1886
0
التهجير في عهد ترامب: تشريح جيو-إنساني لسياسات التفكيك والتداعيات الإقليمية

بقلم: الحاج بن معمر
عندما وقّع دونالد ترامب قراره الشهير بحظر السفر رقم 13769 في يناير 2017، لم يكن الأمر مجرد إجراء أمني عابر، بل كان تتويجًا لرؤية أيديولوجية تعيد تعريف دور أمريكا في العالم عبر تفكيك التزاماتها الأخلاقية والسياسية.
هذه الرؤية، التي اختُزلت في شعار "أمريكا أولاً"، لم تكن معزولة عن سياق تاريخي أوسع: فمنذ هجمات 11 سبتمبر، شهدت السياسة الأمريكية تجاه العالم العربي تحولًا تدريجيًا من خطاب "نشر الديمقراطية" إلى تبني سردية صراع الحضارات، حيث أصبح المهاجر واللاجئ تهديدًا وجوديًا يُبرر انتهاك الحقوق تحت ذريعة الأمن.
من "الحرب على الإرهاب" إلى "الحرب على اللاجئين".. تشريح الخطاب الأمني
لم تكن إدارة ترامب أول من ربط بين الهجرة والإرهاب، لكنها حوّلت هذا الربط إلى سياسة مؤسسية. فالحظر الذي استهدف 11 دولة، 8 منها عربية، لم يُبنَ على تقييمات استخباراتية دقيقة بقدر ما استند إلى خطاب كراهية متجذر في اليمين الأمريكي، مستفيدًا من إرث برامج مثل "NSEERS" (تسجيل المغتربين من دول إسلامية) الذي أطلقته إدارة بوش بعد 2001.
هنا، تحوّل "الخوف من الآخر" إلى أداة لتعبئة الناخبين، بينما تحوّلت الدول العربية إلى مختبر لتجربة سياسات الهجرة القائمة على العزل العرقي والديني. اللافت أن هذا الخطاب وجد صدى لدى بعض النخب العربية، خاصة في الخليج، حيث تم توظيفه لتبرير سياسات أمنية داخلية. ففي الإمارات، مثلاً، صُممت قوانين مكافحة "التطرف" لتقييد حرية التعبير، بينما استخدمت السعودية التهديدات الأمنية لتسويق مشاريعها الاقتصادية (كـ"نيوم") كبديل عن الإصلاح السياسي.
اللاجئون كأداة تفاوض.. الصراع الإقليمي على الأنقاض الأمريكية
انسحاب واشنطن الجزئي من الملف الإنساني فتح الباب أمام قوى إقليمية لتحويل أزمات اللاجئين إلى رأس مال سياسي.
فتركيا، التي تستضيف 4 ملايين سوري، لم تكتفِ بابتزاز الاتحاد الأوروبي عبر التهديد بفتح الحدود، بل حوّلت المخيمات إلى ورقة ضغط ضد النظام السوري في إدلب، بينما استثمرت إيران في دعم الميليشيات الطائفية لتعزيز نفوذها في العراق ولبنان، حيث تُعدّ التركيبة الديموغرافية سلاحًا جيو-سياسيًا.
في المقابل، اتخذت روسيا من الأزمة السورية منصة لإثبات نفسها كقوة عظمى، عبر توظيف المساعدات الإنسانية المحدودة كغلاف لدعم النظام عسكريًا، بينما استخدمت الصين "القوة الناعمة" عبر استثمارات البنى التحتية في دول مثل العراق، كجزء من استراتيجيتها لملء الفراغ الأمريكي دون التورط في الصراعات الأيديولوجية.
صفقة القرن.. التهجير كاستراتيجية لإنهاء القضية الفلسطينية
لم تكن صفقة القرن مجرد خطة سلام فاشلة، بل كانت محاولة لإعادة هندسة الجغرافيا السياسية للمنطقة عبر توظيف التهجير كآلية لتصفية الحقوق. فالنص الذي دعمته الإدارة الأمريكية اقترح توطين اللاجئين الفلسطينيين في دول عربية، مثل الأردن، أو حتى في أمريكا اللاتينية، في سابقة تعيد إنتاج نموذج "تهجير السكان الأصليين" الذي مارسته القوى الاستعمارية تاريخيًا.
