366

0

"البرج " والمنشور

د. محمد مراح

قد يكون من باب توارد الخواطر، وتوافق الأحداث ذات المغزي في تاريخ الأفذاذ أن أسرد الخاطرة الآتية :

في شهر رمضان 1434هـ) جويلية (2013م) كنت ما بين صلاتي العصر والمغرب أتمشى في شارع كبير بتبسة يسمى شارع هواري بومدين، وقد أقيم في الأصل على ردوم وادي يسمى وادي الناقص ( كان يشق المدينة ما بين مخرجها إلى الاتجاه نحو طريق قسنطينة - كما تسمى عندنا - ثم جلست قليلا للاستراحة في شبه حديقة كان قد أعتنى بتنظيفها شباب خيرون من المدينة ينشطون بهمة في جمعية بيئية تعنى بنظافة المدينة والمساجد والمقابر ، وتركوا بذلك أثرا محمودا فيها جزاهم الله خيرا ، الجو كان نديا رواحا بعد هطول أمطار صيفية تعودت عليها المدينة في هذا الشهر.

وهذا المكان يقابل قاعة المؤتمرات التي أنشئت سنة 1989 في زمن قياسي لإحتضان ملتقى الفكر الإسلامي الثالث والعشرون 1440ه 1989م موضوعه " نحو مجتمع إسلامي معاصر" ..

كان من نجومه كوكبة مشرقة من أفذاذ الأمة وعلمائها ومفكريها أذكر منهم : شيخنا الغزالي والشيخ القرضاوي والشيخ البوطي رحمهم الله . 

ومن القيادات السياسية الكبيرة نجم الدين أريكان الزعيم الإسلامي التركي الكبير صاحب حزب الرفاه الذي قجم للمؤتمر مشروعا كبيرا متكاملا لمشروع مجتمع إسلامي معاصر استرعى الاهتمام والإكبار . والشيخ راشد الغنوشي الذي أتذكر وصوله للتبسة من المنفذ الحدودي منفردا على متن سيارة أجرة "رونو 404 " بترقيم تبسي، وأخذ يناقش الشرطي ليسمح له بالدخول والشرطي لا يبدو عليه الاهتمام اللازم ولا يستجيب بهمة وعناية لفتح الباب له.

 و من الأعلام أيضا الدكتور محمد عمارة رحمه الله الذي عشنا أنا و أخي الدكتور إبراهيم نويري معه أيام الحج عام 1992 ، وأعلمناه أننا من تبسة التي تشرفت منذ زمن قريب بتنظيم الملتقى، والأجواء الاجتماعية التي كانت من تقاليده وسنته المطردة تمازج ضيوفه الكبار والمشاركين : طلابا و أساتذة وأئمة و مهتمين وصحافيين ومثقفين رجالا ونساء بالمجتمع المحلي للمدينة التي ينظم فيها الملتقى ، وتقام لهم المادب في بيوتها في يوم احتفالي بهیج واختارت السلطات الولائية ليوم الكرم الاجتماعي في ولاية تبسة مدينة الشريعة المرتبطة بأم معارك ثورة التحرير معركة الجرف وبشاعرها الكبير الشيخ محمد الشبوكي صاحب قصيدي : "من جيالنا طلع صوت الأحرار" و " جزائرنا يا بلاد الجدود".

أبدت الشريعة عن كرمها الحاتمي العتيد قل نظيره أبدع أهلها في الأكلات المحلية بمذاقات خارقة، وكان سلطان الموائد والطاولات الممدودة خرفاتها المشوية التي تسمى محليا "الفضلي " من بادية الشريعة " الدرمون " الخرافية المذاق مهما كانت طريقة طهوك للحمها . قلت : تذكر الدكتور عمارة تلك المكرمة، مكرر إعجابه بمذاق "المصلي " العجيب، وحاتمية الإكرام والاحتفاء بضيوف الملتقى .

وكان من الحاضرين الكبار أيضا الدكتور والمفكر الاقتصادي والمالي الإسلامي جمال الدين عطية صاحب مجلة "المسلم المعاصر " و رجاء غارودي رحمهم الله جميعا وغيرهم كثير ومما لاحظته من الفيلسوف الكبير غارودي حرصه على أداء صلاة العصر في نهاية قاعة المؤتمر دون انتظار وصوله للفندق على خلاف الجميع ، تنتظره زوجته الفلسطينية حتى يتم صلاته على سجاد القاعة البسيط، والمؤتمر كان غزة مضيئة في جبين الجزائر والمدينة وفي تاريخ ملتقى الفكر الإسلامي .

ظللت أتأمل في تلك العشية الطيبة قاعة المؤتمرات فأسترقت إنتباهتي ذكرى ذاك الملتقى العظيم. 

وفجأة قفزت لذاكرتي المعلومة الآتية : أن موقع القاعة هو نفسه الذي أستأجر فيه المرحوم مالك بن نبي رحمه الله تعالى دارا للسكن حين جاء برفقة زوجته الفرنسية المسلمة خديجة رحمها الله تعالى في زيارة لأهله بتبسة في مارس عام 1939.

