376

0

بركة نيوز تكشف قصة أول امرأة من ولاية تقرت تنال الدكتوراه في الأدب الإنجليزي

في أقصى الجنوب الشرقي للجزائر، من قرية "قوق" البعيدة عن صخب المدن، في مكان بسيطٍ غلفت الحياة فيه لمسة بدائية خالية من الترف، حيث تقاس الأحلام بالشغف لا بالإمكانات، ولدت قصة امرأة جعلت من العلم وسيلتها لتغيير الواقع.

نسرين بوزيان 

ولأن الإصرار لا يعرف المستحيل، تحول الحلم الصغير إلى مسار ملهم، لتصبح اليوم واحدة من الأسماء البارزة في الحقل الأكاديمي، وأول امرأة من ولاية تقرت تتحصل على شهادة الدكتوراه في الأدب الإنجليزي، بعد مشوار حافل بالتحديات، إنها الدكتورة أمينة باديجة.

 

الخطوة الأولى في الطريق


في عام 1992، ولدت أمينة باديجة في قرية "قوق" التابعة لبلدية بلدة عمر بولاية تقرت ، وقد فقدت والدها في سن مبكرة، لذاعرفت اليتم  مبكرا ، ورغم ذلك لم تستسلم أمام قسوة الحياة، بل حولت ألمها إلى دافع للمضي قدما.
أما والدتها، فقد تحملت مسؤولية التربية كاملة، فكانت الأب والأم والمربية والقدوة في الوقت نفسه، كما غرست في ابنتها حبّ التعلم والإصرار على النجاح.
ومن ثم أدركت أمينة منذ صغرها أن السبيل الوحيد لتغيير واقعها هو العلم، فقد كانت ترى في الدراسة نافذتها نحو مستقبل أفضل.
وهكذا بدأت مسيرتها التعليمية في مدرسة دحماني عبد الرحمن الابتدائية، ثم واصلت مشوارها في المتوسطة الشهيد بركة عبد الرزاق، قبل أن تنتقل إلى ثانوية الشهيد العيد بن الصحراوي ببلدة عمر،  وفي نهاية هذه المرحلة، تمكنت من الحصول على شهادة البكالوريا في شعبة اللغات الأجنبية، لتثبت أن الإصرار يصنع الطريق حتى في أكثر البيئات بساطة وصعوبة.

الخيبة التي تحولت إلى فرصة

بعد حصولها على شهادة البكالوريا، كانت أمينة تطمح إلى الالتحاق بإحدى المدارس العليا للأساتذة في تخصص اللغات، إذ كان هذا الحلم يسكنها بقوة منذ سنوات الدراسة الثانوية.
غير أن القدر كان له رأي آخر، إذ لم تقبل في هذا التخصص، ولأن الإخفاق لا يعني النهاية، قررت أن تجعل من تلك التجربة دافعا لإعادة ترتيب أولوياتها وحلمها.
ومن ثم، اختارت أن تواصل مشوارها الجامعي في جامعة قاصدي مرباح – ورقلة، متجهة إلى دراسة اللغة الإنجليزية وآدابها.
وهناك، بدأت رحلتها الحقيقية مع الأدب العالمي، لتغوص في عوالمه وتكتشف أن الطريق البديل الذي سلكته لم يكن أقل قيمة، بل على العكس، كان أكثر عمقا وثراء من الطريق الذي خططت له في البداية.
وبمرور السنوات واصلت أمينة مسيرتها الأكاديمية في مرحلتي الليسانس والماستر في تخصص الأدب الأنجلوساكسوني، لتثبت من خلال تفوقها أن النجاح لا تحدده الظروف، بل تصنعه الإرادة والإصرار.

