54

0

الشيخ الحداد… رجل جمع بين وقار العلم و الدين وبين شجاعة القيادة وروح الثورة

الشيخ الحداد من أبرز رموز المقاومة الشعبية في الجزائر، جمع بين مكانته كعالم دين وزعيم للطريقة الرحمانية وبين دوره كقائد ثورة 1871 ضد الاستعمار الفرنسي.

إعداد: هارون الرشيد بن حليمة

في ذاكرة الجزائر، تبقى بعض الشخصيات أكبر من مجرد أسماء في كتب التاريخ. إنها تتحول إلى رموز ملهمة تتجاوز حدود الزمان والمكان.

الشيخ الحداد… العالم الذي أشعل ثورة 1871

ومن بين هؤلاء يبرز اسم الشيخ محمد أمزيان الحداد، الرجل الذي جمع بين هيبة العلم ووقار الدين من جهة، وبين شجاعة القيادة وروح الثورة من جهة أخرى.

وُلد في أواخر القرن الثامن عشر (1789) في منطقة صدوق بولاية بجاية، ونشأ في بيئة علمية صوفية داخل أحضان الطريقة الرحمانية. ومع مرور السنين، أصبح مرجعاً دينياً وقائداً روحياً تتقاطع عنده طرق المريدين والباحثين عن النور، قبل أن يتحول في لحظة حاسمة إلى شرارة كبرى ضد الاستعمار الفرنسي.

 

من الزاوية إلى الريادة الروحية

نشأ الشيخ الحداد في أسرة متدينة، وتلقى تعليمه الأول على يد والده الذي كان بدوره حافظاً للقرآن.

ثم تابع تكوينه العلمي في زاوية الشيخ أعراب ببلدية مجانة، حيث نهل من العلوم الشرعية والفقهية والصوفية.

هذا التكوين العميق أهّله لأن يصبح خليفة للطريقة الرحمانية، وهي إحدى أهم الطرق الصوفية في الجزائر، التي كانت تُشكل شبكة اجتماعية ودينية واسعة تمتد إلى مختلف مناطق القبائل الكبرى وشرق البلاد.
لم يكن الحداد مجرد شيخ طريقة يردد الأوراد ويجمع المريدين، بل كان شخصية اجتماعية لها تأثير قوي في المصالحة بين القبائل، وحل النزاعات، والتوجيه الديني.

مكانته العلمية جعلت صوته مسموعاً في زمنٍ كانت فيه الزوايا بمثابة مؤسسات تعليمية واجتماعية، تلعب دوراً أساسياً في الحفاظ على الهوية الإسلامية والوطنية للشعب الجزائري.

سياق تاريخي متوتر

حين دخل الفرنسيون الجزائر سنة 1830، بدأت ملامح الاحتلال تتمدد ببطء، لكن بحدة متزايدة.

وبعد عقود من المقاومة بقيادة الأمير عبد القادر ومختلف الثورات المحلية، لم تهدأ البلاد. وفي سبعينيات القرن التاسع عشر، اشتد الضغط الاستعماري على القبائل الجزائرية، إذ سعت الإدارة الفرنسية إلى فرض ضرائب مجحفة، ومصادرة الأراضي الزراعية الخصبة، وتهميش السكان المحليين.

هذه السياسة الاستعمارية لم تمس الاقتصاد فحسب، بل هددت البنية الاجتماعية والعادات الراسخة لدى الأهالي. وفي خضم هذا الوضع، كان لا بد أن ينبثق صوت يقود الناس نحو المواجهة، وكان ذلك الصوت هو الشيخ الحداد.

دعوة إلى الثورة

في ربيع 1871، ومع اندلاع ثورة المقراني بقيادة الباشاغا محمد المقراني، قرر الشيخ . ورغم أنه كان في الثمانين من عمره، فقد دعا أتباعه ومريديه إلى حمل السلاح ضد الاحتلال. ففي 8 أبريل 1871، أصدر فتواه الشهيرة بالجهاد، التي اعتُبرت بمثابة الشرارة التي أطلقت الانتفاضة الكبرى.