والمكان يدعي إلى اليوم ( برج بوذيبة )، وفي توصيف بديع لتلك اللقطة الأسرة من حياته وحياة المدينة التي أحبها حبا شاعريا، يقول :" استأجرت من دون أن أدفع كثيراً، جناحاً من برج بوذيبة خارج السور وفيه كانت زوجي خديجة تستطيع أن تتمتع بجمال الطبيعة بين شروق الشمس على جبل الديرعلى طريق المسافر نحو مدينة الكويف المنجمية وغروبها على جبل الدكان} [الشامخ المطل على جملة قرى ولطقسه البارد المنعش صيفا أقام حاكم تبسة العسكري بيتا جميلا فيها يهرب إليه من حر تبسة الصيفي الصارم وتسلو طيلة النهار بمرور من يأتي إلى المدينة من البادية القريبة صباحاً، وينقلب إلى منزله عشية خاصة يوم الثلاثاء، حين يأتي أصحاب المواشي إلى السوق، على المسرب الذي يعبر وادي الناقوس | ترجمة غير دقيقة.

فالصواب وادى الناقص ولا يزال اسمه هكذا إلى اليوم، وكثير من أسماء الأعلام والأماكن في تبسة وأحوازها في مذكرات شاهد القرن ومشكلة الأفكار في العالم الإسلامي ترجمت مضخفة خلف البرج بينما تملأ الحيوانات ورعاتها الجو جلبة فيتخذ بسببها الطابع الريفي أصبحت الحياة في هذا الإطار البدائي السينما المفضلة عند زوجتي التي كانت تتذوق بشغف كل ما فيها من بساطة وطيبة وكرامة، وبدأت تكتشف جوانب أصالتها الخفية مع امرأة من سكان البرج الفقراء تعيش مع ابنها أحمد الأبكم في غرفة كانت في الحقيقة عندما بني البرج ليكون مركزاً عسكرياً لأحد الحصون الصغيرة التي تحمي جوانبها، فكانت الغرفة لا تقي هذين المسكينين الحر في الصيف والفر في الشتاء، خاصة إذا نزل المطر على مرقدهما من ثقب السقف المنهار.

كان أحمد يرعى عنزات للجيران في النهار دون أن يدفع له أحد أجرته، ويعود في المساء إلى الكوخ لتهيئ له أمه من الطعام ما تسمح به إمكانياتها الضعيفة جداً، لأن موردها لم يكن في الواقع من شغل ابنها ولكن من دجاجتين أو ثلاث تبيع بيضها لتشتري قليلا من الزيت وبعض قهوة وسكر. كانت هذه الصورة من حياة الفقر والكرامة تعرف زوجتي على هذا الجانب مذكرات شاهد القرن ص 420 421 . 

وتذكرت في سياقها الحادثة الآتية التي أوثقها من المذكرات : قال" وقد اندلعت الحرب العالمية الثانية، وبدأت حملة تفتيش الشرطة الفرنسية بالمدينة أي تبسة ...... إلى أن يقول : " وذهبت مع زوجي تلك العشية بمنشور عن القضية الفلسطنية ، فدفناه في علبة معدنية خلف البيت على ضقة وادي الناقص ، حتى يبقى للتاريخ" ص 427 . 

هذه المعلومة سكنت خاطري سنين طويلة منذ قرأت المذكرات في المرحلة الثانوية ما العلاقة بينها وبين إقامة قاعة المؤتمر بهذا المكان ؟! الرابط كما بدا لي كالاتي : إن المكان الذي ضم مالك بن نبي رحمه الله وزوجته في تلك الزيارة العائلية فصار له سكنا ، وأستودعه أمانة موقفا قضية ) هو نفسه اليوم الذي أبت الأقدار إلا أن تضم قاعة محاضراته الكبرى التي شيدت في زمن قياسي ، وتحول الوادي العريق إلى شارع مديد على ضفتيه العمائر و الفلل والمحلات ملتقى الفكر الإسلامي الذي احتضنته تبسة مدينة مالك بن نبي الموازية لمدينته الأخرى قسنطينة ، فكان بمثابة الثمرة التي أينعت لبذرة فكرة ملتقى الفكر الإسلامي المستلهمة من ندوة مالك التي كان يعقدها بداره لطلابه فكان بحق المؤسس الفعلي له ، حتى تبنته الدولة الجزائرية ، حسب الرأي الذي يذهب إليه بعضهم، وظل أحد المحطات المضيئة في تاريخها المعاصر ، مهما اختلفت أحكامنا بشأنها .

رابط آخر يجمع بين العناصر الثلاثة : مالك الملتقى برج بوذيبة بتبسة : فكأن المشروع الذي أخلص له مالك رحمه الله تعالى فكره أعني مشروع إعادة بعث المجتمع الإسلامي على الساحة الحضارية مجددا ، كأنما بقي ينتظر موعدا يتخير مكانه، فأبى أن يطرق بحثه في دورات الملتقى السنوية إلا على ربوة ( برج بوذيبة ) سكن مالك المؤقت، ومستودع منشوره التاريخي .

الذي صار مؤكدا في ذمة بطن الوادي الذي استوت عليه الطريق ، والعمران حتى غدت عقاراته من أغلى عقارات المدينة فيا لعجائب الأقدار .

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services