بقلم الحاج بن معمر
ليس غريبًا أن يقف سفير الكيان في قنوات موجّهة ، ليحاول أن يوزع الاتهامات على الجزائر ويصوغ الرواية كما يشتهي. لكنه يخطئ، كغيره ممن مرّوا قبله، في حسابات التاريخ وفي فهم طبيعة هذا البلد الذي لم يركع يومًا.
فحين يتحدث عن دعم الجزائر للمقاومة، ويشير تلميحًا إلى حركة "حماس" باعتبارها حاضنة أيديولوجية، فإنه يُسقط من ذهنه حقيقة كبرى: الجزائر لا تدعم الفصائل كأحزاب، بل تدعم روح المقاومة، تلك الروح التي وُلدت معها، والتي صنعت مجدها، والتي جعلتها قبلة لكل حركات التحرر في القرن العشرين.
منذ أن وطأت أقدام المستعمر الفرنسي أرض الجزائر في 1830، لم يعرف الجزائري إلا المقاومة، جيوش جرارة، أسلحة متفوقة، محاولات لاقتلاع الهوية، محو اللغة، وتدمير الذاكرة الجماعية، ومع ذلك ظل الجزائريون يقاومون لأكثر من قرن وثلث القرن، حتى فجّروا في 1954 ثورة من أعظم ثورات العالم، ثورة المليون ونصف المليون شهيد.
كانت تلك الثورة مدرسة الإنسانية في كيف تقاوم الشعوب وهي محاصرة، وكيف تصنع الحرية من الفقر، وكيف تنتصر على الطغيان بالسواعد العارية قبل البنادق، ومنذ ذلك اليوم صار اسم الجزائر مرادفًا للكرامة، وصارت المقاومة بالنسبة لأبنائها ليست مجرد خيار سياسي، بل قدرًا بيولوجيًا يسري في الدم، ولهذا، حين يتحدث السفير عن "حماس" أو "حزب الله" أو غيرها، يخطئ الهدف.
الجزائر لا تقيس دعمها بميزان الانتماءات الأيديولوجية، ولا تفتش في عقائد المقاومين، الجزائري يقف مع كل من يقاوم الاحتلال، أياً كان دينه أو خلفيته، المهم أن يقف في وجه الاستعمار، أن يدافع عن أرضه وكرامته، أن يقول "لا" حين يُطلب منه الركوع.
ولهذا، لم يتردد الجزائري في أن يقف مع فيتنام ضد الاحتلال الأميركي، ومع شعوب إفريقيا السمراء ضد الاستعمار البرتغالي والبلجيكي، ومع شعوب أميركا اللاتينية ضد الديكتاتوريات المدعومة من واشنطن، لم يكن الأمر تضامنًا رمزيًا؛ الجزائر كانت تفتح سفاراتها، تستقبل المناضلين، تدرب المقاومين، وتسلح الثوار.
فمن رحمها خرجت شرارات ألهمت العالم: من نيلسون مانديلا الذي كان يعتبر الجزائر وطنه الثاني، إلى تشي غيفارا الذي وجد فيها امتدادًا لحلمه الأممي. وهنا يكمن الفارق الجوهري: الجزائر ليست دولة تبحث عن دور، وليست نظامًا يستعمل شعارات التحرر لمقايضة العروش والمصالح.
الجزائر نفسها ولدت من رحم المقاومة، ولذلك لم تعرف سوى أن تكون في صفها، ومن يظن أن بإمكانه جرّها إلى مربع "المساومة" أو "المقايضة"، فهو لم يقرأ تاريخها جيدًا.
قد يختلف الجزائريون فيما بينهم، وقد يتصارعون في تفاصيل السياسة الداخلية، لكن ساعة الخطر يصبح الجميع كتلة واحدة، هذه معادلة يعرفها التاريخ، ويعرفها المستعمر الفرنسي الذي جرب أن يفتت الصفوف فأخفق.
الجزائر، ببساطة، تتوحد حين تطرق المقاومة الباب. ولهذا، حين يحاول السفير أن يخيفها أو أن يلوح بتهديدات، فإن الرسالة تصل معكوسة: لأن الجزائر تعرف أن الحرية لا تُشترى، وأن الكرامة لا تُساوم.
الجزائر ليست بلدًا للقصور ولا للحاشيات، الجزائري يتذكر دومًا وصية هواري بومدين: "مات مخلي، عاش ما كسب." هذه العبارة لم تكن مجرد وصف لحياة قائد، بل عقيدة لشعب.
الجزائري عاش الفقر ولم ينكسر، عرف الجوع ولم يساوم، ذاق التهميش لكنه لم ينسَ قضيته، ولهذا حين يُسأل اليوم: هل تقف الجزائر مع فلسطين؟ يأتي الجواب بديهيًا: الجزائر لا تقف مع فلسطين كملف سياسي بل كجزء من هويتها.
"نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة"، قالها بومدين يومًا، ولم تكن جملة دبلوماسية، بل تعبير عن وحدة المصير، ولذلك حين يقول الجزائري: "خمسون مليون مقاوم"، فهذه ليست مبالغة خطابية.
