316
0
شهادات و شهادات : من أقبر صفحات مشرقة من تاريخ الصحوة المُبكّرة في مهدها الأول .. و لفائدة من اتلفت أشرطة ومذكرات حلقات مالك بن نبي؟
مصطفى محمد حابس : جينيف / سويسرا
في تقديمه لمجموعة "ماذا أعرف عن الإسلام"، كتب الدكتور عمار طالبي، حفظه الله، نقلا عن شهادات مؤسسي مسجد الطلبة الأوائل، وهم السادة : عبد الوهاب حمودة و عبد العزيز بوليفة وعبد القادر حميتو ومحمد جاب الله، هؤلاء الأربعة هم من سلموا طلب فتح أول مسجد طلابي في أول جامعة جزائرية سنة 1968، و لكن حسب الشهادات، فإن محرره هو الأستاذ عبد القادر حميتو، أصيل جهة البيض، الذي نحاول التعريف به في هذا المقال كما عرفنا بزملائه الثلاث الأوائل في مقالات سابقة، أي كل من الأساتذة و المشايخ، عبد الوهاب حمودة (رحمه الله) وعبد العزيز بوليفة ومحمد جاب الله، حفظهما الله
مسجد الطلبة مكان للتجمع الإسلامي السياسي ؟
وقد أصبح مسجد الطلبة في ذلك الزمن البعيد من بداية الاستقلال، قاعة الصلاة في جامعة الجزائر مكانا للتجمع الإسلامي السياسي، كما ينظر إليه بعض الباحثين، و المتباكين على رحيل فرنسا
"Un lieu de ressemblent de l'islam politique naissant"
Livre de Charlotte Courreye, l'association des oulémas musulmans algériens et la construction de l’état algérien indépendant. Thèse de doctorat soutenue le 28 novembre 2001, p.67
فالذين فكروا، وأسسوا قاعة الصلاة في جامعة الجزائر في سنة 1968، هم الطلبة الذين ينتمون في عمومهم إلى الاتجاه الإسلامي ولجبهة التحرير الوطني، وهم من الذين يترددون على "منتدى التفكير والدراسة" الذي يديره مالك بن نبي (1905-1973) وهو المفكر المبدع المستقل، تخرج في الهندسة الكهربائية من مدرسة، وصاحب منهج علمي تحليلي برهاني، تأثر في شبابه بجمعية العلماء المسلمين الجزائريين وبابن باديس خاصة، نوّه بأعمال ابن باديس في كتبه ومقالاته، وإن قد انتقد الجمعية في لجوئها إلى فرنسا بمطالب بعد المؤتمر الإسلامي 1936، وخاب ظن ابن باديس نفسه في المسؤولين الفرنسيين بعد مقابلتهم في باريس.
وتولى في الجزائر إدارة التعليم العالي، وألقى عدة محاضرات في جوّ يسيطر عليه اليساريون، ومنهم المناوئون للإسلام، وغادر منصب التعليم العالي سنة 1967، كما شرحنا ذلك في مقالات سابقة، نقلا عن شهادات طلبته، جزاهم الله خيرا، و في مقدمتهم الشيخ عمار طالبي، حفظه الله..
ندوات بن نبي الاسبوعية بالعربية و بالفرنسية :
بدأ مالك بن نبي ندوته التي كان يتابعها الطلبة الجامعيون، وأصبحت ندوة أسبوعية، ويديرها في محلِّ إقامته، في بيته بشارع فرانكلين روس فيلت، بالجزائر العاصمة، وهو ما سمي بـندوات مركز للتوجيه الثقافي، مرتين في الأسبوع يوم السبت من يتحدّث فيها باللغة الفرنسية، ويوم أحد باللغة العربية، يعالج في هذه الندوات، المشكلات الإيديولوجية والثقافية والاجتماعية فيما يتعلّق بالمجتمع المسلم، وقد سعى له - قبل ذلك - صديقه الدكتور عبد العزيز خالدي لدى رئاسة الجمهورية، فتحصّل على إذن منها لإدارة هذا المركز في ديسمبر1963، على حد شهادة الدكتور طالبي.
