485
0
الكرامة مغلقة.. الضفة في سجن كبير

بقلم: الحاج بن معمر
إغلاق سلطات الاحتلال الإسرائيلي لمعبر الكرامة الحدودي مع الأردن ليس مجرد قرار إداري عابر أو ظرف أمني استثنائي، بل هو مشهد جديد من مسلسل العقوبات الجماعية التي تُمارس بحق الشعب الفلسطيني منذ عقود. هذا المعبر الذي يمثل الشريان الوحيد لأكثر من ثلاثة ملايين فلسطيني في الضفة الغربية نحو العالم الخارجي، تحول فجأة من بوابة حياة إلى جدار صامت يعكس سياسة الخنق والهيمنة التي تتبعها إسرائيل لفرض واقع جديد على الأرض.
من الناحية الإنسانية، لا يمكن إغفال قصص المعاناة اليومية التي خلّفها هذا الإغلاق. آلاف الفلسطينيين وجدوا أنفسهم عالقين بين ضفتي المعبر: طلبة يحملون حقائبهم ويتأهبون لمغادرة فلسطين لاستكمال دراستهم في الخارج، مرضى ينتظرون السفر لتلقي علاج عاجل في مستشفيات الأردن أو غيرها من الدول، عائلات تقطعت بها السبل بين لقاء طال انتظاره وأبواب مغلقة بقرار عسكري. هذه الوقائع الملموسة تثبت أن الإغلاق ليس مسألة تقنية، بل هو عقوبة جماعية تُمارَس بلا رحمة. تقرير أصدرته منظمات حقوقية فلسطينية عام 2022 أكد أن 35% من حالات حرمان الفلسطينيين من السفر عبر معبر الكرامة كانت مرتبطة بأسباب "أمنية" غير مبررة، وهو ما يكشف عن سياسة ممنهجة تهدف إلى تقييد حرية التنقل وإبقاء الشعب الفلسطيني في حالة حصار دائم.
سياسيًا، يُنظر إلى هذه الخطوة باعتبارها امتدادًا لسياسة الضم الزاحف التي تنفذها سلطات الاحتلال في الضفة الغربية. فبينما يُستخدم الاستيطان والجدار العازل لتقطيع أوصال الأرض والسيطرة على الجغرافيا، يُستخدم إغلاق المعابر للتحكم في حياة الإنسان الفلسطيني وحركته. وزير الخارجية الفلسطيني رياض المالكي وصف هذه الإجراءات مؤخرًا بأنها "جزء من مخطط تحويل الضفة الغربية إلى سجن كبير محاط بالحواجز من كل اتجاه"، وهو توصيف دقيق يعكس حقيقة الواقع اليومي الذي يعيشه الفلسطينيون.
القانون الدولي بدوره واضح في هذه المسألة. فالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية ينص صراحة على أن حرية التنقل حق أصيل لكل إنسان لا يجوز تقييده إلا في أضيق الحدود ووفق معايير الضرورة والتناسب. ومع ذلك، تواصل سلطات الاحتلال إغلاق المعبر دون مبررات مقبولة، في خرق صارخ لهذه الالتزامات. المحامي والخبير القانوني شعوان جبارين، مدير مؤسسة الحق الحقوقية، أشار في أكثر من مناسبة إلى أن "إغلاق معبر الكرامة يمثل نموذجًا ساطعًا لسياسة العقاب الجماعي المحرمة بموجب اتفاقية جنيف الرابعة"، ما يجعلها جريمة ذات أبعاد دولية تستوجب المساءلة.
اقتصاديًا، يترتب على إغلاق المعبر خسائر فادحة تطال مختلف القطاعات. فإلى جانب الأفراد، يعتمد الاقتصاد الفلسطيني الهش على تدفق البضائع والمواد الأساسية عبر هذا المنفذ الحيوي. تقرير للبنك الدولي أشار إلى أن أي تعطيل في حركة المعابر يكلف الاقتصاد الفلسطيني ملايين الدولارات يوميًا، ويزيد من معدلات البطالة والفقر التي هي أصلًا في مستويات حرجة. هذا يفسر لماذا ينظر الفلسطينيون إلى إغلاق الكرامة على أنه ليس فقط اعتداءً على حقهم في التنقل، بل أيضًا على حقهم في البقاء الاقتصادي والمعيشي.