الأمهات اللواتي يُرضعن أطفالهن يربينهم على أن فلسطين أمانة، والجدات اللواتي عشن الاستعمار الفرنسي يعلمن الأحفاد أن الاستعمار لا يرحل إلا بالقوة، والشباب الذين كبروا في ظل الحرية يعرفون أن الحفاظ عليها لا يقل صعوبة عن انتزاعها.
لهذا، حتى الأجنة في الأرحام، كما يقول الجزائريون، يولدون ومعهم نزعة المقاومة، الجزائر لا تعتدي على أحد، ولم يكن يومًا في تاريخها نزعة توسع أو رغبة في ابتلاع جيرانها، لكنها تعرف كيف ترد.
ومن يظن أن الجزائري يمكن أن يُخيفه التهديد، فليقرأ صفحات التاريخ، حين فرغت مخازن الثورة من السلاح، حمل المقاومون الحجارة والعصي، ولم يتوقفوا.
هذه هي عقيدتهم: إن لم نجد الرصاص، نجد الحجر، وإن لم نجد الحجر نجد الصدر العاري، المهم أن لا نركع. في ذاكرة الجزائر دائمًا تلك الكلمات التي قالها تشي غيفارا: "خيرٌ لنا أن نموت واقفين مرفوعي الرأس، من أن نموت ونحن راكعين."
هذه العبارة ليست مجرد حكمة ثورية، بل وصف لحياة الجزائريين منذ قرنين، ولهذا، فليكن واضحًا للسفير ومن يقف وراءه: الجزائر لا تُبتز، لا تُشترى، ولا تُهدد.
هي بلد يعرفه العالم جيدًا، جربت القوى الاستعمارية أن تكسره وفشلت، حاولت أن تُعيد تشكيل هويته وفشلت، وحاولت أن تطمس ذاكرته ففشلت، فكيف اليوم يُظن أنها ستساوم على فلسطين أو تُهادن العدوان؟
إن من يتحدث عن "دعم الإرهاب" حين تُذكر المقاومة، عليه أن يسأل نفسه: من كان الإرهابي في الجزائر خلال 132 عامًا من الاحتلال؟ هل كان المقاوم الذي حمل بندقية صدئة في الجبل، أم المحتل الذي قصف القرى وحرق الغابات ودفن الجزائريين أحياءً؟ العالم كله يعرف الجواب، والتاريخ سجّل الحقيقة.
وما جرى في الجزائر يجري اليوم في فلسطين، الاحتلال واحد وإن اختلفت الأسماء، والاستعمار واحد وإن تغيرت الرايات، ولهذا، فإن موقف الجزائر ليس خيارًا سياسيًا بل امتدادًا لتجربتها.
لقد عرفت الجزائر أن دعم المقاومة لا يعني الانحياز إلى طرف، بل الانحياز إلى الحق، ومن يقف مع الحق لا يضيع، حتى إن تخلّى عنه الجميع.
ولهذا حين تخلّى كثيرون عن فلسطين، وهرول بعضهم إلى التطبيع، بقيت الجزائر واقفة، لم تُبدل، لم تتلون، ولم تُساوم. لأن الشعوب لا تغفر، والتاريخ لا يرحم.
إن السفير الذي يحاول أن يُهاجم الجزائر عبر منابر عربية، عليه أن يدرك أن كلماته لن تفعل سوى إشعال نار أكبر في قلوب الجزائريين، هذا بلد لا يخاف المواجهة، بل يتغذى منها، وكلما هددوه، عاد أقوى.
الجزائر اليوم ليست مجرد دولة في شمال إفريقيا، بل رمز عالمي للمقاومة، هي البلد الذي ألهم مانديلا، وأعطى غيفارا معنى آخر للنضال، ووقف مع كل من قاوم الظلم.
الجزائر اليوم تقول بوضوح: لسنا دعاة حرب، لكننا نعرف كيف نرد. لسنا معتدين، لكننا نعرف كيف ندافع. لسنا نبحث عن دور، لكننا نعرف أننا قِبلة كل مظلوم.
هذه هي رسالتها. وهذه الرسالة لا تحتاج إلى بيانات رسمية أو خطابات دبلوماسية؛ يكفي أن تذكر كلمة "الجزائر" في أي محفل، ليعرف الجميع أنك تتحدث عن أرضٍ لم تعرف سوى المقاومة.
فلتكن الرسالة الأخيرة واضحة: لا تختبروا صبر الجزائر، ولا تظنوا أن بإمكانكم إخافتها بالتصريحات أو بالضغوط، هذا وطن ولد على هيئة مقاومة، ويعيش على هيئة مقاومة.
الجزائر ليست رقمًا في معادلات السياسة، بل رمزًا خالدًا في وجدان البشرية: رمز أن الحرية لا تُشترى، وأن الكرامة لا تُباع، وأن المقاومة ليست فعلًا ظرفيًا، بل هوية أبدية.