235
1
الدخول الجامعي لجاليتنا في أوروبا و عوائق المساجد الطلابية ..معلومات للتاريخ نسمعها لأول مرة عن أول مسجد طلبة وصاحب فكرته
مصطفى محمد حابس : جينيف / سويسرا
إن الاهتمام بالمبادئ والشخصيات والمحطات التاريخية التي اسست نظما و دولا، بل و أمما، له من المعاني والدلالات الشيء الكثير في استنهاض الهمم وإحياء مناقب الأسلاف وما أنجزوه، بل فيه بعثا وتتويجا لماضي الأجداد الحافل بالخبرات والعبر التي بصمت التاريخ عند الشعوب المتحضرة، عبر حلقات متراصة الفصول يشد بعضها البعض الآخر، ويحمي حاضرها ماضيها ويستشرف مستقبلها بثقة وأمل كبير، ومن باب الاعتراف التاريخي وجب التنويه بإنجازات الأقوام الذين بذلوا الغالي والنفيس في سبيل تأسيس دولهم وفق دساتير و نظم و مشاريع تخدم البلاد والعباد.
من هذه المشاريع و نحن مقبلون على الدخول الاجتماعي و الجامعي الجديد، مسجد الإقامة الجامعية أو مسجد الطلبة كما يعرف منذ عقود، الذي لازال لحد الان في الغرب محل صراع وجود بالنسبة لطلبتنا في بعض الجامعات الغربية، ذلك ما استوقفنا هذه الأيام ونحن نزور جاليتنا المسلمة في بعض العواصم الأوروبية، مرورا بمساجدها الطلابية او قاعات الصلاة كما تسمى أحيانا، و بعضها يسمى قاعات متعددة الصلاحيات، وسميت بهذا الاسم لأنها مخصصة للعبادات بمواقيت مبرمجة وفق ديانات الطلبة كالبوذية والمسيحية بشقيها و الإسلام و رغم ان جل طلبة الأديان الأخرى نادرا ما يستعملون قاعة الصلاة هذه، إلا أن الجالية المسلمة تستطيع بأريحية أداء جل صلواتها، بما فيه الجمعة، وهذا مكسب عظيم يحسدون عليه في فرنسا و بعض الدول التي لا توفر للطلبة مثل هذه القاعات، رغم حرص الطلبة الوافدين والمقيمين على المطالبة بها، كحق مشروع !!
أول مسجد طلابي "أسس على التقوى من أول يوم"
ونحن نزور هذه المساجد الطلابية هذه الأيام مذكرين طلبتنا الجدد بسرد تاريخي ملهم ومهم، من سيرة الرسول و رسالته الخاتمة، في قول الله تعالى في سورة التوبة : "لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة:108، ولما، سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذا المسجد، قال مسجد (قباء) قد "أُسِّسَ على التقوى من أول يوم"، ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أسس هو أيضًا على التقوى من أول يوم، فكلا المسجدين أسس على التقوى من أول يوم ، كما جاء في الحديث، ولا اختلاف بين الروايتين !!
وعن جيل الصحوة الأولى في جزائر ما بعد الاستقلال، وعملا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم (مَن سَنَّ سُنَّةً حَسنةً فعمِلَ بِها ، كانَ لَهُ أجرُها وَمِثْلُ أجرِ مَن عملَ بِها ، لا يَنقُصُ مِن أجورِهِم شيئًا )، ذكرناهم أيضا بالسُنة الحميدة في فتح المساجد الطلابية داخل الجامعات في العالم العربي والغربي، هذا الأخير الذي لا تزال بعض جامعاته كفرنسا، تعارض على استحياء السماح للطلبة المسلمين أن تكون لهم معابدهم الخاصة، مثل أقرانهم المسيحيين حتى في بلد يزعم أنه " لائكي أو علماني"، علما أن جل الجامعات الغربية فيها أو بجوارها " كنائس" تخص المسيحيين لا غير، وفيهم من خصص أماكن للعبادة لكل الديانات لكن وفق مواقيت محددة وغير مناسبة في عمومها للمسلمين الذين يصلون خمسة صلوات في اليوم !!
