554

0

الجزائر، ذاكرة الدبلوماسية وأمجاد الوساطة: فيلم "444" يعيد للأذهان مجدًا لا يزول


✍️بقلم: بن معمر الحاج عيسى

في عالمٍ يزداد فيه الزيف ضجيجًا، وتختلط فيه الحقيقة بالدعاية، يسطع الضوء حين ينبثق من شريط وثائقي يعيد تشكيل الذاكرة الجماعية، ويوقظ الفخر الكامن في أعماق الشعوب. هكذا جاء الوثائقي "444" للمخرج مراد أوعباس، ليكون أكثر من مجرد سرد سينمائي لأحداث مضت، بل شهادة حية، وصرخة زمن في وجه النسيان، ومرآة تعكس حجم الجزائر الحقيقي، ذاك الحجم الذي رسمه نضالها، وأثبتته مواقفها، ونحتته دبلوماسيتها في صخر التاريخ.

ليس من المبالغة القول إن وثائقي "444" شكّل لحظة نادرة في المشهد السمعي البصري العربي، إذ تجرأ على اقتحام ذاكرة مغيّبة، واستعاد محطة منسية من المحطات المشرفة التي خاضتها الجزائر، حين تصدرت مشهد الوساطة الدولية لإنهاء واحدة من أعقد الأزمات الجيوسياسية في القرن العشرين، أزمة الرهائن الأمريكيين في طهران، التي امتدت 444 يومًا، وانتهت على يد الدبلوماسية الجزائرية الهادئة، الحكيمة، النزيهة.

الفيلم لم يكن مجرد توثيق لتلك اللحظة، بل كان عملية إعادة ترميم للوعي الجمعي، وإعادة سردٍ صادقٍ لأحداث طالها التشويه أو الإهمال، واستثمارًا سينمائيًا في ما هو أعمق من الصورة: في القيمة السياسية، والرسالة الوطنية، والرؤية الحضارية. لقد استطاع مراد أوعباس، برؤية إخراجية دقيقة، وذكاء إعلامي حاد، أن يدمج الوثيقة بالشهادة، والمشهد بالتحليل، وأن ينسج سردًا سينمائيًا نابضًا بالحياة، دون الوقوع في فخ التمجيد الجاف، أو التغني بالشعارات، بل عبر لغة بصرية آسرة، وحوارات أصيلة، وأرشيف ثمين، واعترافات دولية تشكّل في ذاتها وثائق تاريخية نادرة.

ليس سهلاً أن يُنجز فيلم وثائقي حول حدث شائك كهذا دون أن يغرق في التفاصيل التقنية أو في الحساسيات السياسية، لكن "444" تجاوز كل هذه العقبات، وخرج لنا بعمل متكامل، مفعم بالتوازن بين الرمزية السياسية والصدق الفني، ومحمّل برسائل متعددة الاتجاهات: عن الدور الجزائري، وعن حياد الجزائر الإيجابي، وعن الثقة الدولية التي لطالما نالتها، وعن حضورها حين يغيب الآخرون، وحكمتها حين تعجز القوى العظمى.

إن وساطة الجزائر في أزمة الرهائن لم تكن لحظة عابرة، بل كانت تتويجًا لتراكم سياسي وأخلاقي، ونتاجًا لرصيد نضالي حفرته الثورة الجزائرية في الوجدان العالمي، وواصلته الدبلوماسية الجزائرية المستقلة، تلك التي لا تنحني، ولا تتورط في المحاور، ولا تساوم على المبادئ. لقد جاءت الجزائر إلى طاولة الأزمة لا كطرف طامع، ولا كقوة مستعِرة، بل كصوت للحكمة، وكجسر تواصل، واستطاعت أن تجمع المتناقضين: واشنطن وطهران، في لحظة لم يكن فيها حوار، ولا أفق.

جاء عرض الفيلم في تونس، بمناسبة الذكرى الـ63 لاستقلال الجزائر، ليكون أيضًا عرضًا لذاكرة مغاربية مشتركة، إذ نظّمته القنصلية العامة الجزائرية هناك، وجعلت منه مناسبة لتكريم وجوه نضالية من تونس والجزائر: المناضل والنقابي التونسي أحمد التليلي، الذي عرف بلقب "وزير الجزائر"، لشدة انخراطه في الدفاع عن الثورة الجزائرية، والمناضل أحمد المستيري، أحد رموز الوطنية التونسية، والمجاهد الجزائري محمد الجيلالي العمراوي، أحد الرجال الذين صنعوا بصمتهم في التاريخ الوطني. لم يكن حفلًا عادياً، بل تجلٍّ لذاكرة النضال المشترك، وتأكيد على أن الاستقلال لا يُحتفل به إلا باستحضار من صنعوه، ومن ساندوا صناعته.

