514
0
التواصل الحضاري في خطاب ابن باديس
بقلم محمد مراح
ابن باديس رحمه الله شخصية حضارية يكل معايير التحضر ؛ أصلا وأسرة وسلوكا ومعاملة على المستوى الاجتماع ، وإنسانيا يرقى بهذا لمصاف كبار الرموز والأعلام الإنسانيين في تاريخ الزعامة الفكرية والسياسية والاجتماعية .
لهذا نجد خاصية التواصل الحضاري" مبثوثة في خطابه ومواقفه وأخلاقه وسلوكه على شتى المستويات . وسوف نعرض لها من خلال خطابه { تفسيرا وشرحا للسنة ومقالاته } .
ويبقى الإمام رحمه الله شخصية الإصلاح الإسلامي الأول في الجزائر، جذبا لاهتمام الباحثين والمفكرين والعلماء على امتداد عالمي .
حظيت شخصية ابن باديس بما يشبه الإجماع على نحو عبره خير تعبير فضيلة الشيخ الشهيد العربي التبسي [1892 _ 1956] في خطبة تأبين الإمام ، فقال :«لقد كان الشيخ ابن باديس الجزائر، فلتجتهد الجزائر اليوم أن تكون ابن باديس» .
تميز ابن باديس من بين قادة الجمعية ، خطــابًا ورؤية ومنهجًا ، فقد كان بحق ـــــ كما قال ابن نبي ـــــ "مثقفًا يعيش مأساة مجتمع وحضارته على طريقته الخاصة" .
أما ثراء خطابه الذي لو قصرنا نظرنا عليه لهدانا إلى أن شخصيته كما قال بن نبي :«تجمع في طياتها جوانب بلغت من التنوع والغنى مبلغًا يجعل في قدرة الباحث _ دومًا _ أن يتطرق إلى دراستها من زاوية تحرر الفكــر من الظــروف العرضية النسبية»
أهم خصائص خصائص الخطاب الباديسي: 1 .الروحية 2. السلفية.3.التواصل الحضاري . 4 .التدرج.5. خطاب الوحدة.6. الإنسانية.
نتناول من بينها هنا خاصية التواصل الحضاري. يستعمل الخطاب الإسلامي المعاصر تعبيرات ومصطلحات مختلفة (التلاقح الحضـاري) و(التفاعل الحضاري) و(التواصل الحضاري) ؛ دلالة على استفادة المسلمين من الغرب بجني ما في مدنيته من خير، وطرح ما فيها من شر ، مع شعورهم بما يمثله هذا (التلاقح أو التفاعل أو التواصل الحضاري) من كونه سنة مطردة في علاقات الحضارات الكبرى ببعضها ، «فالتقاء الحضارات _ وهو معلم من معالم التاريخ الحضاري للإنسانية _ وتفاعل هذه الحضارات عندما تلتقي ، هو قــدر لا سبيل إلى مغالبته أو تجنبـه» .
ولقد تفاوتت التقديرات في هذا الخطاب، لما تحتمله مساحات هذا الأخذ والطرح من سعة أو ضيق . فضلاً عن تباين بينهم في تعمق الظاهرة وسبر أغوارها والتماس قوانينها، بل نقول: وتحويلها إلى معرفة وعلم، على المسلمين المعاصرين التأسيس لمنهجه واكتشاف موضوعاته، وقد بدأ تجسيد ذلك في مشروعات المعهد العالمي للفكر الإسلامي وإسلامية المعرفة ، وغنى عن التذكير ما لطبيعة كل مرحلة من المراحل التي تفاعل معها الخطاب الإسلامي من أثر سببـي في التباين المنوه به سابقًا . ولكن ما لا خلاف ولا تباين فيه ضمن هذا الخطاب أن لهذا التفاعل والتواصل الحضاري وجهين : التواصل الإيجابي _ التواصل السلبي .
وفي مضمار هذا التقسيم نستعرض خاصية (التواصل الحضاري) في الخطاب الباديسي.
