205
0
في الذكرى ال15 من وفاة الشيخ عبد الرحمان الجيلالي.. رجل موسوعي كسب قلوب الجزائريين
يعتبر العلامة الجزائري عبد الرحمان الجيلالي، أحد الرجال العظام البارزين الذين قدموا للثقافة الوطنية والإنسانية خدمات جليلة وأعمالا باهرة، ساهمت في إثراء التراث الأدبي والعلمي.
أمينة جاب الله
ويشهد التاريخ أن أعمال هذا الرجل الهمام، تبوأت مراتب عالية في العلم والمعرفة وخولتها لتصبح مرجعا للأجيال على مر الزمن، نظرا للقيمة العلمية التي تضمنتها مسيرته الزاخرة بالوقفات والانشطة، التي تستوجب في كل وقفة ترحم على شخصه الفاضل أن نستذكر آثاره وتقصي فهمها واستشفافها والتطلع إلى مشارفها وآفاقها.
في ذكرى وفاته الخامسة عشر،وعرفانا لجهوده وقفنا على أعتاب إبن من أبناء الجزائر البررة المعروف من بين أشهر حفاظ صحيح البخاري سندا ومتنا حسب شهادة بعض الأفاضل، «العلامة عبد الرحمان الجيلالي »،الذي برز شخصه المحبوب والمعروف بأسلوبه المتواضع ووجهه البشوش ،في الفقه والعلم والتاريخ والأدب والفكر والثفافة والصحافة، والفن، حيث اشتغل على نفسه وكوَّن رصيدا علميا ثقيلا متنوعا ،وذلك من خلال احتكاكه بفضاءات المعرفة ورجالاتها الأفاضل.
نسبه ونشأته
جاء في بعض المراجع أن نسبه يعود إلى الحسن بن الصحابي علي رضي الله عنهما والسيدة فاطمة الزهراء إبنة سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ،يعود نسب الشيخ عبد الرحمان الجيلالي إلى آل الشجرة الموسوية القادرية و فروعها الأشراف القاطنين بسهول متيجة، وتصل سلالتهم إلى مولانا عبد القادر الجيلالي سليل الحسن السبط بن علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء بنت سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم. ويوجد ضريح الجد عبد القادر الجيلالي المتوفى سنة 1077ببغداد بالعراق، وعليه فإن العلامة عبد الرحمان ابن محمد الجيلالي من مواليد 09 فبراير من سنة 1908م ببولوغين بالجزائر العاصمة، حيث كانت هذه المدينة العريقة في بدايات القرن الماضي فضاء خصبا لنشاط ثقافي وديني غني قاده أعلام من الفقهاء والأدباء والكتاب.
تعليمه ودراسته
بالرغم من أن ثقافة العلامة عبدالرحمان الجيلالي كانت عصامية،حيث شملت التعمق في القرآن والحديث والأدب والتاريخ والفقه. إلا أنه قد تولى التدريس في مدرسة الشبيبة الإسلامية أثناء إدارة الشاعر محمد العيد آل خليفة لها خلال الثلاثينات. ولم يكن نشاطه بارزا لولا بعض المقالات القليلة في الشهاب، وكتابه في ذكرى محمد ابن أبي شنب سنة 1933.
في صباه تلقى علومه الفقهية وعلومه الشرعية وعلوم عصره من مزاولته للمساجدوالجوامع بالجزائر ،وقد عاش الشيخ الجيلالي مرحلة النهضة الفكرية والإصلاحية في الجزائر وفي الوطن العربي ،بلغ درجة الفقيه فمارس الخطابة والإمامة بعدة مساجد، مثل مدرسة الشبيبة الإسلامية أثناء الإحتلال الفرنسي للجزائر و أوكلت له جبهة التحرير الوطني أثناء الثورة مهمة القضاء الحر ، و بعد 1962 تولى مهمة تقديم برامج دينية بالإذاعة الوطنية مثل "رأي الدين " ، ثم عمل أستاذا باحثا بالمتحف الوطني للآثار و مدرسا للفقه المالكي بمدينة مفتاح بالبليدة عام 1976م ثم مدرسا لمصطلح الحديث بجامعة الجزائر.
