693

0

الحكمة وخصائصها في الخطاب الدعوي للشيخ أبي الحسن الندوي"1"*

 

{1}

محمد مراح

المفتاح \\على غير ما اعتاد المتحدثون والمحاضرون في تسمية مداخل حديثهم مقدمات أو توطئات؛ فقد إخترت كلمة (المفتاح)، تقديرا مني أنها أنسب دلالة على ما أرغب التعبير عنه في صدر تناول موضوع المحاضرة .

إذا سمحنا لأنفسنا باستعارة أداة تحليل وظفها الأستاذ عباس محمود العقاد  ــــ رحمه الله تعالى ــــ  في تحليل الشخصيات الإسلامية الكبيرة تحت  مظلة ( العبقرية)،ما كان يسميه (مفتاح الشخصية) ، ثم عدًلنا هذا الاستعمال على النحو الآتي ذكره : ( مفتاح العطاء الدعوي) للشيخ أبي الحسن الندوي ـــ رحمه الله تعالى ــــ  فسيجد الدارس نفسه أمام  حقيقة هي : أن تراث الشيخ الندوي قد كون شخصية دعوية هائلة يصح تسميتها ( الشخصية الإعتبارية الندوية الدعوية ) يستعصى الولوج إليها وفهمها على حقيقتها دون مفتاحها وهو ( فيوض الإيمان )؛ فهو الروح السارية في تلك الشخصية على تنوع عطائها وثرائه .

ومن لم يهتد لهذا المفتاح فعبثا يحاول فتح الباب الرئيس ، والتجول في أنحاء الصرح المنيف الذي شيده سماحته على مد بصر عمره رحمه الله .

فالتعويل على العقل وحده ليصل بك إلى إدراك المقولات الندوية لن ينيل المبتغى ، ويزيح السُتُر عن المشهد الدعوي الإيماني المتلألئ . فكل قضية أو فكرة أو خاطرة،أو تحليل عزلته عن هذه الروح (الإيمان ) في شخصيته الإعتبارية الدعوية ، يتعذر إدراكها على وجهها بصورة موضوعية حقيقية .

ومقاربة موضوع الحكمة في خطابه الدعوي  بالبحث والدراسة  يسبح في هذا الفضاء الإيماني النوراني و من بهجة الدارس لتراث  الندوي أن الفكر والدعوة فيه أمران متلازمان حد التلاصق والتعاوض ؛ فكل فكره دعوة، وكل دعوته فكر .

وسنقارب الموضوع بالدرس عبر المحورين الآتيي الذكر-مفهوم الحكمة الدعوية لدى الشيخ أبي الحسن الندويـ -خصائص الحكمة والدعوة في الخطاب الدعوي الشيخ أبي الحسن الندوي.

 

*مفهوم الحكمة لدى الشيخ أبي الحسن عند الندوي. تناول سماحته مفهوم الحكمة ـ حسب ما عثرت عليه ــ في إتجاهين هما :مفهوم الحكمة في القرآن الكريم : " المراد من الحكمة : الأخلاق الفاضلة ، والآداب الإسلامية ؛ لأن القرآن أطلق لفظ الحكمة على هذه الأخلاق في مواضع شتى ، ذكر في سورة الإسراء التعاليم الخلقية الأساسية في موضع واحد .

من قوله تعالى ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ) إلى قوله : ( كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها ) [ الإسراء : 23 ـ 38 ]..... ختمها بقوله : ( ذلك مما أوحى إلبك ربك من الحكمة ) الآية : 39 ...  إن الحكمة في المصطلح القرآني لها صلة عميقة وثيقة بالأخلاق "  .

واستنباطه لمفهوم الحكمة الذي وردت به في القرآن الكريم ، يبرهن به على المعنى المشترك بين وجوه الورود القرآني بها وهو ( الأخلاق ) ، فكأن الحكمة في القرآن الكريم تلخيص بليغ للأخلاق ، والحكيم بالتالي هو صاحب الخلق الرفيع ، المتنزه عن خوارم المروءة فضلا عن الوضيع من الأخلاق .

واللفتة الحسنية الندوية هنا ذات ملمح ذكي ورائع ؛ لأن الحكيم إذا إنفصلت في شخصيته الحكمة بمعنى إدراك الخير و التوجيه إليه دون تمثله والتخلق به ، لم يعد هناك وجه لوصفه بالحكيم، ولذا وردت في القرآن الكريم مقرونة بالأنبياء والصالحين ، وهم القدوات الأوائل للدعاة الذين أمر الحق الحكيم أن يلتزموا الحكمة في دعوتهم لله .

