305288
0
مذكرات شاهد على سنوات الجمر الحلقة 154

بقلم اسماعين تماووست
"يُلقى هذا الخطأ الجسيم على عاتق جميع الأجهزة الأمنية التي أغفلت الحاجة إلى تعزيز الحراسات بشكل دائم ومكثف حول جميع المؤسسات الحكومية ذات الأهمية الاستراتيجية والحساسة.
فقد كان من الواجب، في كل الأوقات، حتى خلال أيام وليالي الأعياد الدينية والوطنية، وفي عطلات نهاية الأسبوع، أن تكون الحراسات موجودة وبقوة، تحرس الليل والنهار بلا كلل.
كان هذا الحضور المكثف بمثابة الدرع الذي يُفترض أن يحبط أي محاولة خبيثة تصدر من الخونة أو الأعداء الذين ينتظرون لحظة ضعف.
ولكن، كما رأينا، كان التهاون سيد الموقف، الهجوم الدموي الذي طال مدرسة الشرطة في "صومعة-البليدة" سيظل جرحًا مفتوحًا في ذاكرة الوطن.
هذا الحدث لم يكن مجرد حادثة عابرة؛ بل كان نقطة فاصلة كتبتها الدماء، بين الحقيقة والباطل، بين العدالة والظلم، وبين الخير والشر.
وكراوٍ لهذه الحقبة السوداء، وكإنسان عاش تفاصيلها، لا يسعني إلا أن أعود بالذاكرة إلى تلك الأيام.
كانت هناك قلة قليلة ظلت وفية، من الوطنيين المخلصين الذين كرّسوا حياتهم للدفاع عن قضية نبيلة، قضيتنا الوطنية، هذا الوطن الذي كان ولا يزال أكبر منّا جميعًا.
الدفاع عن الشعب الجزائري لم يكن يومًا خيارًا؛ كان واجبًا مقدسًا، دينًا نؤديه بكل إخلاص، حتى ولو كان على حساب أرواحنا.
في تلك اللحظات، لم يكن بإمكان الوطنيين المخلصين الوقوف كمتفرجين بينما الوطن يحترق أمام أعينهم.
هذه القضية لم تكن مسألة شخصية، بل كانت واجبًا جماعيًا، حاولنا انقاذ الوطن حينما غرق في ظلام الإرهاب، وكل منا حمل على عاتقه مسؤولية أكبر من قدراته.
الوطني الحقيقي لم يكن يتردد، لأن إنقاذ الأمة لم يكن خيارًا، بل كان التزامًا قاطعًا لا يقبل النقاش.
لقد كنتُ هناك، وشهدتُ بأم عيني تلك التناقضات العجيبة بين من يقفون في صف الوطن ومن يتخلون عنه، أدركتُ أن الشر قد لا يحتاج إلى عبقرية ليتفشى.
فكم من عقول خاوية، لا تمتلك من الذكاء سوى القليل، سقطت بسهولة في براثن الخطيئة، معتقدة أن هذه الطريق ستكون مخرجًا! ولكن، وكما علمتني الحياة، الخطيئة ليست إلا طريقًا مظلمًا، لا نهاية له سوى الهاوية.
في تلك الأيام، كان العمل الشرطي يتجاوز كونه مهنة؛ كان معركة يومية على كافة المستويات، معركة ضد الجهل، معركة ضد الخيانة، ومعركة داخلية نخوضها ضد أنفسنا، لكي نبقى واقفين أمام كل هذا العبث.
كنتُ كمفتش للشرطة أواجه أحيانًا تساؤلات داخلية أكبر من المهمة ذاتها. لماذا يغدر البعض بوطنهم؟ كيف يمكن لإنسان أن يبيع قيمه مقابل وعود زائفة؟ ولماذا دائماً نجد أن الحق يحتاج إلى تضحيات جبّارة، بينما الشر يكفيه تردد لحظة واحدة؟
لقد كانت مدرسة الشرطة، رمزًا للأمل والانضباط. من المفترض أن تكون المكان الذي يتخرج منه أبطال الوطن، لا أن تكون مسرحًا لخيانة كهذه.
لم يكن هذا الهجوم مجرد حدث عابر؛ لقد كان طعنة في القلب، طعنة أيقظتنا من سباتنا وأجبرتنا على إعادة التفكير في كل شيء: في نظامنا، في أولوياتنا، وفي يقظتنا التي خذلتنا حين احتاجها الوطن أكثر من أي وقت مضى.
وعلى الرغم من هذا، فقد أثبت الوطنيون المخلصون أن الجزائر أكبر من كل الخيانات. إنها الأرض التي تنبت من دماء شهدائها من يقفون ليرفعوا الراية من جديد. تعلمتُ حينها درسًا عميقًا: الوطن ليس كلمة ننطقها في الخطب ولا شعارات نرفعها في المناسبات، الوطن هو ما نقدمه له عندما يحتاج إلينا، حتى لو كان ذلك على حساب حياتنا.
