509731
0
مذكرات شاهد على سنوات الجمر الحلقة 149

بقلم اسماعين تماووست
تُعتبر القوانين الإسلامية من أكثر المنظومات الفقهية عمقًا وشموليةً، فهي لا تنحصر في الزمن أو المكان، بل تتجلى في قدرتها على التكيف مع الظروف المستجدة من خلال الاجتهاد الفقهي، ومع ذلك، نجد أنفسنا اليوم أمام حالات مظلمة، تكتنفها التأويلات الخاطئة أو القاصرة التي تُعقّد الفهم الصحيح للشريعة، وهذا ليس ضعفًا في النصوص المقدسة، بل هو انعكاس لتحديات عقول البشر التي تحاول الإبحار في محيط واسع من العلم والمعرفة التي يحتويها القرآن الكريم.
يبقى الإنسان، مهما بلغ علمه، في موقع الجاهل أمام العلم الإلهي، وهنا تبرز قيمة الاجتهاد، وهو الركيزة التي تُمكّننا من تجاوز الثغرات الظاهرية، فالاجتهاد يعني بذل جهد فكري لاستنباط الأحكام المناسبة للحالات التي لا نجد لها نصًا صريحًا في القرآن أو السنة النبوية، وقد أقرّ النبي محمد صلى الله عليه وسلم الاجتهاد كمنهج مفتوح للتعامل مع التحديات الواقعية، وأوصى باستخدام العقل كأساسٍ لفهم الدين وتطبيقه.
ولعل أبرز مثال على ذلك، قصة معاذ بن جبل رضي الله عنه، ذلك الصحابي الجليل الذي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قاضيًا ومعلّمًا للدين، لقد اختار النبي معاذًا لما عُرف عنه من حكمة واسعة علم، وأوصاه بتطبيق أحكام الشريعة وفق الكتاب والسنة، فإن لم يجد فيهما حلاً، فليجتهد برأيه بما ينسجم مع مقاصد الشريعة وعدالتها، وعندما سأله النبي: "بم تقضي يا معاذ؟" أجاب معاذ بثقة: "بكتاب الله." فقال النبي: "فإن لم تجد؟" قال: "بسنة رسول الله." فسأله النبي: "فإن لم تجد؟" فقال معاذ: "أجتهد رأيي ولا آلو." فابتسم النبي وقال: "الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يُرضي الله."
إن هذه الحادثة تُبرز أن الإسلام دين مرونة وتفكير عميق، وليس دين جمود أو انغلاق، معاذ بن جبل لم يكن مجرد قاضٍ ينفذ الأحكام، بل كان مثالاً حياً للمجتهد الذي يستخدم عقله ليفهم الواقع ويطبّق الشريعة في ضوء مستجداته.
عندما وصل معاذ إلى اليمن، واجه مجتمعًا متنوعًا جغرافيًا وثقافيًا ودينيًا، لم تكن مهمة معاذ سهلة، إذ كان عليه التعامل مع حالات معقدة بين المسلمين وغير المسلمين، ولكنه استخدم فهمه العميق للشريعة، بالإضافة إلى ذكائه الاجتماعي، ليحقق العدالة وينشر قيم الدين الإسلامي كدين رحمة وعدل، كان معاذ يعلم أن مهمته تتطلب أكثر من مجرد تطبيق النصوص، بل تتطلب وعيًا بالسياق وحكمة في الموازنة بين النصوص ومقاصد الشريعة.
ومن هنا يتضح أن الإسلام لم يكن يومًا دينًا يفرض قيودًا على العقول، بل هو دين يدعو إلى استخدام العقل والاجتهاد بما يخدم مصالح الناس ويحقق العدل.
إن هذه القصة تحمل رسالة عظيمة، خاصة للذين يجهلون مرونة الشريعة الإسلامية وسعتها، فهي تؤكد أن الإسلام ليس نصوصًا جامدة بل منظومة فكرية متكاملة تدعو إلى الإبداع والبحث والتقدم.
هذه القيم التي أرساها النبي ومعاذ بن جبل تشكل حجة قوية ضد من يظنون أن الإسلام دين انغلاق، على العكس، فإن الإسلام يشجع على الانفتاح على العلم، والسعي لفهم أعمق للحياة، وتحقيق التوازن بين النصوص الثابتة والواقع المتغير، بما يخدم البشرية جمعاء.
الإسلام دين يحرر العقول والقلوب من قيود الجهل والانغلاق، فالله تعالى جعلنا أمة وسطًا، تتسم بالاعتدال في فهمها للدين، تمزج بين الروحانية العميقة والعقلانية الحكيمة، هذه الوسطية تجعل من الإسلام دينًا حيًا قادرًا على التفاعل مع تطورات الحياة المستمرة، فهي لا تقتصر على تطبيق الأحكام الثابتة، بل تشمل أيضًا الاجتهادات التي تتواكب مع تغيرات الزمان والمكان، فالشريعة الإسلامية ليست مجموعة من الأحكام الجامدة، بل هي نظام شامل يواكب التحولات ويعالج المستجدات.
إن الفقه الإسلامي الذي ينبع من الاجتهاد البشري لا يُعتبر بديلاً عن النصوص المقدسة، بل هو وسيلة لفهم الواقع المعاصر، طالما بقي مستندًا إلى أصول دينية راسخة، ومع ذلك، للأسف، نجد في عصرنا من يخلط بين الثوابت والمتغيرات، فيجعل من الاجتهادات البشرية مساوية للنصوص القرآنية، ويُحرف بذلك روح الدين التي تقوم على الرحمة والتسامح.
فالإسلام يدعو إلى الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، ويجب على المسلم أن يتحلى بالتفكير العقلاني الذي يجسد روح الإسلام، كما قال الله تعالى: "ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن" (النحل: ١٢٥).
من خلال ممارستي كمفتش شرطة، أرى كيف يمكن أن يؤدي الجمود الفكري والانغلاق إلى عرقلة التقدم، بل ويُعمّق الفجوة بين المسلمين في فهم دينهم.
في عصر الإسلام الذهبي، كان العلماء يجمعون بين العلوم الدينية والدنيوية، ويسهمون في نهضة حضارية استثنائية، وكان الاجتهاد ركيزة أساسية في تطوير المجتمعات الإسلامية، حيث كان العلماء يشتغلون بالفكر والعقل، وكان الفقه جزءًا من حركة مستمرة نحو فهم أعظم لروح الدين، كما قال النبي ﷺ: "إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر" (رواه البخاري ومسلم).
لكن، كما أكد القرآن الكريم والسنة النبوية، لا ينبغي أن يكون الاجتهاد مبررًا لتشويه النصوص أو التحلل من الثوابت، فهما المصدران الرئيسيان لضمان الحفاظ على نقاء الدين، كما قال الله تعالى: "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" (الحجر: ٩). وبالتالي، لا يمكن للإسلام أن يُختصر في آراء فردية أو اجتهادات غير مدروسة، بل يجب أن يُنظر إليه من زاوية شاملة تحترم القيم وتواكب التقدم الحضاري.
إن الإسلام دعوة مفتوحة للعلم والاجتهاد، وفي هذه المسيرة علينا أن نفتح أبواب التفكير النقدي ونرفض كل شكل من أشكال التطرف الذي يحول بيننا وبين جوهر ديننا، فالتطرف الفكري والتعصب يعيقان فهم الحقيقة، بينما التسامح والتوازن هو ما ينبغي أن يكون أساسًا في حياتنا الدينية والاجتماعية."
يتبع...