380
0
"الكلمة" العصامية {شهادة}
بقلم / د. محمد مراح
تعود صلتي بمجلة "الكلمة" لمؤسسها المفكر الإسلامي زكي الميلاد في بداية تأسيسها 1993}، في تسعينيات القرن العشرين {أثناء إعدادي رسالة ماجستير موضوعها "مساهمة مجلة المسلم المعاصر في إسلامية المعرفة" بقسم الدعوة جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية، فوجدتها طموحا اختط لنفسه زاوية خاصة في الإعلام الإسلامي المعاصر.
مجلة الفكر الثقافي الإسلامي المعاصر؛ في زمن تشمخ مجلات فكرية إسلامية إلى أعلى ذُرَىَ الفكر المجدد الرصين الحيوي في أحضان الإسلام وشريعته ومجالاته، وأعلامه قبل حلول "وباء شحرور وأذنابه" " منبر الحوار" لصاحبها المفكر وجيه كوثراني، ومجلة " الاجتهاد" لرضوان السيد، فضلا عن " المسلم المعاصر" [ سنكتب عنها قريبا إن شاء الله ] لصاحبها جمال الدين عطية ، و" إسلامية المعرفة "إصدار " المعهد العالمي للفكر الإسلامي"، إذن جاءت "الكلمة" تستهدف الصحوة الإسلامية بواسع مفهومها ، من زاوية ثقافية فكرية، تتعمق قضاياها الفكرية، وتسبر أفكار أعلامها ، ومسارات النهضة الإسلامية الحديثة والمعاصرة على اتساعها جغرافية ونتاجا . وفيما يبدو أنه تقريب بين الفكر بسموه العقلي، ومنزعه التجريدي و وقاره العتيد، واعتداده بمرتبته السامقة، والثقافة الهادفة الجادة التي تبذل مسالكها السلسة الهينة على العقول والنفوس ، تبتغي نصيبا من الإنخراط في الحركة والنهضة والصحوة من العطاء والزاد الفكري ، يساعد على تحويل الفكر إلى عمل وإنجاز وتخطيط وهكذا .
ف"المسألة الثقافية" إذن هي مرصد مجلة الكلمة للفكر الإسلامي المعاصر. اختار لها مؤسسها الأستاذ زكي الميلاد هذه الوظيفة والرسالة . وأحْسَبُ كتاب الميلاد "المسألة الثقافية" أتى على نحو غير مباشر بمثابة الفلسفة والرؤية والخطة الاستراتيجية للــــ"الكلمة" .
تطورت صلتي بالمجلة وصاحبها إثر نشر نزر من الأبحاث فيها إلى حوار أجريته مع الأستاذ الميلاد في فترة شغفت فيها بالحوار مع مفكرين وأدباء ومثقفين وباحثين منهم : المفكر الإسلامي عمادالدين خليل شفاه الله تعالى وعافاه ، وأستاذنا المفكر الدكتور علي القريشي، والدكتور عثمان سعدي رحمه الله. وكان حوار ثريا مثمرا نشرتُه عام 2005 في مجلة"رؤى" التي كان يصدرها بفرنسا المفكر الإسلامي التونسي الدكتور محمد المستيري رحمه الله.
انجذبتُ لنظرية الميلاد الفتية "تعارف الحضارات"، فأسهمت فيها ببحث "نحو رؤية إسلامية لتعارف الحضارات"، نشرفي كتاب بالعنوان نفسه في كتاب بَسَطَ فيه نظريته .
وتطور الاهتمام بهذه النظرية إلى عقد مؤتمر دولي في مكتبة الاسكندرية 17 – 19 مايو 2011 أثرى فيه النظرية وفحصها نقدا ثلة من أعلام الفكر الإسلامي المعاصر إلى جانب صاحب النظرية الميلاد ؛ المفكر الإسلامي الكبير كمال الدين إمام رحمه الله، والدكتورة نادية مصطفى إحدى رائدات الفكر السياسي الإسلامي المعاصر، وأعلام النظرية الحضارية في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر التي أسس لها المفكر الكبير حامد ربيع رحمه الله ، والدكتور سيف الدين عبد الفتاح الذي شرع لقضايا الفكر السياسي الإسلامي منهجية علمية يحاكى فيها مناهج البحث التجريبي .
لما بلغت "الكلمة " ربع قرن من الصدور استكتب الأستاذ زكي الميلاد من ذوى الصلة بها لكتابة " شهادة" للمجلة تُنْشَر في كلّ عدد ، وهذه شهادتي المنشورة في العدد120 صيف 2023/1445ه.
