46
0
الثقل الجيوسياسي وبداية تاريخ الشرق

. بقلم كمال برحايل
خلال زيارتي للمعرض الدولي للكتاب
وقعت عيني على كتاب بنسختين الطبعة العربية والإنجليزية ،كتاب للرئيس الصيني شي جين بينغ المجلد الثالث حول الإدارة والحكم ، وكتاب الغرفة التي شهدت الأحداث وهي مذكرات جون بولتون مستشار شؤون الأمن القومي للرئيس الأميركي دونالد ترامب، خلال الفترة الأولى.
والسبب الذي دعاني إلى هذه الإشارة هو اجتماع قمة منظمة شنغهاي للتعاون ، التي عقدت في مدينة تيانجين بجمهورية الصين الشعبية.
هي للاستدلال على مخرجات القمة، فقد اتخذت الكتابين كمرجعيّة فكرية، لتفسير السلوك السياسي وخفايا صنع القرار للدول،
وسيجد القارئ في قادم السطور ، ما أود الاستشهاد به خاصة، ص 507 وبالضبط خطاب الرئيس شي جين " تعظيم روح شنغهاي و بناء مجتمع المصير المشترك.
ويبدو أن عقارب ساعة التوقيت السياسي الدولي دقت في الصين، التي فهمت حركة التاريخ ، و كان السبق لذلك هو التوقيت الزمني في موسكو، حين أنتهزت الفرصة في لحظة فارقة، قياساً على مبدأ التوازن الدولي الذي لا يلغي بالضرورة الصراع.
وفي خضم هذا التحول الصامت تكون المنظمة، قد رسمت ملامح التكتل و الاصطفاف الجديد، في إدارة الشؤون الدولية.
و عقب خطوة أولى محسوبة المحطات تحولت من الإطار الأمني ومكافحة الارهاب، إلى التعاون الاقتصادي والعسكري لتصل في مدة عقدين ، إلى تكتل نوعي من الإندماج و التكامل ، في المجال السياسي تمهيدا لعالم متعدد الأقطاب.
ونستجلي هذا التحول في يوم النصر حين، استهل الرئيس الصيني شي جين بينج خطابه في ساحة تيانامين قائلا : " اليوم تواجه البشرية خيار السلام والحرب، الحوار أو المواجهة، فوز الجميع أو خسارة الجميع والشعب الصيني يقف في الجانب الصحيح من التاريخ".
وتصدق أيضا مقولة وزير الخارجية الأمريكي مارك روبيو إذ قال " أننا لا نعيش عالم أمريكي، بل نعيش عالم متعدد الأقطاب".
والمنطق المؤسس هنا لحركية النظام الدولي الحالي، تحقق عند اقدام روسيا على شن العملية الخاصة في أوكرانيا للقضاء على النازية، ونزع السلاح للقوميين المتطرفين في أوكرانيا، بعد ما استجلى صانع القرار الروسي أن الغرب غير مستعد ولن يستعد للتعاون و يسعى عمليا تطويق واحتواء روسيا.
وأعتمد الروس في هذه الحرب على الدعم السياسي ، والصناعي الصيني والعسكري الكوري الشمالي، وهي من العوامل المشكلة في اعتقادي لنقطة التغير العميق في السياسة العالمية.
و أتصور أن الحرب على اوكرانيا كانت، لحظة فاصلة في نهاية التاريخ الغربي حسب فوكوياما، وبداية تاريخ الشرق الحضاري ليتجدد الأمل مع عالم الشمس المشرقة.
وهذا بحسب ما طرحه المفكر الروسي الكسندر دوغين، في النظرية الأوراسية و التي تقضي بضرورة استعادة الدور الروسي في العالم ، ويكتمل هذا حصرا من خلال التحالف أولاً في المجال الجغرافي الحيوي القريب أي ضمن الفضاء الثقافي والحضاري للشرق.
و النظرية تشير إلى جملة من الأفكار المكونة ، من مركب ايديولوجي و فلسفي مستنبط من التحليل الجيوسياسي للتاريخ ، ومن مركب جغرافي، بمعنى الامتداد الإقليمي لروسيا وأجزاء من أوربا.
ويشمل هذا التحالف كل من الحضارة الروسية والصينية والهندية والإيرانية، وهي حضارات شمولية تمتلك عادات تقليدية محافظة.