نحو مسار أكاديمي واعد

في السنة الجامعية 2017/2018، حصلت أمينة باديجة على منحة دراسية لمواصلة دراسة الدكتوراه في الجامعة الأردنية، وهي من أبرز الجامعات العربية في مجال الدراسات الأدبية، الأمر الذي شكل نقلة نوعية في مسيرتها الأكاديمية.
وهناك بدأت مرحلة جديدة من النضج العلمي والفكري، إذ انغمست بجدية في البحث الأكاديمي، مستفيدة في ذلك من بيئة علمية غنية تشجع على التفكير النقدي والإبداع.
كما أن انفتاحها على أساتذة وباحثين من مختلف الجنسيات أتاح لها فرصة توسيع آفاقها الفكرية واكتساب خبرات بحثية رفيعة المستوى.
وبعد سنوات من الجهد والمثابرة، أنجزت أطروحتها المتميزة، التي عدت من بين الأفضل في مجالها، لتتخرج سنة 2021 محملة بتجربة علمية وإنسانية ثرية.
ومن خلال هذه التجربة، تعمقت أمينة في دراسة قضايا الإسلاموفوبيا، والهوية، وصورة المسلم في الأدب الغربي، حيث وجدت في هذه الموضوعات بوابة فكرية تعكس جوهر التزامها الإنساني والثقافي، وتترجم قناعتها بأن الأدب يمكن أن يكون وسيلة للحوار والتغيير.

الأدب كأداة مقاومة

منذ سنواتها الجامعية الأولى، كانت أمينة باديجة مشدودة إلى النصوص الأدبية التي تتناول قضايا الإنسان المسلم في الغرب، ولا سيما تلك التي تطرح موضوعات الإسلاموفوبيا، والاستشراق الجديد، وصراع الهوية ،ولأن الأدب مرآة للواقع، فقد وجدت فيه فضاء رحبا للتعبير عن قضايا الانتماء والاختلاف والتمثيل الثقافي.
كما انجذبت أيضا إلى الأدب العربي والإسلامي المكتوب باللغة الإنجليزية، وخاصة من قِبل كتاب مهاجرين عاشوا تجربة الاغتراب الثقافي والديني في المجتمعات الغربية.
ومن بين هؤلاء قرأت لأسماء بارزة مثل: سوزان أبو الهوى، نعومي شهاب ناي، ربيع علم الدين، راوي الحاج، روهينا مالك، روبين ياسين قصاب، وعمارة لخوص.
ومن خلال قراءاتها المتعمقة، لاحظت أمينة أن هذا النوع من الأدب، على الرغم من غناه الفكري والإنساني، ينظر إليه غالبا بوصفه أدبا هامشيا لا يحتل مكانته المستحقة في المشهد الأدبي العالمي.
غير أنها رأت في المقابل، أن هذا الأدب يمتلك أدوات فكرية حادة قادرة على تفكيك الخطاب الاستشراقي وزعزعة الصور النمطية التي رسمها الغرب عن الإنسان المسلم ، ومن هنا، اختارت أمينة أن تجعل من الأدب نفسه أداة مقاومة فكرية وثقافية.

منبر للحوار وكسر الصور النمطية

انطلاقا من قناعتها بأن الأدب يمكن أن يكون فعل مقاومة فكرية، ركزت أمينة  في أطروحتها للدكتوراه على المسرح المكتوب باللغة الإنجليزية من قبل مؤلفين مسلمين عاشوا تجربة الإسلاموفوبيا في الغرب.
فقد رأت أن المسرح، بخلاف باقي الأجناس الأدبية، يمتلك قدرة مباشرة على مخاطبة الجمهور ومساءلة الصور المسبقة من داخل الفضاء الثقافي الغربي نفسه.
ولتحقيق ذلك، خصصت فصلين لتحليل نصوص مسرحية تجسد معاناة المسلمين في مجتمعات غربية يطغى عليها سوء الفهم والتمييز، في حين تناول الفصل الثالث دراسة تفاعل الجمهور الغربي مع هذه الأعمال، واستجابته لرسائلها الإنسانية والفكرية.
ومن خلال نتائج بحثها، توصلت أمينة إلى أن المسرح، حين يكتب بصدق ويقدم بلغة الآخر، يتحول إلى منبرٍ للحوار وفضاء فعال لمقاومة الكراهية وتقديم رواية بديلة عن الإسلام والمسلمين.
كما بينت دراستها أن بعض الحضور الغربيين غيروا نظرتهم تجاه مفاهيم مثل الحجاب، والجهاد وخاصة جهاد النفس ، والهوية الإسلامية، بعد متابعتهم لتلك العروض المسرحية التي قدّمت الإسلام من منظور إنساني واقعي بعيد عن الصور النمطية السائدة.

الاستشراق المصطنع

كان صوت إدوارد سعيد حاضرا بقوة في تفكيرها، إذ استحضرت تحذيره من "الاستشراق المصطنع"، ذلك الذي يتبنى فيه الشرقي خطاب الغرب عنه، ومن هنا، آمنت أمينة بأن المقاومة الثقافية لا تقل أهمية عن النضال السياسي، وأن الكلمة المكتوبة يمكن أن تحدث شرخا في جدار التزييف، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية، التي اعتبرتها مركز بحثها ووجدانها.