أما على الصعيد الدبلوماسي، فقد تحركت وزارة الخارجية الفلسطينية بسرعة، وأوعزت إلى سفاراتها وبعثاتها في العالم بضرورة تكثيف التحرك لفضح هذه الجريمة وحشد الضغوط الدولية. الهدف هو تحويل الإغلاق من قضية فلسطينية داخلية إلى قضية رأي عام عالمي. غير أن هذا الجهد يواجه تحديات جسيمة، إذ إن ردود الفعل الدولية غالبًا ما تقتصر على بيانات قلق لا تُترجم إلى خطوات عملية. الباحثة في شؤون الشرق الأوسط بمركز "تشاتام هاوس"، لويز بارتليت، علّقت في ورقة بحثية حديثة بأن "المجتمع الدولي يتعامل مع إغلاق المعابر الفلسطينية كأزمة إنسانية مؤقتة، في حين أنه في الحقيقة سياسة ممنهجة تستدعي ردًا سياسيًا رادعًا".
من زاوية إقليمية، لا يمكن تجاهل الدور الأردني في هذه القضية، إذ يُعتبر معبر الكرامة شريانًا استراتيجيًا يربط الأردن بفلسطين. كل إغلاق له ينعكس مباشرة على الجانب الأردني الذي يستقبل يوميًا آلاف المسافرين الفلسطينيين. المسؤولون الأردنيون عبروا في مناسبات سابقة عن استيائهم من الإجراءات الإسرائيلية، معتبرين أنها تزيد الضغط على البنية التحتية الأردنية وتعيق التواصل الطبيعي بين الشعبين. لهذا، فإن التعاون الأردني الفلسطيني في هذا الملف ليس مجرد تنسيق سياسي، بل ضرورة وجودية لتمكين الفلسطينيين من البقاء على أرضهم.
الأبعاد الاجتماعية والنفسية للإغلاق لا تقل خطورة. الفلسطيني الذي يجد نفسه عاجزًا عن السفر لأسباب غير مفهومة، أو الذي يُحتجز لساعات طويلة في ظروف مذلة على الحواجز والمعابر، يشعر يوميًا بأنه مسلوب الكرامة ومحروم من أبسط حقوقه. الباحث الفلسطيني سري نسيبة كتب ذات مرة أن "إسرائيل لا تكتفي بمصادرة الأرض، بل تصادر الزمن الفلسطيني أيضًا عبر التحكم في حركته وحياته اليومية"، وهذا الوصف يتجلى بوضوح في مشهد إغلاق الكرامة.
عند تحليل المشهد في سياق أوسع، يتضح أن هذه السياسات ليست قرارات عابرة، بل أدوات مدروسة ضمن منظومة الاحتلال. فإغلاق المعبر يستخدم كورقة ضغط سياسية في مواجهة السلطة الفلسطينية، ولإرسال رسائل إلى المجتمع الدولي بأن إسرائيل هي صاحبة القرار والسيطرة المطلقة على الضفة الغربية. كما يُستخدم أحيانًا كأداة انتقامية في أعقاب أحداث سياسية أو أمنية، بحيث يصبح ملايين الفلسطينيين رهائن لسياسات الاحتلال وقراراته.
خلاصة القول إن إغلاق معبر الكرامة يعكس جوهر المشروع الاستعماري الإسرائيلي: السيطرة على الأرض والإنسان معًا. هو ليس مجرد إغلاق لمعبر حدودي، بل رمز لسياسة ممنهجة تهدف إلى تحويل الضفة الغربية إلى سجن كبير، وإبقاء الفلسطينيين في حالة تبعية وعزلة دائمة. ورغم هذا الواقع القاسي، فإن التحرك الفلسطيني على المستويات السياسية والدبلوماسية والشعبية يشير إلى أن القضية لم تُغلق، وأن معركة الكرامة مستمرة ما دام هناك شعب يرفض الخضوع ويتمسك بحقه في الحرية والتنقل والعيش بكرامة.