وتكوّن من هؤلاء الطلبة الذين يحضرون الندوة الفكرية ويترددون على مسجد الجامعة تيّار جماعة "البناء الحضاري" والحضارة كما نعلم، هو محور "فكر مالك بن نبي"، ويعتبرها أم المشكلات في العالم الإسلامي، ، وكان أول ملتقى للتعرف على الفكر الإسلامي في ثانوية عمارة رشيد سنة 1968، وحضرته كوكبة من الطلبة ، صاروا فيما بعد، قادة و رموز في العمل الإسلامي و التربوي، كما تبينه هذه الصورة الوحيدة المرفقة ( باللون الأبيض و الأسود)، و التي عرفنا فيها بعض الوجوه البارزة من طلبة و أساتذة، و قد نعود للتعريف بمن تبقى وقد يفوق عددهم العشرات (70/80)، حسب الصورة.
ملتقى الفكر الإسلامي تتبناه الدولة الجزائرية:
طبعا الملتقى تبنّته وزارة الشؤون الدينية والأوقاف، فيما بعد، وخاصة الأستاذ المجاهد الوزير مولود قاسم رحمه الله، فتولى شؤونه جامعيون، ومن جملة من يساعد الوزير الأستاذ عبد الوهاب حمودة والدكتور سعيد شيبان، والدكتور أحمد عروة وأحيانا الدكتور محفوظ السماتي، رحمهم الله جميعا .
وأصبح هذا الملتقى له دور مركزي في تناول المشكلات التي يعيشها المجتمع الجزائري والمجتمع الإسلامي عموما في ذلك العهد
مع أن الجامعة كان يسيطر عليها اليساريون والمتفرنسون أو الفرنكفونيون، ولذلك تصور الناس أن وجود مسجد الطلبة داخل الجامعة بمثابة ميلاد رمز للحركة الإسلامية الجزائرية، كما ذكر خلادي عيسى في كتابه، الإسلاميون الجزائريون و السلطة، بعنوان:
Les Islamistes algériens face au pouvoir, p. 43
وقد نشرنا مقالا في الموضوع مع نص الرسالة التاريخية لفتح مسجد الطلبة، والتي حررها السيد عبد القادر حميتو، وقرئت أمام "مالك بن نبي" لتصحيحها والموافقة عليها، وقال: "ليس لي ما أضيفه ولا ما أحذفه".
واليوم نميط اللثام عن محرر الرسالة، عبد القادر حميتو، الذي صار فيما بعد وزيرا في التسعينات، ثم تفرغ للصناعة و التجارة و الأعمال الحرة، وهو الآن طريح الفراش، مريض جدا، ندعو الله له بالشفاء.
شهادة الأستاذ المؤسس حميتو عبد القادر ( حفظه الله):
يقول الأستاذ حميتو عبد القادر، في شهادته، أنه، " في أوائل الستينيات من القرن الماضي كان رشيد بن عيسى جارا لي في وسط العاصمة، وكثيرا ما كنا نلتقي وذات يوم من سنة 1964 أخبرني بقدوم مالك بن نبي وعودته من مصر مرورا بليبيا، ودعاني لزيارته في بيته، كما حثني والدي بالتواصل معه. ومنذ ذلك الحين أصبحت أزوره دوما مع رشيد رفقة عبد الوهاب حمودة، وتعرفت على طلبة آخرين كانوا يداومون على اللقاء بالأستاذ، منهم عبد العزيز بوليفة ومحمد جاب الله"..." وهكذا التفت حول مالك بن نبي مجموعة قليلة من الطلبة، تتردد عليه وتستشيره، وتنقل إليه أخبار المجتمع وتستمع إلى تحاليله لها وتوجيهاته.".." وما كان يحثنا عليه بداية هو زيارة الثانويات والتحاور مع التلاميذ والأساتذة حول أصالة الجزائر ودوافع نهضتها، وكذلك لتحذير الأجيال الصاعدة من تغلغل أطراف نافذة تحارب الأمة في هويتها وأصالتها."
