79

0

الشيخ محمد بن الحاج مسروق… ذاكرة الجنوب وسراج الصحراء

 

في عمق الصحراء الجزائرية، حيث تتقاطع الرمال مع سماء نقية ومجتمع بسيط، ولد رجل جعل من العلم رسالة ومن الدعوة طريقًا. إنه الشيخ محمد بن الحاج مسروق، العالم.

هارون الرشيد بن حليمة

 

ولد الشيخ محمد بن الحاج مسروق أواخر القرن التاسع عشر، في أسرة محافظة عُرفت بالتمسك بالدين وحب العلم. في بيئة تقليدية بسيطة، تفتحت عيناه على حلقات الذكر ومجالس الفقه، فغُرست في نفسه منذ الصغر قيم الجد والاجتهاد. لم يكن الطريق أمامه سهلاً، لكنه اتخذ من القرآن والحديث زاده، ومن شيوخ زمانه قبسًا ينير مسيرته.

رحلة طلب العلم

منذ نعومة أظفاره، ارتبط الشيخ بمشايخ كبار من الجزائر وخارجها. فقد نهل من معين علماء الصحراء، وتأثر خاصة بالشيخ السكوتي القادم من توات، كما لازم الشيخ عبد الله الشنقيطي القادم من موريتانيا. كانت هذه اللقاءات بمثابة محطات حاسمة أسست شخصيته العلمية والروحية، وأكسبته معرفة واسعة مكنته من التميز عن أقرانه

لم يكتف الشيخ بما حصّله، بل كان شغوفًا بمراسلة العلماء ومناقشة القضايا الفكرية والدينية. تبادل الرسائل مع علماء المغرب والمشرق، وظل منفتحًا على كل فكرة بنّاءة، مع حفاظه على التوازن والاعتدال في الخطاب.

مدرسة متنقلة في الصحراء

ما يميز الشيخ محمد بن الحاج مسروق أنه لم يكتف بالجلوس في زاوية أو مسجد، بل اتخذ من الصحراء كلها مدرسة له. وضع برنامجًا أسبوعيًا صارمًا: يوم السبت في سيدي خويلد، الأحد في الرويسات، الاثنين في عين البيضاء، الثلاثاء والأربعاء في بني ثور، الخميس في القصر العتيق، والجمعة والسبت في قريته الشط حيث أسس مدرسته.

كان يسير على قدميه أو يمتطي الدواب عبر طرق رملية شاقة، متحديًا الحر والعطش والتعب، ليصل إلى طلابه المنتظرين. كان يحمل كتبه البسيطة، وصوته المليء باليقين، ليغرس في نفوس الشباب أسس العقيدة والفقه واللغة. بهذه الرحلات المتكررة، حوّل الجنوب إلى شبكة من الحلقات العلمية، وربط الأجيال الصاعدة بجذور دينها.

دور اجتماعي وروحي

لم يكن الشيخ عالمًا منعزلاً عن واقعه. فقد عاش هموم الناس، وشاركهم أفراحهم وأحزانهم، وكان مرجعًا في حل النزاعات وفض الخصومات. استدعاه الأهالي ليحكم بينهم، فكان حكمه دائمًا قائمًا على العدل والرحمة. امتاز بالبساطة في العيش، وبالصرامة في المبادئ، فحاز احترام الجميع.

كان يرى في الدعوة وسيلة لبناء مجتمع متماسك، بعيد عن الغلو والتطرف، قريب من الوسطية التي حملها الإسلام في جوهره. لذلك، اشتهر بلين خطابه، وبقدرة على تقريب العلم من العامة دون تعقيد.

أثره في الحركة العلمية

تخرّج على يد الشيخ محمد بن الحاج مسروق عشرات من الطلاب الذين صاروا فيما بعد شيوخًا وأساتذة ومرشدين. بعضهم حمل الراية بعد وفاته، وظل يذكره في خطبه ودروسه باعتباره الأب الروحي لنهضة التعليم الديني في ورقلة.

كما ساهمت مراسلاته ولقاءاته مع علماء المغرب العربي في إثراء الحركة الفكرية، وجعلت من ورقلة محطة تواصل بين عواصم الفكر الإسلامي في المشرق والمغرب.

الرحيل وإرث خالد

في ليلة الجمعة، 29 يوليو 1976، أسلم الشيخ محمد بن الحاج مسروق الروح بعد مسيرة حافلة بالعطاء. لم يكن رحيله حدثًا عاديًا، بل شكّل صدمة كبيرة للجنوب الجزائري. شيّعه أهالي ورقلة وطلبته ومحبوه في موكب مهيب، وترك وراءه مدرسةً من العلم والذكر ستظل شاهدة على جهوده.

رغم مرور عقود على وفاته، ما زالت صدى كلماته تسمع في مساجد ورقلة، وما زال إرثه التربوي والفكري يضيء مسار الدعاة وطلبة العلم. لقد كتب اسمه في ذاكرة الجنوب بحروف من نور، وأثبت أن العالم الصادق لا يموت بفقد الجسد، بل يبقى حيًا بما ترك من أثر.

 

إن الحديث عن الشيخ محمد بن الحاج مسروق ليس مجرد استذكار لسيرة رجل، بل هو استحضار لمرحلة كاملة من تاريخ الجنوب الجزائري. هو مثال لعالمٍ جمع بين التواضع والصرامة، بين نشر العلم وخدمة الناس، وبين حمل القلم وتحمل مشاق الصحراء.

في زمنٍ تتسارع فيه الأحداث وتضيع فيه القيم، يبقى ذكره مرشدًا ودليلاً على أن العلم رسالة خالدة، وأن صوت المعلم المخلص أقوى من صمت الرمال وأبقى من حدود الزمن.

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services