مبينين لطلبتنا الجدد انه، تاريخيا في عصرنا الحالي وفي جزائر الاستقلال، فأول المساجد الطلابية، في الإقامة الجامعية أو الحي الجامعي، الذي يعود فضله في الجزائر بل و في العديد من دول عالمنا الإسلامي، هو "مسجد الطلبة بجامعة الجزائر المركزية" الذي أسس على تقوى من الله، عام 1968 بإيعاز من المفكر الإسلامي الموهوب مالك بن نبي رحمه الله، كما هو معروف، ويعد من أوائل المساجد الطلابية في العالم قاطبة، إن لم يكن هو الأول في عالمنا العربي والإسلامي عموما، والذي كان له الأثر البليغ في استعادة الطالب الجزائري دينه و لغته و وطنيته، بعد أن طمستها فرنسا بداية و أجهزت عليها المنظمات الشيوعية و الفرنكوفونية في عهد الاستقلال الأول للجزائر، مستهدفة بذلك ما بقي من هويته
لذلك فقد كان لحضور المسجد في الجامعة أثره الفكري في تصحيح المسار الأكاديمي و العلمي الذي قام على أسس العلمانية و الإلحاد. وقد أصبح بفضل الله وبفضل تلك المساجد، المتخرجون من أطباء ومهندسين و أساتذة جامعيين يقومون بواجباتهم الدينية من صلاة و صيام و امتناع عن الخمور و الرقص و المجون.. فقد أخذوا قسطا من معارف دينهم دون أن يثنيهم ذلك في أن يتميزوا في دراستهم و مهنهم. وأن يرتبطوا بمجتمعهم دون أن يستعلوا بشهاداتهم الجامعية. فقد كان الزمن الأول من الجامعة المستقلة يخرج نماذج أخرى كثيرا ما تنقاد وراء مظاهر العصرنة و تنسلخ من هويتها و ثقافة أوطانها..
بعض المجالات العلمية التي كانت حكرا على نظريات داروين و فرويد و سارتر و ..، كعلوم الإجتماع و علوم النفس و القانون و التربية و الآثار و المعمار أخذت تتخلص من دوغماتياتها و تتقلص لتفسح المجال للفكر الإسلامي فيها، و للاستناد إلى نظريات لا تتنافي بل و لا تتعارض والمنظومة الإسلامية. هذا فيما كان طلبة تلك الأحياء يبدعون في الرياضيات و الفيزياء و العلوم الدقيقة بفضل تجردهم و إقامتهم و استقامتهم حيث كانوا في الغالب يتفوقون على أقرانهم الذين كان أغلبهم ينغمس في مظاهر العصرنة و "التقدم" المظهري !!
نماذج من أساتذتنا ترعرعوا في أكناف مسجد الطلبة
ونحن نستذكر فضل هذا المسجد الطلابي على الأجيال وعلينا ، في كل دخول جامعي أو مدرسي، أي مسجد الطلبة بجامعة الجزائر المركزية، و كاتب هذه السطور من رواده الملتزمين في ثمانينات و تسعينات القرن الماضي، بل ومن المداومين في أنشطته مع كوكبة من الطلبة و الأساتذة الخلص و من المشرفين على بعض أنشطته، بل ولنا فيه ذكريات و ذكريات مع الأحباب و الأصحاب، رحم الله من مات منهم، و بارك في عمر من تبقى !!
بذات المناسبة، استوقفتني هذا الأسبوع تدوينة أستاذنا الدكتور محمد عوالمية من جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بقسنطينة، عن أحد رواد هذا المسجد الطلابي النموذجي، وهو رجل كفيف كنت أراه في بعض الجُمع في ساحة المسجد بعد الصلاة، لكني ما كنت أعلم أنه من قدماء طلبة مالك بن نبي، علما أني أزعم حتى ولو لم أتعرف على طلبة مالك بن نبي جميعا فردا فردا، إلا أني أحفظ قائمة طويلة من أسماء أول طلبة مالك بن نبي و رواد مسجد الطلبة في فترة الثمانينات، إلا هذا الشخص خاصة وهو كفيف، ولم أسمع أن هناك طالب كفيف كان يحضر ندوات مالك!! و قد استفسرت و أنا أكتب هذه الخواطر، من بعض أساتذتنا الذين كانوا يحضرون حلقة ين نبي يوم السبت بالفرنسية، منهم أستاذنا الدكتور الحبيب هدام، فأخبرني أنه لا يذكر تحديدا، وأحالني على بعض أقرانه كالدكتور مولاي السعيد والدكتور محمد ثابت أول والشيخ الدكتور عمار طالبي، حفظهم الله جميعا !!
أقول هذا الكلام لأني أزعم أني أعرف أيضا جل أسماء تلك الفترة حتى لو لم ألتقي بهم، وكذا أعرف قائمة بألمع أسماء كُتاب مجلتهم الأولى بالفرنسية " ماذا أعرف عن الإسلام"، والتي عرفنا بها القارئ الكريم منذ أشهر خلت تحت عنوان :
يوم العلم و رسالة الإسلام في الغرب، ندوة بمدرج الجامعة، "ماذا أعرف عن الإسلام ؟
« Que sais-je de l'Islam.. ? »
الكفيف الذي واظب على ندوات مالك بن نبي و مسجد الطلبة !!