ربما سيظل هذا الفصل في تاريخنا محفورًا، كتلك اللحظة التي أدركنا فيها الفارق الحقيقي بين من يُضحّون ومن يخونون.
أؤمن أن القصص العظيمة تُكتب بالدماء والتضحيات و الجزائر ستظل شامخة، رغم كل شيء
أنا المفتش إسماعيل تماووست، أحمل ذاكرة مثقلة بالصور والأصوات التي حفرت نفسها في أعماق روحي.
في تلك السنوات القاتمة التي خيم فيها الإرهاب على الجزائر، كنت أواجه يوميًا حقائق تفوق كل تصور. ليس من السهل أن تكون شاهداً على الجرائم التي ارتكبها أناس فقدوا كل شعور بالإنسانية، والذين بدت أفعالهم وكأنها صدى لعصور الظلام، عندما كانت الوحشية قانوناً والمعاناة وسيلة للسيطرة.
هؤلاء الذين نشروا الرعب بين الناس لم يكونوا سوى بيادق في لعبة أكبر منهم. كانوا يجهلون الحقيقة، حقيقة أن ما يعتقدون أنه "نضال" كان في الواقع أداة لتدمير أمتهم.
كانوا ينفذون أوامر قادة لا يعرفون الرحمة، أوامر تهدف إلى إثارة الفوضى وزعزعة الاستقرار. أتذكر جيداً الحالات التي عاينتها بنفسي: عائلات ذُبحت دون سبب، وفقدت شرفها وفتيات. كالزهور سلبت منهن الحياة، أحياء أُحرقت بالكامل، رعبٌ ودمار.
كل هذا كان جزءًا من استراتيجية مقصودة لتحطيم الروح الوطنية للشعب الجزائري.
لم يكن العنف مقتصرًا على الأجساد، بل تجاوز ذلك ليغزو النفوس. كان هدفهم الأول والأخير هو زرع الخوف في القلوب، حتى يصبح الناس عبيداً للخوف نفسه.
كثيرون أطاعوا أوامرهم ليس ولاءً، بل رهبة من انتقام لا يرحم، لقد كانت تلك الأيام أشبه بكابوس لا ينتهي، حيث كان الشعور بالموت يرافق كل لحظة، وكان الأمل في النجاة رفاهية لا يمكن التمسك بها.
لكن ما أثار حيرتي كشرطي ومفتش هو التشابه الغريب بين أفعال هؤلاء الإرهابيين وما ارتكبه الاستعمار الفرنسي في الجزائر قبل عقود.
لقد أعادوا إلى الأذهان ذات المشاهد الدامية، تلك التي عاشها أجدادنا تحت وطأة الاحتلال. ولكن الفرق المؤلم هنا هو أن الإرهاب كان يأتي من الداخل، من أناس ينتمون لنفس الأرض التي دافع عنها أجدادهم. رأيت كيف تحولوا إلى أدوات تدمير، يقتلون إخوتهم في الدين والوطن، وينشرون الفوضى كما فعل المستعمر، بل وربما بوحشية أكبر.
كم كان مؤلمًا أن أرى هذه المشاهد وأدرك أن الهدف من كل ذلك لم يكن مجرد السيطرة على السلطة، بل تدمير البنية الاجتماعية والثقافية للوطن.
أرادوا إفقار الشعب، سحقه نفسيًا وماديًا، ليصبح عاجزًا عن المقاومة أمام أعداء يتربصون به. في كل جريمة كنت أحقق فيها، كنت أشعر بثقل المؤامرة التي تهدف إلى تدمير الجزائر من الداخل، تمهيداً لتفكيكها وسرقة هويتها.
لكن بالرغم من كل هذا الظلام، كنت أستشعر أحيانًا بصيصًا من الأمل، أرى في عيون الناجين إصرارًا على المقاومة، على التمسك بالحياة رغم كل شيء. كان الشعب الجزائري، رغم جراحه، يحمل في داخله قوة لا يمكن كسرها.
لقد تعلمت من تلك التحقيقات أن الجزائر ليست مجرد أرض، بل روحٌ تتغذى على التضحية والصمود.
اليوم، وأنا أروي هذه القصة، أدرك أن الماضي ليس مجرد ذكرى، بل درسٌ يجب أن ننقله للأجيال القادمة، نحن مدينون للشهداء وللضحايا بأن نحكي قصصهم، أن نفضح الجرائم التي ارتُكبت بحقهم، وأن نتأكد من أن هذا الوطن لن يسقط أبدًا في براثن الظلم مرة أخرى. الجزائر كانت وستبقى وطنًا للأحرار، مهما حاول أعداؤها.
يتبع . ..