الكلمة بعد ربع قرن
الكلمة العصامية
مجلة " الكلمة" مجلة عصامية، تأسست في غير سُوُحِ الجامعات والأكاديميات والمدارس والنوادى والمؤسسات العلمية الأكاديمية، فمنحت لنفسها فضاء طلقا من قيود الأكاديميات، واستبقت لها منها حرية البحث والقول ، وشغف التجديد والتجدد، وتوخي الأمانة، والدقة، وطلب التعمق، والتحقق والتحقيق، والاعتداد بالسبق والفرادة ، وقوة الملاحظة ودقتها، والمثابرة، والنقد المؤسس على الحجة والدليل، وشرط وَعْبِ التراث العلمي والمعرفي في مقول القول، وشُكْلَةِ البحث والموضوع، وكذا رحابة المجال، وإغراء التمدد الواعد بالثمر الوفير المغري .
هذه إذن البيئة التي أعدها الأستاذ زكي الميلاد، و رجالات الكلمة لمشروعهم المعرفي الرسالي الإسلامي، زرعا وبذرا واستضافة وإشراكا وتشابكا، ورعاية وسُقيا، وتلاقحا ، وتهجينا، ورصدا في مخابر دقيقة تتابع وتقيم وتُقَوَّم، وتضع معايير الجودة والإدهاش بالثمر .
فأعدّت بهذا للباحثين الأكاديميين الذين تقمعهم المنهجية والمقتضيات الأكاديمية من الاسترسال الحرّ تحت وقع سحر و وميض الإبداع ، وحنان الخصوصية ، ومناغاة النفس، ورفرفة الروح، التي تلبى هذه الأبعاد العميقة الأثر في العمل الإبداعي ، والنسق الفكري الطُّلْعَةَ لأبعد ما يمكن من الإشراق المعرفي، وآفاق الكشف، وفتح السبل لجديد البحث والتقصي، كل هذا يسير برعاية مناهج بحث مجاله المعرفي، وقواعدها، وأدواتها، في توازن في عقله ونفسه البُعْدَان والطموحان: الأكاديمي وطلاقة الفكر والشعور والخيال . وأحسب أن الإبداع الفكري والعلمي الخالدين في الحضارات الكبرى في أوج عبقريتها، وقوة أثرها إنما تحقق في رعاية هذا التوازن البديع .
لعل هذا الذي نقول هو ما حَوَّلَ "الكلمة" وفريقها الدؤوب المثابر الوفي إلى قِبْلَةِ الباحثين الشباب في شتى الجامعات العربية، خصوصا في مجالات الفلسفة الإسلامية والفلسفة التطبيقية والفكر الإسلامي المعاصر، والدراسات الحضارية. أحسب الإشارة إلى أن شروط الترقيات الأكاديمية في جامعاتنا لا تعتمد المجلات غير المُحَكَّمَة، فإن الباحثين الشباب يُضَحُّون برصيد بحثي لترقياتهم ، شغفا بخصيصة البحث العلمي التي ذكرنا .
أما " الكلمة : فقد نشأت في بيئة فكرية وثقافية لها تقاليدها، منها تثمين المجلات والدوريات بجزاءات {مقابل مادي }؛تعبيرا عن شيئين هما : أصالة الكرم في البيئة العربية الخليجية، وتقديرا رمزيا للكاتب، فيكون لها أثر حميد في رفع المعنويات والشعور بالكرامة والفضل .
لكن "الكلمة" كأنما اختارت أن تختبر في الباحث والكاتب اعتزازه بصفته التي حباه الله بها ، وإبمانه برسالته ووفائه لمنهج الأنبياء والرسل ـــ عليهم الصلاة والسلام ـــ الذين كان شعارهم : {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلًا } الفرقان :(57) ، وكثير من العلماء الربانيين في تاريخ الإسلام وحضارته الذين آثروا العلم والدعوة، وطلب الرزق في غيرهما.
ويخبرنا الإقبال على النشر الأكاديمي في "الكلمة" على نَجْحٍ معتبر في هذا الاختيار؛فحفلت أعدادها برصيد معتبر من البحوث العلمية والفلسفية والحضارية .
ملمح آخر؛ طرحنا في أحد المقالات السؤال الآتي ذكره : لماذا فقد الفكر الإسلامي في جيل الشباب قمما فكرية ودعوية شامخة بعد رحيل أغلب كبار الدعاة والعلماء والمفكرين الذين شهدتهم الساحة الإسلامية في القرن العشرين وبنوا البنيان الدعوي والعلمي الشرعي الاحتهادي المعاصر؟ فهل من صلة لهذا السؤال بــ" الكلمة" ؟
لقد نجحت " الكلمة" عبر مسارها الفضي في استقطاب علماء أعلام ومفكرين إسلاميين مرموقين، ودعاة عاملين، وكتاب مثابرين ، أسهموا في صنع مجدها الفكري مع الأستاذ زكي الميلاد والأستاذ محمد محفوظ والأستاذ إدريس هاني وفريق كتابها المحررين .
