389
0
الذكرى 80 لمجازر 8 ماي 1945.. استخلاص العبر وتجديد العهد مع رسالة الشهداء
.jpg)
بقلم سعيد بن عياد
تمر ثمانون سنة على المجازر المروعة التي ارتكبها جيش الاحتلال الفرنسي وأداوته من الكولون العنصريين بحق الشعب الجزائري ذات الثامن ماي 1945 في مدن سطيف وقالمة وخراطة ومناطق أخرى من البلاد.
واليوم تحل الذكرى الخامسة لاعتماد هذا التاريخ يوما وطنيا للذاكرة يجمع حوله الأجيال في وحدة متينة صلبة تحمل رسالة الشهداء من الثورات الشعبية والانتفاضات إلى ثورة التحرير المجيدة التي حققت الاستقلال واسترجاع السيادة الوطنية عربونها مليون ونصف المليون شهيد سقوا هذه الأرض الطيبة بدمائهم الزكية.
جريمة ابادة مكتملة تلاحقُ الاستدمار الفرنسي
وبينما خرج الجزائريون يحتفلون بهزيمة النازية الهتلرية وانتصار الحُلفاء في الحرب العالمية الثانية التي امتدت من 1939 إلى 1945 والمطالبة بتحقيق وعد تمكين الشعوب التي ساهمت في الحاق الهزيمة بالنازية من حق تقرير المصير والتمتع بالاستقلال، حتى كان رد الفرنسيين المحتلين لبلادنا منذ 1830 كما هي طبيعتهم اطلاق موجة واسعة من أعمال التقتيل والتدمير والحرق، بلغت مستوى الابادة، بحيث سقط 45 ألف جزائري شهيد أولهم الشاب الفذّ سعال بوزيد الذي رفع صباح ذلك اليوم بسطيف العلم الجزائري في وجه البوليس الاستدماري، صارخا في وجه الاحتلال "تحيا الجزائر.. الحرية للجزائر"، فكان رد مسؤول البوليس العنصري أن أطلق النار عليه فسقط شهيدا مفجرا انتفاضة عارمة زلزلت الأرض تحت أقدام المجتمع الكولونيالي بمكوناته العسكرية والادارية وامتدت شرارة تلك الانتفاضة السليمة الى مدن قالمة وخراطة ومناطق أخرى من الجزائر.
لقد أخرج الغزاة كل أحقادهم وكراهيتهم بعد أن تنكرت دولة الاحتلال لوعد الحلفاء وانتهجت ارتكاب جرائم التقتيل الجماعي والاغتيالات وحرق القرى والمداشر وتجويع السكان ضمن تطبيق سياسة الابادة بكل وحشيتها، مما دفع بالجزائريين من خلال النخب السياسية التي نهلت من منبع الحركة النضالية الوطنية ذات المسار الطويل والذي لم ينقطع، بل كان يتكيف مع كل مرحلة وظرف حاملا شعلة التحرير، إلى تحديد الخيار الملائم والشروع في بناء أرضية الكفاح المسلح بدءًا من تشكيل المنظمة الخاصة وصولا الى تفجير ثورة أول نوفمبر 1954.
ومُذاك اليوم المشهود بآلامه وتطلعاته وقعت القطيعة التامة بين الجزائريين خاصة النخب السياسية والادارة الإستدمارية (كما وصفها المرحوم مولود قاسم نايت بلقاسم ) فاللغة التي اضحى يفهما العدو هي اللجوء الى الكفاح المسلح وترك المشاريع السياسية التي لم تثمر اطلاقا سوى زيادة تعنت المحتل وطغيان الكولون الذين استقدمتهم فرنسا الاستعمارية من شتات أوروبا، قدموا حفاةً عراة ومكنتهم من تملُّك الأرض عبر قوانين جائرة وممارسات ابتزاز وصلت إلى حد القضاء على عائلات بأكملها وتشريد أخرى تحت التهديد بالقتل وفرض ضرائب مرهقة استنزفت قدرات الجزائريين.
الذاكرة اسمنت الأجيال ومصدر مناعتها
ومن هذا كان خيار الحفاظ على الذاكرة بكل فصولها واجبا وطنيا تطلب تكريس الثامن ماي يوما وطنيا لها بقرار من الرئيس عبد المجيد تبون الذي ادرج مسألة الذاكرة في صلب معادلة بناء الجزائر، بعد أن كادت الخروج من السكة نتيجة تراكمات سنوات سابقة تعرض فيها التاريخ إلى تجاوزات وتزييف في مستويات مختلفة المستويات مما عرض الذاكرة الوطنية للخطر.
لقد أصبحت الذاكرة اليوم في صدارة المشهد على أكثر من مستوى سياسي واقتصادي واجتماعي مشكّلة اسمنت الأجيال ومصدر المناعة في مواجهة التكالب الذي تتعرض له الجزائر سواءٌ من بقايا الايديولوجيا الاستعمارية وراء البحر أو من قوى الشر والطغيان التي ترعى الاستعمار الجديد وتهندس مخططات تخريب المجتمعات الناشئة واستهداف الدولة الوطنية في أكثر من منطقة في العالم الثالث الذي يقاوم أحراره مشاريع الهيمنة والتوسع بطرق عديدة، أبرزها اليوم شن حملات اعلامية تضخ أخبارا كاذبة وتُسوّق لأوهام زائفة تحت شعارات براقة ظاهرها مُغري وجوهرها سُمٌّ قاتل، على شاكلة ما يسمى "الربيع العربي" الذي دمّر دولا وشتت شعوبا بإدخالها في دوامة فوضى تأتي على الاخضر واليابس ثم تعرقل أي مسعى للحل السياسي بهدف نهب الثروات.
