312
1
العلامة أحمد سحنون في ذكرى رحيله...شيخ الدعاة الرساليين في الجزائر
مصطفى محمد حابس: جينيف / سويسرا.
في مثل هذا الأسبوع، وتحديدا يوم الاثنين 8 ديسمبر/ كانون الأول 2003 م الموافق لـ 14 شوال 1424 هـ، رحل الشيخ العلامة الأديب أحمد سحنون عن دنيا الناس، ليلتحق بكوكبة مصابيحنا المضيئة ورفاق الدرب ممن سبقوه إلى عالم البرزخ، منهم - على سبيل الذكر - الشيخ عبداللطيف سلطاني والشيخ مصباح والشيخ عمر العرباوي والشيخ ابراهيم مزهودي والدكتور الهاشمي التيجاني والمفكر مالك بن نبي، وقبلهم أساتذتهم قادة الركب الشيخ العلامة عبد الحميد بن باديس و الشيخ البشير الإبراهيمي والشيخ العربي التبسي و الفضيل الورتلاني رحمة الله عليهم جميعا.
وقد وري جثمانه الطاهر بمقبرة سيدي يحي ببئر مراد رايس بالجزائر العاصمة ظهيرة يوم الثلاثاء، بعد أداء صلاة الجنازة عليه بمسجد أسامة بن زيد، وهو المسجد الذي كان المرحوم إمامه و خطيبه طوال السنوات الأخيرة من عمره، وأدى صلاة الجنازة امتثالا لوصية المرحوم، الشيخ الطاهر آيت علجات رفيق درب الشيخ أحمد سحنون الذي ألقى بالمناسبة الكلمة التأبينية أمام الجمع الغفير، كما أخذ الكلمة أيضا بعد ذلك الشيخ عبد الرحمن شيبان رئيس جمعية العلماء المسلمين، أيامها، و وزير الشؤون الدينية الاسبق، رحمهم الله جميعا.
ورغم سوء الأحوال الجوية والأمطار الغزيرة التي تهاطلت وأثرت بشكل كبير في حضور المعزين من جهات أخرى، حضرت جماهير غفيرة تتقدمهم ثلة من الدعاة والشخصيات الإسلامية، وحضر عن الحكومة وزير الخارجية عبد العزيز بلخادم ووزير الشئون الدينية والأوقاف بوعلام غلام الله.
رغم ذلك - يذكر الجميع - أن وسائل الاعلام ، لم تغطي هذا الحدث البارز، لهذه الشخصية الوطنية البارزة، لكي لا نقول أن هناك تهميش وإقصاء عمدي و هو المصطلح الأنسب الذي يصور تعامل وسائل الإعلام في ذلك الوقت، خاصة بالنسبة للمتابع من الخارج مثلي، خاصة في عهد العشرية السوداء، التي تصنف فيها الابواق الاعلامية كل ما له علاقة بالإسلام، في خانة الارهاب، دون مسوغ ولا دليل.
وفاته رحمه الله، وكأن الرجل لا يمثل لهؤلاء إلا " بقايا تاريخ " أثقلته رمال النسيان و تراكمت عليه سنين العجز والمرض، إلى أن انتقلت روحه إلى بارئها.
مواقفه الرسالية البطولية عبر بياناته الحكيمة
رحل عنا وترك من ورائه الأثر الطيب والقدوة الحسنة والصدقة الجارية مؤلفات ودواوين شعرية و مساجد ومدرسة لتحفيظ القرآن الكريم ( دار القرآن) و ترك لنا مواقف رسالية بطولية عبر بياناته السياسية الحكيمة وتحديدا عبر بياناته باسم رابطة الدعوة الإسلامية التي كانت تشرف على كل التيارات السلامية، سيخلدها التاريخ دون منازع، من هذه المواقف أنه أنقذ الجزائر في العديد من المناسبات من حمام دم محقق في ثمانينات القرن الماضي و تسعيناته، بكل تواضع و تجرد، وأذكر يوما في مسجده، مسجد أسامة بن زيد، لما وقَّع بيانا، فقال له أحد الأساتذة الحاضرين معنا، يا شيخ لقد نسيت ان تكتب كلمة "شيخ" مع اسمك، فرد عليه الشيخ متبسما، أنا " أحمد سحنون" فقط، لا غير، من أراد منكم أو من الاعلام إضافة ذلك فهو حر، فأنا لا أصنف نفسي ضمن الشيوخ ولا أطلق عليها رتبة " شيخ"، و كان أيام تأسيس الرابطة وبياناتها لا ينام تقريبا حتى الفجر، في النقاشات مع زعماء التيارات الاسلامية والوطنية، و هو في الثمانين من عمره.
