "أنيس هو نتاج تفاعل سليم بين أسرة واعية، وأساتذة جادين، وتلميذ يعرف ما يريد".
هنا، يصبح التفوق، لا امتيازًا فطريًا، بل ممارسة يومية تُبنى بصبر، وتُروى بالكلمة، وتُسقى بالقدوة.
التفوق الجماعي... لا يُلغي الفرد
في الجزائر، كثيرًا ما يُحتفى بالأوائل، ويُغفل عنها السياق العام ، لكن هذا العام أرقام باتنة تستحق قراءة أعمق،
302 تلميذًا بتقدير امتياز، يعني أن حوالي 1.5 تلميذ من كل مائة تلميذ ناجح في الولاية، قد حققوا نتائج تُصنّف دوليًا في خانة "التميز الأكاديمي".
هذا الإنجاز لا يمكن فصله عن جهود الأساتذة، وارتفاع الوعي العائلي بقيمة التعليم، وحتى عن الضغط الإيجابي الذي خلقته المسابقات الولائية وبرامج الدعم البيداغوجي.
لكن بين كل هؤلاء، تبقى قصة أنيس رمزًا... لأنها لا تتعلق فقط بعلامة على ورقة، بل بتلميذ يحفظ القرآن، يعشق الفيزياء و علم الطيران، ويمشي بخطى ثابتة نحو عالم لا يعرف فيه أحد اسمه بعد... لكنه يعرف جيدًا ما يريده هو.
أنيس... صورة لطفل لا يحب الظهور، لكنه يستحق كل الضوء
أنيس لم يُصنع في قاعات فاخرة، ولا في مدارس دولية، بل وسط حيّ شعبي، وداخل قسمٍ يتسع لأكثر من خمس و ثلاثين تلميذًا. تفوّقه يربك الخطابات الكسولة عن الرداءة، ويمنحنا لحظة نادرة لنؤمن بأن شيئًا جميلًا يُبنى… بعيدًا عن العناوين، لكن قريبًا من الحقيقة.