كان الشيخ عبد الرحمان الجيلالي واحدا من الذين تلقوا تعليمهم الديني في الجامع الكبيرومسجد سيدي رمضان ومسجد سفير،مدرسة الهداية، ومسجد ضريح سيدي عبد الرحمان الثعالبي الذي يعتبر روضة من روضات العلم والتفقه الدين الإسلامي، وقد تناولها بالدراسة في العديد من الابحاث التي صنفت هذه الآثار ضمن المعالم الإسلامية الاكثر اهمية في الجزائر العاصمة، حتى أنه أعد دراسات دقيقة ركز فيها على فنياتها المعمارية والصناعية الدقيقة، وهو ما فتح له باب البحث والتعمق في دراسة حركة المجتمع الجزائري السياسية والعلمية حتى باتت كتاباته في هذا المجال مرجعا للدارسين والباحثين لما تتميز به من دقة وشمولية، ومنهم الباحث المستشرق الفرنسي الشهير "جورج مارسي."
علاقته بفن الموشحات الدينية
كان الشيخ "بوقندورة" مفتي المذهب المالكي بالعاصمة يعقد حلقات للذكر بمسجد ضريح عبد الرحمان الثعالبي، تطلق عليها تسمية "الحضرة" أو"القصادين"، ويقوم فيها الحاضرون بإنشاد القصائد الدينية ، وكان الشيخ عبد الرحمان الجيلالي يحضر هذه الحلقات، فتكونت لديه ملكة معرفة الأزجال والموشحات الأندلسية، وأصبح ملما بمعالمها رغم أنها معقدة عروضيا ولها طابع صوفي ،تتشابك فيها أصول ممازجة الألفاظ المشحونة بالشعور العاطفي والديني.
نشاطاته المسرحية في نادي الترقي
أنشئ هذا النادي من طرف مثقفي وفناني ورياضي الجزائر العاصمة ،حيث في تلك الفترة (بدايات القرن الماضي) كانت هناك العديد من الجمعيات النشطة ، لكن نادي "الترقي" بساحة الشهداء أكثرهم نشاطا وحضورا لكونه كان مقصدا للنوابغ المثقفين والعلماء، ومن خلاله تمكن الشيخ عبد الرحمان الجيلالي من الاحتكاك برواد جمعية العلماء المسلمين، كما استفاد من تجربة النشاطات المسرحية التي عرفت بكثافتها في تلك لكونها نالت العديد من المثقفين مثل المحامي "الطاهر علي الشريف" الذي أنشأ "جمعية المهذبية الجزائرية" وأحمد توفيق المدني وعمر راسم والشيخ محمد آل خليفة وعبد الله نقلي، وكان لهؤلاء الفضل في انتشار الحركة المسرحية في أرجاء كثيرة من الوطن.
أعماله الإذاعية
الشيخ الجيلالي حوَّل الإذاعة إلى مدرسة للتربية والتوجيه ،التحق الشيخ عبد الرحمان الجيلالي بالإذاعة الوطنية التي قدم فيها برامجه المجيبة على تساؤلات المستمعين الدينية، فاشتهر ببرنامج " لكل سؤال جواب « ،الذي ركز فيه على مفاخر التاريخ القومي الاسلامي ،فاستحسنته الجماهير ونال رضاها ،وبسبب نجاحه قررت الإذاعة انتاج برنامج اخر هو "رأي الدين في أسئلة المستمعين"،الذي لعب دورا كبيرا في توعية الناس بحكم اعتماده على نهج الإصلاح الديني ،ثم تحولت أحاديثه إلى دروس ونشريات دقيقة مباشرة ،مكتوبة بأسلوب سهل الفهم بعيد عن التعقيد ،ومع الايام تحولت الإذاعة بفضل الشيخ الجيلالي إلى مدرسة للتربية الروحية ،تصلها يوميا عشرات الرسائل ،حتى أصبحت برامجه أسبوعية قارة يجد فيها المستمعون الإجابة عن تساؤلاتهم الدينية والدنيوية على أساس شرعي معتدل وقد ابتدأت برمجته منذ سنة 1940،ويحتفظ ارشيف الإذاعة إلى يومنا هذا بكمية هائلة من تسجيلات تلك البرامج.