وما هي إلا أيام حتى انخرطت عشرات القبائل في الثورة، مدفوعة بالبعد الديني والروحاني الذي أضفاه الشيخ الحداد على الحركة.
ولم يكتف الشيخ بإطلاق الدعوة، بل شارك أبناؤه – وخاصة الحسين الحداد – في قيادة المعارك ميدانياً، بينما ظل هو المرجع الروحي الذي يستمد منه المقاومون قوتهم المعنوية.

ثورة 1871… أكبر انتفاضة شعبية بعد الأمير عبد القادر

توسعت الثورة بسرعة مذهلة، حتى شملت بجاية، تيزي وزو، سطيف، برج بوعريريج، وأجزاء من الشرق الجزائري. وتشير المصادر التاريخية إلى أنّ نحو ثلث سكان الجزائر في ذلك الوقت شاركوا بطريقة أو بأخرى في هذه الانتفاضة.

وقد واجه المقاومون القوات الفرنسية في عدة معارك، حيث سجلوا انتصارات جزئية أربكت الإدارة الاستعمارية، وهددت وجودها في المنطقة.
لكن التفوق العسكري الفرنسي، من حيث العتاد والتنظيم، كان عاملاً حاسماً. لجأت القوات الاستعمارية إلى سياسة الأرض المحروقة، فمارست القمع الوحشي، وأعدمت المئات من المقاومين، ونفت الآلاف إلى جزر نائية مثل كاليدونيا الجديدة.

سقوط الثورة ومحنة الشيخ

في يونيو 1871، ألقت السلطات الفرنسية القبض على الشيخ الحداد، وحُكم عليه بالسجن خمس سنوات رغم تقدمه في السن ومرضه. وبعد أيام قليلة من صدور الحكم، تدهورت صحته وتوفي في 29 أبريل 1873،  بينما نُفي أبناؤه وقادة الثورة الآخرون، بينهم ابنه الحسين، إلى المنافي البعيدة.
ورغم النهاية المأساوية للثورة، فقد تركت صداها عميقاً في الذاكرة الجزائرية، إذ كشفت عن استعداد الشعب للانتفاض في وجه الاستعمار، مهما كانت التضحيات.

إرث خالد

لم يكن الشيخ الحداد مجرد رجل دين، ولا مجرد قائد ثورة عابرة. بل كان رمزاً لمعادلة نادرة جمعت بين الروحانية والجهاد، بين العلم والعمل، وبين صوت الزاوية وصوت البندقية. لقد جسّد في مسيرته معنى أن يكون العالم في قلب قضايا شعبه، وأن تكون الزوايا منابر للمقاومة بقدر ما هي فضاءات للتربية الروحية.
اليوم، وبعد أكثر من 150 عاماً على رحيله، ما زال الجزائريون يستحضرون ذكراه في كتب التاريخ وفي الذاكرة الشعبية. يُذكر اسمه إلى جانب أسماء لامعة مثل الأمير عبد القادر والمقراني، باعتباره واحداً من أبرز رجال الجزائر الذين واجهوا الاستعمار. إنه مثال على أن الدين لم يكن عائقاً أمام التحرر، بل كان وقوداً له.

 

يبقى الشيخ محمد أمزيان الحداد شخصية جامعة بين الدين والوطنية. فقد استطاع أن يحول مكانته الروحية إلى قوة ثورية هائلة، وأن يكتب اسمه بمداد من ذهب في سجل المقاومين. ورغم أنّ ثورة 1871 انتهت بالقمع، فإن رسالتها بقيت حيّة: لا يمكن لشعب أن يستسلم طالما يملك قادة يجمعون بين الإيمان والشجاعة. وهكذا ظل الحداد أيقونة للتاريخ الجزائري، ورمزاً للروح الوطنية التي لا تنطفئ.

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services