حكيما و صارما عند الاقتضاء :
كما أذكر و يذكر أبناء جيلي، في أيام التعددية، يوم برمجت مسيرات وتظاهرات في العاصمة، بين جبهتي التحرير الوطني والإنقاذ الاسلامية في نفس اليوم، ومخافة تصادم أنصار الجبهتين ومخافة حمام دماء مرتقب بينهما، كتب بيانا، يترجى مسؤولي الحزبين التحكم في الانصار أو الغاء التظاهر، لا أتذكر تحديدا كلمات البيان، علما أني أنا من أرسلته بفاكس مسجد الطلبة لوسائل الاعلام، و قرأه التلفزيون الرسمي، في نشرة الـ 11 ليلا، وقد حدثت ليلتها رئيس تحرير نشرة الاخبار - نسيت اسمه -، أن بيان رابطة الدعوة الاسلامية حفاظا للأرواح سيصدر بعد ساعة بتوقيع الشيخ سحنون، وأعجب قسم الاخبار بالبيان، و سماه ليلتها البيان الحكيم لرجل الجزائر الحكيم.
وكان فعلا حكيما و صارما معنا كطلبة و غيرنا، أذكر يوما أني جئت لزيارته مع الأخ الدكتور بن تونس من المجلس الاعلى للبحث التابعة لرئاسة الجمهورية، الذي كان يشرف عليه، المرحوم محمد يزيد، و كنا رفقة أحد مشايخ الأزهر، ولما وصلنا أمام باب المكتب سلم عليه هذا الاخ و قال له، هناك ضيف من مصر، أراد أن يجلس معك و يسلم عليك، فباغتنا بقوله، هل لكم موعد معي!؟ هل ضبطتم موعد مع الكاتب عبد القادر باعمر؟! قلنا له : "لا يا شيخ !!"، فقال لنا " معذرة ، أنا عندي برنامح، البسوا أحذيتكم و عودوا بخفي حنين من حيث أتيتم مع ضيفكم " !!
العلماء الحكماء "ورثة الأنبياء" ولم يُسموا "ورثة الرّسل".
هؤلاء هم العلماء الحكماء لأمة طال بالغدر ليلها، لأن العلماء هم خير خلق الله لذلك وصفهم رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم بأنهم ورثة الأنبياء لما لهم من فضل على الأمة ولما ما ورثوه عن الأنبياء من علم الشريعة الإسلامية الحكيمة و المنصفة.
فالعلماء بحق و حقيقة هم من يخرجون الأمة من الجهل ويضيئون سبلها بأنوار العلم مثلما فعل ذلك الأنبياء من قبلهم، فإن العلماء خلفاء الأنبياء، والعلماء العاملون كالشيخ سحنون هم النّور الذي يُضيء العالم ويخرجه من ظلام الجهل، وهُم الخلفاء بعد الأنبياء على أُممهم، وهُم ورثة الأنبياء، قال الله - تعالى-:(ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا)،[ سورة فاطر، آية: 32] قال الزمخشريّ في الكشّاف : " ما سماهم ورثة الأنبياء إلا لمداناتهم لهم في الشرف والمنزلة؛ لأنهم القوام بما بعثوا من أجله"، ولا يكون العالِم بهذه الصفة إلا إذا صفى علمه وعمله، وارتقى إلى معالي الكمال، وابتعد عن الشهوات التي تُخفضه، قال الحسن: "من طلب العلم يريد ما عند الله، كان خيراً له ممّا طلعت عليه الشمس". [رياض الصالحين]. ولا رتبة فوق رتبة النبوّة، ولا شرف أعظم من هذا الشّرف، ولم يُقال عنهم أنّهم ورثة الرّسل، وإنّما ورثة الأنبياء لتكون أعمّ وأشمل، وإنّ الأنبياء لم يُورِّثوا شيئاً من الدّنيا، وذلك مصداقاً لما جاء في الحديث الذي رواه أبو الدرداء عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حيث قال: (إنَّ الأنبياءَ لم يورِّثوا دينارًا ولا درْهمًا إنَّما ورَّثوا العلمَ فمَن أخذَ بِهِ فقد أخذَ بحظٍّ وافرٍ)،[صحيح الترمذي] ولذلك ما بقي بين أيدي العلماء إنّما هو ميراث الأنبياء، حيث تنتفع بهم الأمة في إظهار الإسلام، ونشر الأحكام، وصلاح الأحوال الظاهرة والباطنة.