الحضور التونسي، من مثقفين، وكتاب، وإعلاميين، وناشطين سياسيين، عكس عمق الروابط الثقافية والسياسية بين الشعبين، كما عكس اعترافًا صريحًا بأهمية الفيلم كوثيقة سياسية وفنية، تعيد بناء الجسر بين الشعوب والدبلوماسية، وتؤكد أن الشعوب ليست فقط موضوعًا للسياسة، بل فاعلًا فيها، حين تتحول الذاكرة إلى قوة ناعمة، وحين تُستخدم الكاميرا لا كسلاح، بل كمنارة.

في كلمته، أكد القنصل العام الجزائري في تونس، نصر الدين لعرابة، أن الجزائر لم ولن تنسى من وقف معها، في معارك التحرير، وفي معارك الذاكرة. وأشار إلى أن هذا التكريم هو عربون وفاء، وتأكيد على أن الجزائر لا تنسى من لم ينسها، وأن الجغرافيا لا تعني شيئًا حين تتحد القضايا، وحين تمتزج الدماء والتضحيات في مقاومة مشتركة، ضد الاستعمار، وضد التبعية، وضد التزييف التاريخي.

إن فيلم "444" لا يُعيد فقط قراءة التاريخ، بل يطرح سؤالًا عميقًا عن حاضر الدبلوماسية العربية، وأدوارها الغائبة، ومواقفها المرتبكة، ومسؤولياتها المهملة. حين يرى المشاهد كيف تدخلت الجزائر بقوة المبادئ، لا بسطوة المال، ولا بمنطق النفوذ، يتساءل: أين هي الدبلوماسية العربية اليوم من أزمات الأمة؟ من فلسطين إلى السودان، ومن اليمن إلى ليبيا؟ أين هي الأيدي النظيفة التي يمكن أن يثق بها الطرفان؟ أين ذهبت هيبة الدبلوماسية القائمة على المبدأ لا على التوازنات الهشة؟

الفيلم ليس فقط شهادة على وساطة سياسية، بل هو مرآة لأخلاق الجزائر في السياسة الخارجية: عدم الانحياز، احترام سيادة الشعوب، الدفاع عن القضايا العادلة، العمل في الظل لا للضوء. ومن هنا فإن "444" لا ينتمي فقط إلى الماضي، بل يخصّ الحاضر والمستقبل، ويقول للجيل الجديد: إن الجزائر التي قاتلت للاستقلال، وقادت الثورات، وفتحت أبوابها للمقاومين، كانت أيضًا قوة سلام، وعقلًا دبلوماسيًا استثنائيًا، حين كان العقل العربي يبحث عن بوصلته.

إنها لحظة يجب أن تتحول إلى درس في الأكاديميات، وإلى مادة في المناهج، وإلى مثال يحتذى في العمل الدبلوماسي العربي، بعيدًا عن الارتهان والخضوع، وبعيدًا عن الاصطفاف الأعمى.

في النهاية، فإن عرض هذا الفيلم ليس مجرد مناسبة احتفالية، بل موقفٌ من الزمن، واستعادة لكرامة التاريخ، وتذكير للأجيال بأن الشعوب لا تُقاس فقط بمساحتها، بل بمواقفها، وأن الجزائر رغم الجراح، لا تزال تحتفظ بجذوة النبل، ورؤية الدولة ذات البصيرة، التي تعرف متى تصمت، ومتى تتدخل، ومتى تضع يدها على الجرح، لا لتؤلمه، بل لتُضمّده.

فيلم "444" ليس فقط إبداعًا بصريًا... إنه بيان شرف دبلوماسي، أتى في زمن عزّ فيه الشرف، وقلّ فيه الضمير، ونامت فيه الذاكرة. لكنه أيضًا وعدٌ بأن الجزائر لا تزال وفية لما كانت، وأنها إذا تراجعت قليلاً في ضجيج المرحلة، فإنها تعود دائمًا من باب الكلمة... ومن باب المبادئ.

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services