من مخلفات الاستعمار دعاة الأفكار اليسارية والعلمانية في الحرم الجامعي:
كما يضيف الأستاذ حميتو عبد القادر، في شهادته، قائلا :
" وأغلب هذه الأطراف النافذة كانوا من مخلفات الاستعمار مثل الرهبان العمال (-prêtre-ouvrier) ومن دعاة الأفكار اليسارية والأيديولوجيات الدخيلة، الماركسية اللينينية منها والتروتسكية وما سواها. فهؤلاء وأولئك كانوا يركزون أنشطتهم الواسعة في المجتمع على العموم وخصوصا في الأوساط الثقافية والتربوية والتعليمية.. وكان اليساريون والعلمانيون أكثر تحكما في الوسط الجامعي بحيث يكاد يستحيل الحديث فيه عن الأخلاق والدين أو القيام بأي مظهر شعائري"..." لذلك كان نشاطنا منصبا في البداية على الثانويات، كما أرشدنا إلى ذلك أستاذنا مالك بن نبي، ووجدنا سندا لنا وحماية من حين لآخر في تلك المهمة من السيد قايد أحمد، المسؤول الأول لحزب جبهة التحرير آنذاك. وكنا نتصل بمدراء الثانويات لفتح المجال لنا للتحاور مع التلاميذ، وكانت جلساتنا الحوارية معهم، تطول أحيانا وتتواصل ليلا خاصة مع تلامذة النظام الداخلي"
انتقال الدعوة من الثانويات إلى الجامعات واقتحام الوسط الجامعي:
يقول الأستاذ حميتو في شهادته، عن هذه المرحلة، من انتشار الدعوة، في المجتمع المثقف الجزائري: " وقال لنا الأستاذ مالك ذات يوم، أنه قد آن الأوان لنقل النشاط من الثانويات إلى الجامعة واقتحام الوسط الجامعي، بالرغم من صعوبة ذلك بالنظر إلى الهيمنة الصارمة للفرع النقابي الطلابي الشيوعي الذي بسط نفوذه على المنظمة الوطنية للطلبة الجزائريين،
(UNEA)
وسيطر على مرافق الجامعة كلها كالمطاعم والأحياء الجامعية والمدرجات التي تُلقى فيها المحاضرات والدروس، فشرعنا - على بركة الله - في نشاطنا على المستوى الجامعي وذلك بالمطالبة بحقنا في الرد على الأفكار اليسارية، هذه الأفكار التي كانت تخيم على رؤوس الطلبة وخاصة منهم الجدد. وكنت مع رشيد نصعد فوق طاولات مطعم عميروش لنخاطب الطلبة أن الجزائر في خطر طمس هويتنا الأصيلة وجرنا إلى اعتناق الشيوعية، وكانت بيننا وبين خصومنا مناظرات فكرية عنيفة، وكان رشید صاحب حجج دامغة وخطيبا بليغا، فنرد الحجة بالحجة والصاع بالصاع، ولا ننثني أمام التهديدات ولا نبالي بها،
وكنا دائما نرجع إلى الأستاذ مالك ونقص عليه ما جرى فيشجعنا ويصحح هفواتنا وينصحنا بقوله: "أقبلوا بحكمة وابتعدوا عن الفوضى"، خاصة من بعد ما علم أن الشرطة أوقفتنا بإيعاز من النقابة الطلابية ذات التوجه الشيوعي"، على حد تعبير الأستاذ حميتو، شفاه الله.
تجهيز مسجد الطلبة بسرعة بسواعدنا و عائلاتنا و أحبابنا:
و يستطرد الأستاذ حمينو في شهادته ، قائلا : " وأكد لنا أستاذنا مالك، أنه لا بد من فتح قاعة للصلاة داخل الحرم الجامعي وحثنا على الاتصال بوزير التربية آنذاك أحمد طالب الإبراهيمي لإعانتنا في الحصول على تلك القاعة للصلاة، أي مسجد الطلبة، ومأ إن سلم لنا المحل حتى باشرنا العمل فيها"،
وقمنا بالأشغال في يومين كاملين - ليلا ونهارا- بالتعاون مع فئة من الطلبة الذين التحقوا بنا وبأعوان حراسة الجامعة والقائمين على سلامة المدرجات، وكان أغلب هؤلاء من المجاهدين إبان الثورة التحريرية، ثم أنهى والدي تهيئة القاعة بتزيينها بفرش من الزرابي ولوازم أخرى."
وقامت الصلاة لأول مرة بفضل الله في تلك القاعة داخل الجامعة، وتداول فيها على الخطابة كل من عبد الوهاب ورشيد ثم التحق بهما من بعد عبد الحميد بن تشيكو وآخرون، كما ذكرنا ذلك في شهادة سابقة للدكتور جاب الله والدكتور مولاي.
مضيفا بقوله:" وانطلق نشاط المسجد في مجالات عدة، مثل: الدروس والمحاضرات والرحلات ومعارض الكتاب الإسلامي والمؤتمرات المحلية ثم الدولية وإصدار مجلة "ماذا أعرف عن الإسلام؟"، وكل ذلك كان بإرشادات أستاذنا مالك رحمه الله.
وتجدر الإشارة إلى أن خصومنا، لما سمعوا بفتح المسجد، ثارت ثائرتهم وحاولوا عدة مرات منعنا من الصلاة وغلق المصلى، كما حاولوا حرق المصلى بما فيه من مصاحف وكتب !! "
"هذا باختصار عن ظروف فتح مسجد الطلبة وكان ذلك مخاضا عسيرا تولد عنه فتح كبير ".. على حد تعبير الأستاذ حميتو.