عن هذا الأستاذ الكفيف من طلبة بن نبي، ومن أول راود مسجد الطلبة ومن الذين حضروا كل ملتقيات الفكر الاسلامي، كتب أستاذنا، الدكتور محمد عوالمية، ما يلي، تحت عنوان :
الكفيف الذي واظب على ندوات مالك بن نبي طيلة خمس سنوات"، حول جلسته الحوارية الحميمية مع الأستاذ أحمد قتال، مبينا :
أن الأستاذ أحمد قتال رجل متواضع يعظك بفعله قبل قوله، قليل الكلام، صارم في المواعيد، حريص على كل ما له صلة بالله عز وجل، تخشع إن صليت خلفه، وتستفيد إذا حادثته." .. " ولد الأستاذ أحمد قتال في بلدية الأربعاء بالبليدة سنة 1943. " وفي سن الرابعة بدأ الأستاذ أحمد قتال قصته مع فقد البصر بسبب مرض الرمد الحُبيبي (التراخوما)، تلك القصة الأليمة التي حرمته من التمدرس في السن الطبيعي وأفقرت أسرته بفعل التكاليف الباهظة للعلاج.."
مبينا أن " الأستاذ أحمد قتال لم يبدأ دراسته الابتدائية إلا في سن الحادية عشر من عمره، بمدرسة المكفوفين الوحيدة آنذاك على المستوى الوطني بالجزائر العاصمة". واصفا الأستاذ أحمد بأنه " نابغة بحق خاصة في الحساب مما جعله أحط عناية الأساتذة. و هو الأمر الذي سيكون له الأثر البارز فيما بعد حيث أوصت المديرة الفرنسية للمدرسة حين غادرت الجزائر بضرورة منحه منصب معلم في تلك المدرسة بعد إنهائه لمرحلة التعليم العمومي المتوسط سنة 1962. كان الأستاذ أحمد قتال أحد الثلاثة الأوائل من المكفوفين الجزائريين الذين حصلوا على شهادة التعليم المتوسط، بالفرنسية، رفقة عبد القادر بوزيان ورشيد عكاش !!
و إتماما في سرد سيرته الذاتية، كتب عنه محاوره الدكتور عوالمية :
" بالموازاة مع ممارسة مهنة التعليم درس الأستاذ أحمد المرحلة الثانوية آنذاك بشكل مستقل حينا أو من خلال الدروس المسائية أحيانا حيث حصل على الباكالوريا العربية والفرنسية. وذلك في الفترة من عام 1965 إلى 1971. سجل في الجامعة شعبة اللغات ليسانس ألمانية ثم ليسانس فرنسية ثم انصرف عنهما إلى ليسانس في علم النفس التربوي في الموسم 1971 1972. كما أتيحت له فرصة الذهاب إلى فرنسا للدراسات العليا سنة 1976 ولكنه رفض -وهو إلى اليوم يحمد الله على ذلك، على حد قول محاوره.
تقاعد الأستاذ أحمد قتال سنة 1998 آسفا أشد الأسف على بداية تراجع مستوى التعليم في الجزائر.
التعرف على مالك بن نبي و الكوكبة النورانية الأولى لطلبته :
تعرف الأستاذ أحمد قتال على مالك بن نبي من خلال أحد أشقاء الأستاذ المفكر رشيد بن عيسى، شفاه الله و متعه بالصحة. وقد توسم فيه الأستاذ رشيد نباهة وتميزا واهتماما فاستقطبه لحضور ندوات الأستاذ مالك بن نبي في عام 1968. حيث بدأ يحضر ندوات بالفرنسية كان يعقدها مالك بن نبي يوم السبت في منزله، بالجزائر العاصمة.. ومن الأسماء التي لا يزال يتذكرها من الحاضرين مثل عبد الوهاب حمودة ( رحمه الله) و رشيد بن عيسى ( مقيم بيم تركيا و فرنسا)، و البروفيسور محمد بوجلخة ( المقيم حاليا في أمريكا) وعبد القادر حميتو ( الوزير الأسبق الجزائري)، و البروفيسور محمد سعيد مولاي ( المدير أسبق للمدرسة العليا للرياضيات) وعبد العزيز بوليفة و المفكر و الفيلسوف عبد اللطيف عبادة من قسنطينة ( رحمه الله) و الدكتور محمد جاب الله الطبيب ( من الصحراء) وشمس الدين شابوي الكفيف الفرنسي الذي اعتنق الإسلام وتأثر بأفكار مالك بن نبي، و القائمة طويلة، رحم من مات منهم و حفظ من يقي.