التواصل الإيجابي : ويشمل [الأمة الحية التي تتفاعل مع عصرها وتأخذ من حضارته ما يناسب شكل بنائها الحضاري المستقل/ الاطلاع على آداب الغرب في لغاتها / استفادة المسلم من العصر في الفكر والسلوك / طلب العلم بكل لسان ومن كل أحد/ سريان روح الوطنية في الشرق من آثار الاتصال الحضاري مع الغرب الذي بلغت فيه أوجها / من كمال الأمة الاستفادة من تراث الإنسانية المشترك في العلوم والفنون/ نقبل ونطرح من أخلاق الأمم/ الوسط العدل مذهبنا / لسنا من الجامدين ولا مع المتفرنجين / تعاون الإنسانية في خدمة العلم والمدنية / معرفة الغرب من الداخل واستثمار مدنيته بواسطة تعلم لغاته ، التى تعد مقياسًا للتخلف أو اللحاق بالركب / سعادة البشرية بإنصاف الحضارات بعضها بعضًا / الاقتداء بالغرب في أسس مدنيته (العمل المثمر ـ العمل المستمر ، النظام الشامل ، التهذيب العام، حرية التفكير والقول والعمل) تبنى شعارات : الحرية، الأخوة ، المساواة ؛ لأن أصولها شيدها الإسلام
التواصل السلبي : [الافتتان بالغربيين في كل شيء حتى معايبهم / فتنة حالنا للغربيين عن الإسلام (وهما حالتان يمكن تسميتهما بالفتنة المتبادلة)/ التعصب مانع للتواصل
أثرها التغييري : التفوق والبروز والتأثير في الواقع / اكتساب مظهر وصفة «العصرية» في الفكر والعمل والذوق / دفع خطر الاندثار بسبب التوحش / استيقاظ الشعور الوطنى / محافظة الأمة على حسن ما عندها والاستفادة من حسن غيرها / الوسطية].
_ ملاحظات واستنتاجات:
(1)يمثل هذا الخطاب في مجمله وتفصيله _ على السواء معالم ورءوس موضوعات تصلح للاهتداء بها في تقصى تفاصيل موضوع (التواصل الحضاري) من حيث رسم مناهج التواصل مع "المغاير الحضاري " في وأصوله وأدواته المعرفية ووسائله المناسبة؛ إذ «نحن بالنسبة للحضارة الغربية كونها الحضارة المهيمنة إلى الآن بحاجة إلى دراسات على درجة كبيرة من العمق لفكرها الفلسفي ، ولنظرياتها العلمية ، ونظمها القانونية والحقوقية ، وأنساقها الأخلاقية والاجتماعية» / زكي الميلاد _ تركي على الربيعو ، « الإسلام والغرب ، الحاضر والمستقبل».
لم يكن _ بداهة _ مطلوب شيئًا من ذلك كله أن يحققه لنا الخطاب الباديسي، بسبب مقتضى المرحلة ؛ وهمّ الانشغال ، وجسامة الخطب الذي آل إليه وضع هذا الشعب آنئذ ؛ مما لا يتيح للذهن الانصراف للتفكير فيه، فضلاً عن مباشرته . فالمسئولية تقع على الأجيال اللاحقة .
(2) يمثل الخطاب الباديسي صياغة نموذجية لتفاعل الأصالة مع المعاصرة ، بما يحفظ على الأمة خصوصيتها وذاتيتها دون حرمانها من مكتسبات العصر ومعارفه ، نزولاً عند قانون (المشترك الإنساني) و(الخصوصية الحضارية}.
تأمل في هذه النقطة قوله : « إنما ينفع المجتمع الإنساني ويؤثر في سيره من كان من الشعوب قد شعر بنفسه فنظر إلى ماضيه وحاله ومستقبله ؛ فأخذ الأصول الثابتة من الماضي ، وأصلح شأنه في الحال ، ومد يده لبناء المستقبل؛ يتناول من زمنه وأمم عصره ما يصلح لبنائه، معرضًا عما لا حاجة له به، أو ما لا يناسب شكل بنائه الذي وضعه على مقتضى ذوقه ومصلحته» .
(3) حمل هذا الخطــاب الدعوة إلى (تعارف الحضارات) وهو مفهوم يرجي بلوغه إثر التعمق في (حوار الحضارات) أي يمثل مرحلة متقدمة في هذا الحوار ، «فيستتبع معه مفاهيم الانفتاح والتواصل والسلام ومد الجسور ، وعدم الانغلاق والقطيعة والكراهية ، التى هي شرائط التعارف من جهة تحققه ، وهناك ما يترتب عليه ، من جهة المعطيات والمنافع. وهنا تبرز مفاهيم التعاون والترابط والتبادل»/ زكي الميلاد؛ط المسألة الحضارية " وهي معان ورد كثير منها _ كما نلاحظ _ في الخطاب الباديسي ؛ مما يؤهله ليكون من رواد هذا الميدان ومؤسسي الدعوة إليه.
(4) إن التوقف بهذه المعالم والوصايا والحكم في خاصية التواصل الحضاري عند الحدود التى ورد بها خطاب ابن باديس ، قد يكون مدعاة للانفلات بها إلى غير مقصده منها ، فلئن جاءت لتتنزل على واقع معين في سياق رؤية إسلامية عامة ، وروح إسلامية سمحة صادقة ، فقد تتناولها أيدي التفلت والجنوح صوب التغريب ، فتجتثها من أرضها الحضارية ملوحة بها مخادعة باسم العصرنة في الفكر والسلوك واللسان .
والعاصم من هذا المنزلق والتبديل، التأصيل الإسلامي _ كما قلنا _ للتعامل المنهجي العلمي مع الغرب وحضارته ، موازاة مع الإحياء والتجديد والاجتهاد من داخل موروثنا الحضاري .