الشيخ بين الإستحقاقات والأثر
تمكن الشيخ عبد الرحمان الجيلالي من إنتاج عشرات الاعمال في مختلف الميادين الدينية، الأدبية، الفنية والتاريخية، جعلته يتحصل على أوسمة استحقاق من مؤسسات علمية متخصصة. كما حاز عضوية المجلس الإسلامي الأعلى غداة الاستقلال في لجنة الفتوى التي كان يشرف عليها الشيخ" أحمد حماني" رحمه الله. وقد عمل الشيخ عبد الرحمان الجيلالي مع نخبة من العلماء على إنشاء وتنظيم نظارات الشؤون الدينية بمختلف ولايات القطر، كما ساهم في تأسيس مجلة "الأصالة" الصادرة عن المجلس الإسلامي الأعلى التي ساهمت مساهمة فعالة في الترويج لملتقى الفكر الإسلامي، الذي كان منبرا راقيا للمناقشة الهادفة، و للشيخ عبد الرحمان الجيلالي فيه بصمات خالدة ، حيث قدم من خلاله محاضرات تم توثيقها في 14 طبعة من مجلة الأصالة، و إلى جانب ذلك كان عضوا فعالا في الديوان الوطني لحقوق التأليف.
أهم شيوخه
• الشيخ عبد الحليم بن سماية الذي كان من منتقدي النظام الاستعماري رغم أنه كان أستاذا في إحدى المدارس الرسمية
• الشيخ المولود الزريبي الأزهري الذي كان مصلحا ثائرا، وكان (الزريبي) قد تخرج من الأزهر وعاد إلى الجزائر ليدعو إلى النهضة والإصلاح ولكنه واجه العقوق والركود. – الشيخ أبو القاسم الحفناوي صاحب كتاب (تعريف الخلف برجال السلف)، مفتي العاصمة في وقته.
• الشيخ محمد بن أبي شنب.
•ومن الصحفيين الذين عملوا في جريدة المبشر الرسمية طويلا، وكانت علاقته به وطيدة حتى كان الناس يظنون أن الحفناوي هو أبو عبد الرحمن الجيلالي، توفي الحفناوي في ذي الحجة 1360هـ الموافق جانفي 1942م.
مؤلفاته
ساهم الشيخ عبد الرحمان الجيلالي بقلمه في الصحف والمجلات الجزائرية، كما ساهم في تزويد المكتبة الجزائرية بالعديد من العناوين الهامة، منها كتاب تاريخ الجزائر العام المنشور في جزئين، والذي يعتبر مرجعا لا يمكن لدارسي تاريخ الجزائر الاستغناء عنه، وهو الآن في طبعته الثامنة ( بأجزائه الأربعة) ، ومن كتبه أيضا كتاب "تاريخ المدن الثلاث: الجزائر، المدية ، مليانة" ، الذي ألفه بمناسبة مرور ألف سنة على تأسيس هذه المدن على يد بولوغين بن زيري الصنهاجي، و کتاب خاص بذكرى "العلامة الدكتور بن أبي شنب" ، وكتاب حول "العملة الجزائرية في عهد الأمير عبد القادر"، وكتاب "ابن خلدون في الجزائر" ، كما كان الشيخ يكتب في جرائد "الشهاب" و"البصائر" و"النجاح "و"البلاغ" و مجلة "هنا الجزائر" (من 1952 إلى 1960م) مع الشيخ علي مرحوم و غيره من الكتاب و الأدباء، و اشتهر بترجمته للعلماء الجزائريين و إحياء ماثر الجزائر. وله فتاوى مكتوبة كثيرة ما تزال مخطوطة ومقالات كثيرة نشرتها الصحف والمجلات المختلفة ومنها: جريدة الشعب الثقافي، مجلة الجزائر الأحداث، مجلة الثقافة، مجلة الأصالة، مجلة هنا الجزائر، وغير ذلك من المجلات القديمة والحديثة...
وفاته
توفي الشيخ الفاضل عبد الرحمان الجيلالي في وقت مبكر من يوم الجمعة 12نوفمبر 2010 عن عمر ناهز 102 سنة، ودفن عصر نفس اليوم بمقبرة سيدي امحمد، وسط جو مهيب، بعد أن ألقيت عليه النظرة الأخيرة بدارالإمام في المحمدية.
في ختام سطورنا التي طافت بكل تواضع حول مسيرة الشيخ عبد الرحامن الجيلالي، لايسعنا إلا أن نترحم على روحه الطيبة ، ونسأل الله أن يغفر له ، ويرفع درجته، ويعظم أجره، ويتمم نوره، ويفسح له في قبره، ويلحقه بنبيه سيدنا رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم. و أن يجدد عليه وعلى جميع مشايخنا الأفاضل الرحمات و أن يسكنه وإياهم فسيح الجنات،اللهم أنت ربنا وربهم، خلقتهم ورزقتهم، أحييتهم وكفيتهم، فاغفر لنا ولهم، ولا تحرمنا أجرهم ولا تضلنا بعدهم ..اللهم آمين يارب العالمين.