هذا التوجه لم يكن منفصلاً عن التحولات الديموغرافية داخل إسرائيل، حيث تسعى الحكومة اليمينية إلى زيادة نسبة اليهود في الأراضي المحتلة عبر تهجير الفلسطينيين من القدس الشرقية والضفة، بينما تُحوّل غزة إلى "سجن مفتوح" يُدار عبر الحصار والحروب الدورية. الصمت العربي الرسمي تجاه هذه السياسات، خاصة بعد التطبيع، كشف أن بعض الأنظمة تتعامل مع القضية الفلسطينية كعبء تاريخي يجب التخلص منه، لا كقضية وجودية.
انهيار الشرعية الدولية.. من الأمم المتحدة إلى تحالفات الظل
أدت سياسات ترامب إلى تفكيك ما تبقى من نظام عالمي قائم على القواعد، حيث تم سحب التمويل من منظمات مثل الأونروا وUNHCR، ما دفع دولًا مثل الأردن ولبنان إلى خصخصة إدارة أزمات اللاجئين عبر التعاون مع منظمات غير حكومية تابعة لدول خليجية أو جهات خاصة.
هذه الخطوة لم تعالج الأزمة بل عمّقت الفجوة بين الخطاب الإنساني الدولي والواقع، حيث تحولت المعونات إلى سلعة سياسية تُمنح مقابل الولاءات. في هذا السياق، برزت منظمات إغاثة مرتبطة بجماعات إسلامية أو مليشيات طائفية، كبديل "محلي" عن المنظمات الدولية، ما عزز نفوذ هذه الجماعات ورسّخ التقسيمات المجتمعية. ففي العراق، مثلاً، سيطرت فصائل الحشد الشعبي على توزيع المساعدات في المناطق السنية، كجزء من سياسة تغيير ديموغرافي ممنهجة.
التهجير الداخلي: كيف حوّلت الشعوب العربية اللاجئين إلى عدو؟
الأخطر من سياسات ترامب كان تحول الخطاب المعادي للاجئين إلى ظاهرة داخل المجتمعات العربية نفسها.
ففي لبنان، تحوّل السوريون إلى كبش فداء لأزمات الكهرباء والبطالة، بينما روجت وسائل إعلام مصرية لخطاب يربط بين اللاجئين و"التغلغل التركي".
هذا الانزياح نحو العنصرية المحلية لم يكن عفويًا، بل نتاج تحالف غير معلن بين النخب الحاكمة التي تسعى لتحويل غضب الشارع عن فشلها، وبين قوى إقليمية تستخدم التهجير كسلاح في صراعاتها بالوكالة.
ما بعد ترامب: هل يمكن إصلاح النظام الإنساني العالمي؟
رغم انتهاء عهد ترامب، فإن إرث سياساته ما زال يُشكّل المشهد. فإدارة بايدن، التي رفعت الحظر عن بعض الدول، لم تعالج الجذور الهيكلية للأزمة، بل استمرت في تقليص عدد اللاجئين المقبولين سنويًا، بينما تواصل إسرائيل تهجير الفلسطينيين تحت صمت دولي.
المعضلة الأعمق تكمن في أن النظام العالمي الحالي، القائم على هيمنة الدولة القومية، عاجز عن إدارة أزمات لا تعترف بالحدود. فالحلول المطروحة، من التوطين إلى العودة "الطوعية"، تتعامل مع اللاجئين كأرقام في معادلة جيوسياسية، لا كضحايا لنظام دولي ينتج الكوارث ثم يرفض تحمل تبعاتها. الدرس الأهم هنا ليس في شراسة سياسات ترامب، بل في هشاشة النظام العربي الذي سمح لها بالنجاح.
فغياب استراتيجية عربية موحدة لإدارة الأزمات، وتواطؤ بعض النخب مع أجندات خارجية، حوّل المنطقة إلى ساحة مفتوحة لتصفية الحسابات، حيث الإنسان العربي هو الضحية الأولى والأخيرة. السؤال الآن: هل يمكن بناء نظام إقليمي بديل، قائم على المواطنة والحقوق، أم أن المستقبل سيشهد موجات تهجير جديدة، تكون هذه المرة بقيادة الأنظمة العربية نفسها؟ التاريخ يحذّرنا أن جدران الخوف لا تبني أمنًا، بل تصنع مقابر جماعية للذاكرة والإنسانية.