هوية أصيلة وإرادة صلبة في مواجهة اي تهديد
إن الذاكرة الوطنية ليست مجرد محطة بل هي بوصلة حيّة تحدّد المعالم المستقبلية للأجيال وتضمن لها العبور إلى المستقبل في انسجام بهوية أصيلة وإرادة صلبة لا تلين في مواجهة اي تهديدات والتصدي لأي مخططات مهما كانت القوى التي تحيكها أو تقف وراءها، ولذلك ليس غريبا إطلاقا على الجزائر وهي تشغل مقعدا غير دائم في مجلس الامن الدولي قول الحقيقة مباشرة للعالم وللقوى التي تتحكم في القرار الدولي من خلال حق النقض (الفيتو) مذكّرةً بلغة قوية بأن القانون الدولي والشرعية الدولية هي الضامن للأمن والسلم الدوليين وأن تقرير المصير حقٌ للشعوب التي لا تزال تعاني من الاحتلال كما هو الحال بالنسبة للشعب الفلسطيني الذي يتعرض منذ أكثر من سنة ونصف لحرب ابادة غير مسبوقة بتواطؤ دولي وصمت عربي مفضوحين وكذا الشعب الصحراوي الذي لا يزال يعاني من الاحتلال المغربي المدعوم بأوساط دولية دبلوماسية واعلامية ومالية تتعاطى مختلف أشكال الفساد من رشاوَى ومصالح غير مشروعة وصفقات غير قانونية تستنزف ثروات الصحراء الغربية بالرغم من ادراج منظمة الأمم المتحدة القضية الصحراوية قضية تصفية استعمار بقرار أصدره مجلس الأمن الدولي وقرارات محكمة العدل الدولية، ومن ثمة لا يمكن أن يجد النزاع في الصحراء الغربية طريقا للحل إلا عبر تفعيل مبدأ تقرير المصير.
ومن هذا المنطلق أي تشبُّع الجزائر بإرثها التاريخي الحافل بالتضحيات والصامد أمام قوى الشرّ حريصة على التحكم في ثرواتها والذود على السيادة الوطنية وصون الوحدة الوطنية كان من الطبيعي أن تزعج أكثر من جهة وتتعرض لاستفزازات وتحرشات يقف لها الشعب الجزائري بالرصاد كرجل واحد متشبّعا ببطولات أسلافه عبر التاريخ الضارب في الجذور وتطلعات شبابه وصلابة مؤسساته يتقدمها الجيش الوطني الشعبي سليل جيش التحرير الوطني ملتزما بمهامه ودائم الحضور في الميدان على امتداد الجغرافيا الوطنية بجاهزية يدركها العدو والصديق عنوانها الحدود الوطنية والسيادة بمفهومها الشامل خط أحمر.
شق طريق المستقبل بكسب معارك الاقتصاد
إن احياء الثامن ماي بكل ثقله التاريخي وما أدى إليه بعد تسع سنوات الى تصحيح مسار التاريخ وأبطال أكذوبة الاستدمار الفرنسي من خلال إعلان بيان أول نوفمبر الذي أطلق شرارة الثورة الجارفة من أجل الحرية والاستقلال فانصَهر أفراد الشعب الجزائري في بوتقة رجل واحد ولا يزال على ذات العهد، لن تنال منه الدسائس والمؤامرات، يواصل شق طريق المستقبل بثبات وبالاعتماد على الذات، يخوض معارك الاقتصاد والتنمية والبناء من أجل تعزيز ركائز سيادة القرار الوطني عبر اطلاق مشاريع مُهيكلة كبرى تؤسس لأرضية اقلاع اقتصادي منتج للثورة خارج المحروقات على غرار تحريك دواليب منجم غار جبيلات ومنجم الفوسفات ومصانع تحلية مياه البحر واطلاق مشاريع زراعية كبرى تخص الحبوب وصناعات تحويلية عديدة واعتماد مشاريع شراكة أجنبية مطابقة لمتطلبات الاقتصاد الوطني مثل التصدير وتغطية الطلب الداخلي.
ولذلك فان الرجوع الى التاريخ بكل تجلياته ليس مجرد الغوص في احداث من الماضي وانما لاستلهام العبر واستخلاص الدروس والتزود بالمناعة لمواجهة واقع فيه من الصعاب والمخاطر وتجاوزها نحو المستقبل في اطار لُحمة شعبية متجدّدة تعزز الوحدة الوطنية المتجذرة أمام تهديدات تصنعها مخابر الهيمنة العالمية لا يمكن أن تتسلل الى نفوس الشعب الجزائري الغيور على سيادته والحريص على وطنه وقد اثبت دوما أنه خير خلف لخير سلف يقف شامخا لا يهتز أبدا مهما كانت شدة العواصف كما تشهد على ذلك صفحات الذاكرة الوطنية الخالدة.