من الأمور التاريخية عن مسجد الطلبة و عن مالك بن نبي و التي نسمعها لأول مرة :
ومن الأمور التاريخية التي ذكرها، الأستاذ أحمد قتال لمحاوره، عن مالك بن نبي و التي نسمعها لأول مرة، بل أسمعها لأول مرة :
وردا عن سؤال "بعض ما يميز بن نبي من وجهة نظره"، فقال له :
- البساطة والتواضع في معاملة تلاميذه حيث كان يحضر إلى منازلهم ويشاركهم مناسباتهم فقد حضر عقد زواج الأستاذ أحمد قتال في منزله سنة 1969
- الحرص على إقامة الصلاة في وقتها أثناء الندوات وقد كان في أحيان قليلة يصلي بتلاميذه إماما.
- الحرقة على أحوال الإسلام والمسلمين: لما كان مريضا في شهر أكتوبر 1973 كان كلما أفاق من إغماءة سأل من حوله: ماذا حدث في سيناء؟
- الإهمال وعدم التقدير اللذان تعرض لهما مالك بن نبي حيا وميتا. وفي هذا السياق ذكر بمرارة شديدة أن السفارة الليبية هي التي تكفلت بتكاليف علاج مالك بن نبي في باريس، و ليس الجزائر !!
أما عن وفاة مالك بن نبي، قال الأستاذ أحمد قتال لمحاوره :" لقد تركنا بلا موجه. لقد أحسسنا باليتم الحقيقي حين توفي.."
مشروع جمع تراث مسجد الطلب و أول رواده :
هذه قطوف من حوار جاد مقتضب و ملهم حول حياة الأستاذ أحمد قتال ومسجد الطلبة و مؤسسيه، وهي معلومات ثرية جدا فقد ارتبط الرجل بمسجد الطلبة ولقي شخصيات كثيرة مثل الوزير مولود قاسم والمؤرخ أبو القاسم سعد الله، ودرس عند الشيخ الدكتور عباسي مدني في الجامعة، و تعرف على أوائل طلبة مالك بن نبي و رواد مسجد الطلبة بجامعة الجزائر المركزية ( حاليا جامعة الرئيس بن خدة).
و قد اختتم محاوره - وهو كفيف أيضا على فكرة للذين لا يعرفون الدكتور عوالمية - بالتركيز على أن" الأستاذ أحمد قتال شخص لا يحب الحديث عن نفسه ولا يعتبر ما عاشه من أحداث أمرا غير عادي.. ولولا إلحاحي الشديد على تقديمه كرمز للمكفوفين لما تحدث فالشكر الجزيل له على كل ما فعل وعلى كل ما قال." ..
من جهتي أقول شكر الله للأستاذين ( الكفيفين) هذه الشهادات التاريخية عن أول مسجد طلبة التي تكتب بماء من ذهب، داعين الله لهم التوفيق في مساريهما الدعوي و الأكاديمي، و الدعوة للكتاب والمثقفين و من طلبة مالك عموما وقدماء مسجد الطلبة خصوصا، إلى توثيق كل ما أمكن عن مسجد الطلبة و تراث مالك بن نبي وأمثاله من العظماء قبل أن يرحل الشهود إلى بارئهم فيدعي الأدعياء ما شاءوا !!
وفي هذه السانحة، وختامها مسك، أتصلت بأحد الناشرين المهتمين بفكر مالك بن نبي و رجوته أن يكلف أحد أعوانه أو مجموعة باحثين لتسجيل حوارا مصورا تلفزي مع الأستاذ أحمد قتال و غيرهم من رجال و حتى نساء جيله كالدكتور مريم عبدة - أم قدس، وغيرها لإماطة الغبار على مثل هذه الكنوز و ما أكثرها من قدماء طلبة مالك بن نبي، لو وجدت من يجمعها و يجمع تراث هذه الحقبة الملهمة من تاريخنا، ليس فقط تاريخ المفكر مالك بن نبي و أول طلبته، بل تاريخ شواهد القرن وما اكثرهم، تنويرا للأجيال الصاعدة و إكراما للجهود المبذولة رفعا لراية الإسلام من خير سلف لخير خلف .. و الله الموفق لما فيه خير العباد و البلاد.