ورغم ما نعتقده في سؤالنا المثار من صدق بنسبة عالية؛ فإن " الكلمة" كأنما اختارت البقاء في سوية استقامة عطاء فكري محترم رفيع ، جنبت بمقتضاه رصيدها الغبش والرداءة أن تتكاثف لصناعة خصوصية تفاهة ثقافية وفكرية عربية في زمن هيمنتها على المشهد الإنساني وحضارة المتناقضات .
ارتبطت " الكلمة" بـــ " المسألة الثقافية"؛ الفكرة المركزية في فكر الأستاذ زكي الميلاد، فتمكّن بحنكة ودماثة وكياسة وتوجيه، تكوين ثروة معرفية وفكرية باذخة، عبر خريطة حقول المعرفة والفكر والفلسفة المتشعبة، والمشدودة للإسلام ، تستقطبها "المسألة الثقافية" على نحو ما ، فتستقر في حيز ما من مساحتها الوسيعة، ظهيرا لحركة الدفع نحو " المنظور الحضاري" الذي هو كما عرفه وقسمه الأستاذ زكي الميلاد في حوارنا معه؛ :" من جهة هو منظور مركب، بمعنى ألا يتحدد في بعد واحد أو مجال واحد ، وإنما يتسلّط على أبعاد مختلفة ومتعددة".
ومن هنا يصير المنظور الحضاري الحاضنة الكبرى لمشروعات بعث حضاري إسلامي معاصر، أو كما قال في الحوار نفسه :" ومن جهة أخرى فإن المنظور الحضاري يتوجه إلى جذر المشكلات وهو التخلف الذي تتأثر منه جميع القضايا والظواهر وحتى المفاهيم والأفكار، والمواقف والسلوكيات على اختلاف أبعادها ومجالاتها، ومن جهة ثالثة فإن المنظور الحضاري هو منظور يتطلع إلى التقدم ، وإلى تغيير الأوضاع التي عليها، والانتقال بها إلى وضعيات أفضل".
أبدعت " المسألة الثقافية " حسب تفاعلاتها الفكرية الموارة لدى الأستاذ زكي الميلاد نظريته "تعارف الحضارات"؛ فتداعت لها الكلمة بأن تحولت إلى معملها ومركزها الفكري؛ شرحا وإنضاجا ونقدا وتطويرا ودعوة ومراجعة ونشرا، وتسجيلا وتوثيقا دؤوبا دقيقا شاملا لخريطة انتشارها ، ودخولها المؤسسات الأكاديمية الجامعية، ضمن مقررات الطلاب الفلسفية والحضارية ، وأبحاثها الأكاديمية {ماستر ودكتوراه}، فضلا عن المؤتمر العلمي الرفيع الذي احتضنته مكتبة الإسكندرية ، التي انتجت حول النظرية ، وهو ما رفدها لتغدو إحدى النظريات الكبرى في العلاقات بين الحضارات، متسمة بسمات الرشد والإنسانية و التعاون والرحابة والمستقبل البديل للإنسانية في رَحْمَةِ القيم الحضارية الإسلامية بسُنَّةِ التعدد والاختلاف الطبيعيين .
لم أكن محظوظا بوفرة النشر في " الكلمة" ، ولم يكن لهذا سبب معرفي سلبي أو أخلاقي، وقد اقتصر نشري فيها على دراستين، إحداهما حول نظرية تعارف الحضارات .
لقد تزامن حصولي على أعداد منها مع مسيرتي البحثية في موضوع" مساهمة مجلة المسلم الماعصر في إسلامية المعرفة " فبدت لي " الكلمة" رافدا معرفيا وثقافيا وفكريا شابا يحافظ على نضارة "المسلم المعاصر" في رباها الشاهقة، تشق الطريق لعقول ونفوس الشباب باهتماماته الناشئة، وقضاياه النازلة، وتحدياته البالغة الصعوية، بعد حصائل تجارب النهضة الإسلامية الكثيرة الجراح والإخفاقات ، وما يحمله هذا من مخاطر نفسية على الأمة وشبابها .
إلا أن التمعّن في إصرار" الكلمة " على إغذاذ المسير، على خط المسألة الثقافية والمنظور الحضاري، محاطا بقضايا السلم والتعايش والمستقبل والوحدة والإنسانية والتدافع والتحاور والامتصاص الحضاري الواعي، والتقاط المنجز الحضاري الفعال، واللحظة الحضارية الفارقة، يميل بنا إلى التفاؤل لها بشق شِرْعَاتِ تَجَدُّد حضاري متساوقة مع قضايا المعرفة والتكنولوجيا ومصير الحضارة الإنسانية، مع ضرورة الاهتمام بالمشكلات الواقعية، والبحوث الميدانية الكمية، والدراسات المستقبلية بمناهجها العلمية .
لذا لابد من التفكير في استثمار رصيد "الكلمة" من البحوث والمقالات وفكر ونتاج الأستاذ زكي الميلاد وفريق المجلة المباشر، لاستخلاص قاعدة مشروع لمستقبل الأمةالحضاري .