الشيخ أحمد سحنون - رحمه الله - سيرة و مسيرة :
يعد من أبرز رجال الحركة الإسلامية في الجزائر بعد الاستقلال، ولد في مدينة " ليشانة " بالزاب الغربي ولاية بسكرة سنة 1907 م حيث تلقى تعليمه الأول على يد والده، فحفظ كتاب الله عز وجل عن ظهر قلب في زاوية " طولقة " المشهورة وعمره لا يتجاوز 12 سنة، وأتقن الكثير من الفنون الدينية، كاللغة، والقوافي، و الحديث و الفقه المالكي .. جالس الشيخ محمد خير الدين– رحمه الله -، وتأثر بالعلامة ابن باديس رائد الإصلاح الديني و أخذ عليه كثيرا.. واشتهر عن الشيخ اطلاعه الواسع وحبه الكتب واقتنائها، حيث كانت اهتمامات الشيخ في بداية مشواره العلمي و الشرعي، بالأدب و الشعر و القصة و النقد، و برز في الشعر بدرجة التفوق و الامتياز، واستغل هذه الموهبة بتوظيفها في دعوته الإصلاحية إلى الإسلام الحقيقي البعيد عن البدع و الخرافات و التقاليد البالية.. وكان من العناصر الفعالة في الحركة الإصلاحية بعد انضمامه إلى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، و إبان الاستعمار الفرنسي اشتغل مديرا لمدرسة "التهذيب الحرة " بالجزائر العاصمة بمدينة " بولوغين " سنة 1931 م ..
كان من الكتاب البارزين في صحيفة البصائر، يدبلج ( الترجمة ) المقالات الفكرية، فالشيخ – رحمه الله – يتقن اللغة الفرنسية بطلاقة .. بعد اندلاع الثورة التحريرية في الفاتح من نوفمبر / تشرين الثاني 1954 م، التحق الشيخ أحمد سحنون بها دون تردد، بل عرف عنه – رحمه الله – بحماسه الفياض وبغضه الشديد للمحتل الفرنسي، وعمل على تحريض الناس على الجهاد والتمرد على فرنسا، مستغلا بذلك وظيفته الرئيسية في إمامة الناس وتعليم القرآن وترشيد الناس، و اعتمادا على مكانته في نفوس المواطنين الذين كانوا يترددون إلى دروسه بمسجد بولوغين، وحبهم له لشجاعته وصلاحه وخلقه وعلمه .. في 24 ماي / نيسان 1956 ألقي عليه القبض وحكم عليه بالإعدام وقضى مدة ثلاث سنوات بين السجن و المعتقل في انتظار تنفيذ حكم الإعدام، إلا أن قدر الله له الخروج من السجن لأسباب صحية سنة 1959 م بعد تسخير الله عز وجل لبعض الأشخاص الذين تمكنوا من تهريبه من العاصمة إلى سطيف حيث مكث فيها برهة من الزمن مختفيا، لكنه عاد من جديد إلى نشاطه و نضاله إلى غاية انتزاع الجزائر لاستقلالها في الخامس من جويلية / تموز 1962 م.