وتبين في ثنايا القمة أنه وضع الحجر الأساس ، لعالم متعدد الأقطاب، وبداية التاسيس لطرح البدائل تمهيداً للانفصال التدريجي ، عن سوق الطاقة الدولية والأنظمة المالية للتقليل من الامتياز المفرط للدولار، و إقامة الهياكل الموازية للحوار السياسي، وعملية التنمية في العالم.
و لعل ما يميز جليا ً هذه القمة تكمن في نوعية ومحتوى الرسائل الصريحة والمفتوحة، بدايةً من كلمة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والذي أكد على ضرورة التخلي عن عقلية الحرب الياردة ، محملا الغرب مسؤولية الحرب في أوكرانيا، بسبب دعم عملية الانقلاب و ضم أوكرانيا لحلف الناتو .
وفي هذه النقطة يقول، جون بولتون في مذكراته -الغرفة التي شهدت الأحداث- تحديدا في الفصل السادس بعنوان التصدي لروسيا ، ص 176" وأبلغنا الروس برزانة بأن العقيدة الروسية الرسمية لا تمتلك خططاً لاستخدام آلقوة العسكرية لغايات هجومية، وأن القوة الدفاعية كانت الوسيلة الأساسية لتحقيق الاستقرار الاستراتيجي".
بمعنى أنه حينما استشعرت روسيا مجرد نذر الخطر ، أقدمت و بدون سابق إنذار على إيقافه بأسلوب تحملوا تبعات تصرفاتكم ، ولا يمكن للغرب من التمدد فقط، أو يفكر مجددا في تكرار هذه المغامرة ، وهي خطوط حمراء لا يسمح بالاقتراب منها إطلاقاً.
ونقرأ أيضا في حضور رئيس الوزراء الهندي مودي منهياً بذلك مسالة الحياد،في السياسة الدولية، المصالحة مع الصين، إذ تعد بمثابة الهجرة نحو الشرق الأحمر الزاحف بخطى ثابتة، لا تقبل الارتداد بسبب ما فرض على الهند من رسوم جمركية من قبل الولايات المتحدة، ورسالة واضحة القراءة والاستيعاب تعني استقلالية، بصفة تامة عن الغرب لحماية المصالح الاستراتيجية، و كما يقول المسعودي عن التراث الهندي "الهند إنهم أهل حكمة ونظر".
ورمزية التركيز أيضا على كيم جونغ اون الزعيم الكوري الشمالي، كحدث استثنائي مصطحباً ابنته هي اشارة مرور خضراء إلى الاستمرارية ، في التحالف و النهج التاريخي المتوارث لأسرة كيم في العلاقة مع الصين وروسيا لاحقاً.
والاستعراض العسكري المقام، بمناسبة الانتصار على اليابان والذي قدم الأعتذار بإخلاص، ويجدده كل عقد ويتمسك بنفس اللهجة ، وفيه ايضاً يتبرأ من كل حرب قادمة، و هي قاعدة عرفية في اليابان.
و أولى الرسائل هي موجهة للغرب، كما ورد في الخطاب "أن نهضة الأمة الصينية لا يمكن إيقافها ، والقضية النبيلة المتمثلة بالسلام والتنمية الانسانية ستنتصر حتما".
وأتصور مرجعية الكلام نابعة رمزيا
و تحديدا في هذه الساحة، عند اقدام
السلطات الصينية على قمع الطلبة المتظاهرين، و اتخذت من هذه الأحداث الذريعة للقطيعة مع الماضي وبداية النهضة الشاملة في الصين، بعد قرار الرئيس دينغ مهندس الإصلاح في الصين الذي أقر بضرورة الانفتاح و التحول العميق في السياسة الاقتصادية، بعيدا عن العقيدة الماركسية، أي الانتقال بمطالب الشعب والنخب من التنظير إلى التنفيذ، والسعي لتحقيق الأهداف الشرعية وصولا إلى تحقيق الثالوث النووي.
وقال الرئيس الصيني في خطابه " لا يمكن ضمان الأمن المشترك إلا عندما تتعامل الدول مع بعضها البعض على قدم المساواة".
ولعل القراءة التحليلية لنتائج قمة المنظمة ، و المتزامنة مع العرض العسكري ،أنها كانت شديدة اللهجة ومقصودة في حدتها.