و على ضوء هذا ـــ  فيما يبدوـــ ـيفهم ماذهب إليه سماحة الشيخ أبي الحسن ـ رحمه الله تعالى من أن الدعوة إلى الله لا يمكن تقييدها بحدود وقوانين مرسومة سلفا كي تأتي التصرفات عليها في كل ما يعرض للدعاة في دعواتهم إلى الله أو كما قال:" إن من يضع القوانين المحددة للدعوة أو التربية يجنى عليها ، على إطلاقها وحريتها وحيويتها ، ويجنى على الدعاة " ، فكأن في مستوياتهم الخلقية الرفيعة مع الله ومع العباد ما يلهمهم السلوك المناسب في الموقف المناسب ، وتلك الحكمة التي من أوتيها فقد أوتي خيرا كثيرا . 

وهكذا يفهم  موقف الشيخ أبي الحسن المنبهر إزاء كلمة الحكمة في القرآن الكريم ؛ "الحكمة الكلمة البليغة العربية التي جاءت في الآية ( أدعو إلى سبيل ربك \الآية :...125 ) سورة النحل :،

لا أعتقد أنها من الممكن ترجمتها أو نقلها إلى لغة أخرى ... القرآن يحل هذه المشكلة فأطلق وقيد ، وأوجز وأعجز ، فقال : ( أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ). ولكن هناك نماذج من الدعوة الحكيمة ، نماذج رائعة ، نماذج خالدة على مر التاريخ " ، تلك النماذج الدعوية من الرسل ترسم الحكمة بدعواتها  . ثم كأن الحكمة لديه إلهام رباني للداعية الذي يصطبغ يصفتين هما : تملك الفكرة ، وتسيطر على نفسه ، والثاني : التجرد عن المطامع الدنيوية والزهد في المناصب والملك .

*خصائص الحكمة والدعوة في الخطاب الدعوي لأبي الحسن الندوي\

2       أفضى بنا إستقراء الخطاب الفكري\ الدعوي لسماحة الشيخ أبي الحسن الندوي ــ  رحمه الله تعالى ــ إلى إستخلاص أربعة خصائص بارزة  تميز الحكمة فيه الخصائص الآتية الذكر : 1 –التوازن  ــــ 2 –العمق 3– صراحة القول ـــ4– الرمزية.

1 –التوازن

التوازن أحد أهم مميزات المنهج الإسلامي، خصوصا  في تشريعه ، ومنهج تطبيقه ، وبناء الشخصية الإسلامية، وقد أفاض في بيانه كثير من العلماء والكتاب المسلمين في العصر الحديث ،كما عُنوا  بالإرشاد إليه عمليا وهم يوجهون ويرشدون مسار الإحياء الإسلامي المعاصر.

لقد إنسكبت ( فيوض الإيمان ) لدى الشيخ أبي الحسن الندوي على مجريات الحراك الدعوي في الساحة الإسلامية المعاصرة، فدفعت بكثير من مقولات وأفكار وتصرفات ذاك الحراك نحو المعيار الإسلامي الدقيق في فهم الواقع البشري ، وحسن تقديره ، دون الإكتفاء بمنطق الأحداث وضروراتها وتأثيرات البشر فيها ؛ بأهوائهم ، ونقائصهم ، وأحيانا بشهواتهم ، وطاقاتهم الإدراكية البشرية المحدودة. فجاءت محصلة التفاعل الإيماني للشيخ الندوي معها أن رد الشارد إلى الأصل، والقسطاس المستقيم ، كما نلمسه في مجموعة من القضايا التي يصح أن يلحق بها كثير غيرها فتُفهم على ضوئها . 

أ ـ  دعوى خُلو الأرض من الشرك والدعوة للتوحيد : لاحظ سماحته، غفلة واستهانة بمستوى الشرك المتبقى في العالم ، يضاهي أو يفوق من الناحية الكمية ما كان عليه أيام البعثة المحمدية، وإلتفات دعوي أكثر لإقامة الحكم الإسلامي والدعوة إلى خلوص التشريع في الأرض لله وحده، فنبه إلى إعادة التوازن لهذا التصور ؛ كما يتضح في موقفه الآتي : التوازن في الدعوة إلى التوحيد ومناهضة الشرك الخالص في صورته التي عرفت في رسالات الأنبياء مع أقوامهم وعلى نهجها دعوة النبوة الخاتمة ، وخلد القرآن كل ذلك في محكم التنزيل، فهذا هو الشرك الأصلي الذي أنزلت الرسالات وبعث الرسل ومعهم الكتب لمناهضته ومقارعته وهزيمته واستئصاله، وإنتفاء الدعوى بخلو وجه الأرض منه إلا من جاهل لا يعقل، فهذا تنكر ونكران لأصل الدعوة النبوية والشرك المناهضة له بالتنزيل وتقليل من شناعة الشرك الوثني.

وهذا لا يمنع من الدعوة إلى خلوص التشريع في الأرض لله وحده وإقامة الحكم الإسلامي ، فلا تكون  بديلا عن الدعوة إلى التوحيد و محاربة الشرك الوثني في الدرجة الأولى فإنها لا تزال أكثر إنتشارا وأعظم إثما ومن يشرك بالله فقد إفترى بهتانا عظيما – وقوله تعالى : (إن الله لايغفر أن يشرك به ......) النساء :الآية48(6) .