التعليم الجامعي بين الجزائر والأردن

بعد عودتها إلى الجزائر، شرعت في التدريس بجامعة قاصدي مرباح – ورقلة منذ عام 2021، ومن موقعها الجديد، بات بإمكانها المقارنة بين النظامين الأكاديميين في الداخل والخارج، حيث لاحظت فروقا واضحة في المنهجية، وطرائق التدريس، وكذلك في تشجيع الإبداع. 
ففي الجامعة الأردنية، على حد قولها، يشجع التفكير النقدي، والمشاركة الفعالة، والتخصص العميق منذ البداية ، في المقابل، ترى أن التعليم الجامعي في الجزائر لا يزال بحاجة إلى إصلاح جذري في المناهج، وتحديث أساليب التدريس، بالإضافة إلى تشجيع الخروج من القوالب الجاهزة في اختيار موضوعات البحث. 
كما أن البحث العلمي في الجزائر، بحسب رؤيتها، يفتقر أحيانا إلى الجرأة في تناول الموضوعات المعاصرة والخروج عن المألوف، فرغم توفر فرص البعثات والإقامات، يبقى الحفظ المحض سائدا، مما يعيق إنتاج معرفة نقدية تتفاعل مع قضايا العصر، إضافة إلى ذلك، يعاني البحث من ندرة المراجع، خاصة في الأدب الحديث والمجالات الهجينة بين الثقافة والسياسة.

رائدة أدب المقاومة في مواجهة الخطاب الغربي

في الوقت الراهن، تشرف الدكتورة أمينة على العديد من مذكرات التخرج التي تناقش أدب المقاومة، والإسلاموفوبيا، والقضية الفلسطينية، كما تعمل على نشر مقالات علمية باللغة الإنجليزية تبرز الأدب العربي المكتوب بهذه اللغة كأداة مقاومة ناعمة، وتسلط من خلالها الضوء على الخطاب الإعلامي والسياسي الغربي وتسائله.
وقد لاحظت خلال عملها ضعف المراجع المتوفرة لطلبة الدراسات العليا، الأمر الذي يدفع الكثيرين إلى العزوف عن البحث المتعمق في هذه المجالات، ولذلك تسعى جاهدة لتوفير نتاج علمي يساعد الطلبة في استكمال مساراتهم البحثية.

اللقب الأكاديمي تكليف قبل تشريف

لا تسعى أمينة إلى الألقاب أو الشهرة، بل تؤمن بأن العلم أمانة عظيمة ينبغي حملها بإخلاص ومسؤولية ، فهي ترى أن اللقب الأكاديمي ليس تشريف، بل هو تكليف كبير يفرض عليها المزيد من الجهد والعطاء، تقول  :" العلم أمانة، واللقب الأكاديمي تكليف قبل أن يكون تشريف ، أتمنى فقط أن أترك أثرا نافعا، وأن يحمل العلم بإخلاص وصدق."


رسالة لمن يسقط في منتصف الطريق

أما بالنسبة للطلبة الذين يمرون بظروف صعبة، فتوجه إليهم رسالة ملهمة مليئة بالأمل والتشجيع، مؤكدة لهم أن الطريق قد يكون شاقا لكنه ليس مستحيلا، تقول لهم: "لا تتوقفوا عن السعي، فالعلم هو رأس المال الحقيقي في هذه الحياة، قد تبدو الحياة ضبابية ومليئة بالعقبات الآن، لكن ما قدره الله لك خير، حتى وإن بدا في البداية غير ذلك، اعمل، ابذل جهدك، وتوكل على الله، فلا أحد يرفعك كما يفعل العلم، ولا يمنحك صوتا ومكانا مثله."

وفي الختام، تؤكد الدكتورة أمينة باديجة أن ما وصلت إليه اليوم لم يكن صدفة أو حظا، بل كان نتيجة إرادة صلبة، وإصرار لا يلين، وصبر طويل على التحديات، لذلك اختارت أن تجعل من تجربتها الشخصية وقصتها الملهمة حافزا يدفع الآخرين إلى الإيمان بأحلامهم والسعي لتحقيقها رغم الصعاب.

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services