قصة ضياع أشرطة ندوات بن نبي :
(Cassettes)
وإضافة إلى هذه الشهادة أورد الأستاذ حميتو قائلا : " أحب أن أذكر بإيجاز مسألة الأشرطة الصوتية التي قمت شخصيا بتسجيلها للحلقات الأسبوعية التي كانت تدار في بيت الأستاذ مالك، وقد سألني كثير من الناس عن مصيرها..
وكانت ضمن هذه الأشرطة تسجيلات أخرى لبعض الشخصيات التي حضرت من حين لآخر تلك الحلقات، من بينها أذكر على وجه الخصوص:
سي جمال - شريف بلقاسم، الذي كان كثيرا ما يقدم يد المساعدة لأستاذنا مالك، كما كان يحمينا من بعيد ودون أن نشعر بذلك، وكذلك الوزير السعيد آيت مسعودان حين كان مديرا عاما للخطوط الجوية الجزائرية
Boulevard Mohamed V, Alger Centre.
والذي كان يضع مكبر الصوت في الطابق الرابع أو الخامس من عمارة تلك الشركة لرفع أذان الصلاة أيام الجمعة، مع العلم أن مقر هذه الشركة يطل على مسجد الطلبة."
اتلاف الأشرطة التاريخية للصحوة، من فعل "المسيو إيكس":
(Monsieur X)
اتلاف الأشرطة التاريخية للصحوة، من فعل "المسيو إيكس":
(Monsieur X)
و عن سبب ضياع الأشرطة أو اتلافها، يقول الأستاذ حميتو، في شهادته :" زار ذات يوم أحد الفضلاء المقيمين بألمانيا أستاذنا مالك في بيته واقترح عليه أن يأخذ الأشرطة لتسجيلها ثانية في إحدى المؤسسات المتخصصة في ألمانيا وطبعها في كتاب أو كتابين. فسر الأستاذ مالك بهذا الاقتراح وطلب مني أن أسلم الأشرطة كلها إليه ليسلمها بدوره إلى صديقه ذلك الرجل الذي نسيت اسمه (؟؟)، وتجدر الإشارة إلى أن هذه التسجيلات كانت وافية وسليمة.".. "ورجع صاحبنا إلى ألمانيا ومعه الأشرطة، وبعد فترة وجيزة عاد إلى زيارة أستاذنا من جديد ورد إليه الأشرطة كلها، وبقينا في انتظار الموعود لطبع الكتاب.".." وناولني أستاذنا بضاعتنا ( الأشرطة) التي ردت إلينا، وكانت المفاجأة المؤلمة حين حاولت قراءتها، فوجدت أنها قد تم مسحها بالكامل ولا أثر لأي تسجيل من التسجيلات السابقة!!. ولما أبلغنا ذلك إلى الرجل الفاضل اندهش وتألم مما جرى له وللأشرطة، وقال أستاذنا حينها، إنها من فعل "المسيو إيكس" ويقصد بذلك دسائس من يريدون أن يطفئوا نور الله، والله متم نوره ولو كره الكافرون!!"، مختتما شهادته، بقوله : " هكذا كان للأسف مصير الأشرطة، التي ضاعت معها شهادات ثمينة. وأكتفي بهذا القدر من الشهادة على مجريات الأحداث حول ظروف نشأة مسجد الطلبة، نسأل الله تعالى للخلف أن يكونوا أكثر توفيقا وتمكينا ".
الأشرطة أخفيت ولم تتلف، لكن أين هي ؟؟
و بضياع هذه الأشرطة، تكون قد ضاعت من الجزائر و من الامة الإسلامية و الإنسانية قاطبة، شهادات و ذكريات ومذكرات، بل و خيرات و بركات، لا بل صارت هذه الشهادات و هذه الأشرطة التي أتلفت أو أخفيت في تعداد شهيدات الأمة، وفيهم من قال أن هذه الأشرطة لازالت موجودة و حية ترزق في مكان ما، و يمكن تقنيا استخراج ما فيها، بتقنيات حديثة، لتعود لها روحها و عافيتها، بل فيهم من أجزم لنا أن المسح لم يكن نهائي، والأشرطة لازالت سليمة، تنتظر بزوغ فجرها من حين لأخر، و لله في خلقه شؤون !!.. و للحديث بقية، إن كانت لهذه الاعمار بقية!!