فمن المعلوم أن إكراهات الواقع كثيرا ما تصرف العاملين في الحقل الإسلامي عن الأصل، وتوخي تسديد المعوج الناشز حتى إن كان فرعا، ولهذا كان من الحكمة التنبيه على ضرورة التوازن الفكري والاعتقادي والعملي ؛ فالانحراف العقائدي ـخصوصا في أبشع صوره وهو الشرك ، مصدر كل الانحرافات التي تنجر إليها البشرية ، وتاريخ الاعتقاد في الأرض كما يقصه القرآن الكريم خير إثبات لهذه الحقيقة ، ولهذا كان من الحكمة اليقظة دوما إلى أثر الشرك المدمر في الأرض على الحياة والأحياء. 

ب ـ دعوة كل قبيل سياسي من المسلمين على جهة  ما جار  و فرّط :

إهتدى سماحته ببصيرته الإيمانية الغامرة إلى أن الحكمة تقتضى التوازن في الخطاب إزاء الكيانات السياسية القائمة على أرض المسلمين تحكمهم وتسوسهم؛ ففريق منهم لم يأبه للرصيد الحضاري والإرث الإسلامي الرائع للبلاد التي يتولون حكم أهلها؛ من محاربة جهود إصطباغ الحياة فيها بالصبغة الطبيعية وهي صبغة الإسلام عقيدة ومنهج حياة؛ لذا فهو يرى ضرورة إقناع الدول الإسلامية ذات الماضي الحضاري الإسلامي الرائع وهي اليوم تحارب التوجه بالحياة للإصطباغ بالصيغة الإسلامية ، وتمارس حرب إبادة ضد الدعوة ودعاتها ، بعقم سلوكها، والأجدى توجيه طاقاتها لعدو مشترك، وإلى ما يقوى طاقاتها  .فكأني به يشي إلى الإمكان التنبيهي الذي يحمله ذاك الإرث الحضاري الباذخ في تصالح الحاضر معه، وإستنفار الطاقات الحية لمواجهة العدو المشترك ماديا كان أو معنويا كالمهلكات الخلقية من انحرافات عن سنن الفطرة ، وقويم السلوك ، والمثبط عن النهوض والتقدم .

ونشدانا للتوازن الدعوي، يوجه سماحته إلى إقناع الدول المسالمة بضرورة تطبيق الشريعة ، وإقامة أسس الحكم الإسلامي والشعور بالتقصير في إقامة الإمامة العامة التي سنحاسب عليها، بطبيعة الحال بما لهذا الضرب من الدول من موادعة للإسلام ، وفطرة سياسية سليمة ، لا تطوي كشحا عن بغض ونفور من شهود واقع تشريعي إسلامي يلف الحياة والمجتمع فيها .

ولكن لعوارض قد يكون بعضها واردا خارجيا أو جهالة لوجوب عيش المسلمين في كنف دينهم عقيدة وشريعة، ولا يُخطئ النظر السليم ما تنطوي عليه هذه النظرة من توازن محسوب لكل حال ، وما يصلحها ويؤطرها على الحق أطرا .

ج ــ توازن ميزان الدعوة حسب حال الموزون :الدعوة الإسلامية النافذة حالة إيمانية حية في القول والفعل والعمل، تبعث أشعة نورها في أرجاء المكان الذي تتحرك فيه؛ والداعية الحصيف، كما يستخلص من الحكمة الحسنية الندوية ، هو من يحسن توزيع دفق تلك الأنوار حسب طبيعة الزمان والمكان ؛ فالدعوة الى الإسلام بالحكمة في البلاد غير الإسلامية ، والإلتزام بالقيم الخلقية الإسلامية والقيم الإسلامية في البلاد ذات الأقلية المسلمة ، مما يلفت الأنظار إليه و يستهوي القلوب ، والقيام بالمسؤولية الخلقية للقيادة الروحية وإنقاذ المجتمع من الإنهيار الخلقي والخواء الروحي ، فالحكمة التي أوجب الله أن تأتي الدعوة عليها، كما فهمها أبو الحسن الندوي ــ لا تؤطرها القواعد والقوانين الجامدة ، إنما هي تقدير ناجع لمطلوب ناجز. فيمنح خصيصة التوازن في تقدير صرف الحكمة لحال الموزون فعالية مُجدية بإذن الله ورحمته وهدايته .

                                       يُتْبع

 

·       محاضرة أُلْقِيت في مؤتمر "موقف الشيخ أبي الحسن الندوي من الأفكار المعاصرة " ، المنعقد بتاريخ : 21ـــــ 23 ربيع الثاني 1435هـ الموافق 22ــــ 24 فبراير 2014، في رحاب مدرسة العلوم الإسلامية ، عليكرة، الهند .

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2024.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2024.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services