بمعنى إن أولى الرسائل الموجهة إلى طوكيو ، مفادها ضرورة الفك التدريجي للارتباط السياسي بالولايات المتحدة ، والإسراع في الإنخراط بقدر اكبر في القضايا الإقليمية، ولاحقا في مرحلة انتقالية الإسراع بإنهاء الوجود العسكري الأمريكي على أرضه، بسبب تجذر المشاعر العدائية الشعبية المتنامية للأمريكيين، ورسالة إلى سيول حاملة لدعوة للتقليص والتخلي من الاعتماد على الحماية العسكرية إلى الأبد.
و إلى عموم الدول الآسيوية، أن بوابة المنظمة مفتوحة و واسعة وقريبة منكم وعليكم التكيف مع الواقع الجديد.
و هي الرسائل الواضحة في الأسلوب كما قال الزعيم ماوتسي تونغ " لكي يستطيع أي تعبير أن يلهم ويحرك، فإنه لابد أن يكون مزيجاً بين التجديد، الذي لايسمح بالخطأ والإبهام الذي لا يقع في الخيال".
ويقول في هذا الصدد مستشار شؤون الأمن القومي الأمريكي ، تحديداً الفصل العاشر بعنوان العاصفة القادمة من الصين، ص 293 " مع مراقبة التحولات الصينية على مدى السنوات. أرى كل ذلك يهدد بعمق المصالح الاستراتيجية الأمريكية ومصالح أصدقائنا وحلفائنا حول العالم.
عملياً لقد استلقت إدارة أوباما على ظهرها وتفرجت على كل ذلك أثناء حدوثه". وتفسيره انه لا احد يملك من القوة حتى وان امتلكها يمكنه إيقاف المسيرة العظيمة.
ويقول الرئيس الصيني شي في كتابه السابق ص 506، اقمنا شراكة بناءة و غير منحازة وغير هادفة إلى المجابهة، و غير موجهة ضد أي طرف ثالث، متبعين ميثاق المنظمة و معاهدة حسن الجوار ، و يعد هذا ابتكار في نظرية العلاقات الدولية".
وبتواجد الزعماء الأربع الروسي والصيني والهندي والكوري الشمالي، وهم بديهيا سادة الزعزعة ، تعكس في الواقع أن الرمزية تفوق مجرد الحضور الشكلي المتعدد، بل تأييداً علني وصريح لما ورد في الخطاب الصيني.
و أن الاجتماع في الصين، قد تجسد بالروح الأخلاقية لحضارات الشرق حيث المكان يتسع لعضوية الجميع، كما ورد في كتاب الحوار ليون يوي نقلاً عن حكيم الصين كونفوشيوس " ألا يسرك مجيء الأصدقاء من مكان بعيد".
والحدث الذي أخذ الحيز من التغطية الإعلامية ، ونادرا في مشهد سواء أكان تلقائي أو مدروس، هو صورة تبادل زعماء المنظمة الابتسامة، خاصة بين الثلاثي شي بوتين و مودي، حين يقابله في البيت الأبيض و قلة الأحترام، الذي أضحى السمة و الفريضة الغائبة ، و لا وقت للابتسامة وخاصة عندما يستقبل الرئيس ترامب المدعوين، غالباً ما تكون باهانة منقولة على المباشر، لأن هناك نجد المستدعي للحضور لتقديم واجب الخضوع والتنفيذ ، و هم قادة اوربا القديمة، ومن دعي ليحظى بفرصة التوظيف عند الموظف والكلام مقتصرا في صيغة "من أنت اختصر الكلام ، ثم تأمل جيدا هذا نصيبك معنا".
والحديث هنا المقصود به قادة بلدان أفريقية معينة، بمعنى ديمومة طابع الانتقاء للغرب بحسب ما تقتضيه فقط المصلحة الموقتة.
والملاحظ أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي لا يفتقر للفكاهة، اجاب السادة الكبار المبتسمين ، وقد تبدو نكاية به، بتغريدة تكون هي السبب وقال " أتمنى للرئيس شي وللشعب الصيني الرائع يوما عظيما ودائما من الأحتفال، أرجوا أن تبلغوا أطيب تحياتي لبوتين وجونغ اون لأنكم تتآمرون ضد الولايات المتحدة الأميركية".
ولعل السلطة و النخبة الأمريكية في السابق ، رفضت فكرة المؤامرة، أو أي تفسير تآمري للتاريخ ، وتربطه بالحركة الطبيعية للتغيير السياسي وتطور الأحداث.
آخر الكلام: من أقوال الفيلسوف سقراط.
" إني لا أعلم إلا شيئاً واحداً، هو أني لا أعلم شيئا".