بعد الاستقلال، كاتبا شاعرا و إماما بالجامع الكبير بالعاصمة وعضوا بالمجلس الإسلامي الأعلى
لقب أثناء الاستقلال، بشاعر جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، و عين إماما بالجامع الكبير بالعاصمة وعضوا بالمجلس الإسلامي الأعلى إلى غاية استقالته من جميع المناصب الرسمية بعدما حدث التحول في سياسة الحكم المنتهجة في تلك الفترة وخاصة عقب منع جمعية العلماء المسلمين من العودة إلى نشاطها المعروف والتضييق عليها، وفي نفس الوقت السماح للحركات والجمعيات اليسارية من النشاط و التعبير عن نفسها ومصادمة الواقع الجزائري المحافظ .. ابتعاده عن الوظائف الرسمية ، مكنته من العمل الدعوي الحر فبدأت مسيرته الحرة من مسجد النصر ببلدية باب الوادي إحدى قلاع التيار الإسلامي، لينتقل بعدها إلى مسجد الأرقم بحي " شوفاليي " في أعالي العاصمة الذي كان في بداية انطلاقه مصلى صغير من حيث الحجم، كبيرا في رسالته ، أين سخرا الشيخان أحمد سحنون وعبد اللطيف سلطاني كل طاقتهما و جهودهما خدمة للدعوة إلى الله و تمكينا للشريعة الإسلامية واللغة العربية، وانتهاء بالمسجد الذي أمه إلى غاية آخر يوم من حياته أسامة بن زيد ببلدية بئر مراد رايس بالعاصمة.
تراثه الفكري و إنتاجه الأدبي:
أما إنتاجه الفكري والأدبي والدعوي، فكان غزيرا، ويمكننا أن نقسمه إلى قسمين، القسم الأول كل دروسه وخطبه الموزعة هنا و هناك من خلال الأشرطة السمعية و البصرية وهي عديدة جدا، أما القسم الثاني فإصداره لبعض كتبه، منها ديوانه سنة 1977 م عن الشركة الوطنية للنشر والتوزيع عن سلسلة شعراء الجزائر بعنوان "حصاد السجن"، وهو خلاصة لأشعاره التي كتبها أثناء فترة سجنه، تناول فيها عدة مواضيع تتعلق بالإصلاح الديني و الاستقلال ، وصدر له عن نفس الشركة الوطنية للكتاب سنة 1981 م كتاب آخر بعنوان " دراسات و توجيهات إسلامية " جمع فيه مقالاته التوجيهية التي كان يكتبها في جريدة " البصائر " لسان حال جمعية المسلمين الجزائريين، و يرجع الفضل في كتابة هذه الفصول و جمعها إلى شيخه فضيلة العلامة البشير الإبراهيمي - رحمه الله -، وقد كتب الشيخ أحمد سحنون في صفحة الإهداء لهذا الكتاب بقوله: " من الإنصاف أن أسجل أن صاحب الفضل في كتابة هذه الفصول هو أستاذنا الإمام محمد البشير الإبراهيمي فهو الذي عهد إلي بأن أضطلع بمهمة تحرير القسم الديني من "البصائر" و نفخ في روح الثقة بالنفس حين أسند إلى هذه الأمانة العظمى و رآني أهلا لهذه المهمة الشاقة التي تهيبها كثير ممن سبقني إلى هذا الميدان وشجعني برسائله القيمة التي كان يكتبها إلي من مصر معجبا بهذه الفصول مثنيا عليها .. أذكر من هذه العبارة و أنا أخجل: " إن ما تكتبه في البصائر هو حلية البصائر"، وله أيضا كتابان آخران ، كتبهما أيام محنة تجمع مسجد الطلبة بجامعة الجزائر المركزية سنة 1982 م، عندما وضع مع المرحوم الشيخ عبد اللطيف سلطاني تحت الإقامة الجبرية، فألف ديوانا في الشعر مع كتاب آخر جمع فيه تراجم لبعض الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، سماه " كنوزنا".. ، و طبعت بدار التحدي، في أربع أجزاء، بعد وفاته، رحمه الله، تحت عنوان : الأعمال الكاملة للشيخ أحمد سحنون.
وقد احتوت على تراث الشيخ العلمي والفكري ودواوينه الشعرية، أولها ما سبق نشره في حياته، ويليه مجموعة أناشيد مدرسية تناولت موضوعات أخلاقية وتربوية، والثاني حفي بسجل تاريخي لأحداث ووقائع مهمة من تاريخ الجزائر، و كتاب “دراسات وتوجيهات إسلامية”، وكتاب "كنوزنا" والذي تحدث فيه الشيخ عن كنوز الإسلام من القرآن والسنة وأدرج تراجم لبعض الصحابة.
مشاركات في ملتقيات و التظاهرات الوطنية
شارك في بعض ملتقيات الفكر الإسلامي التي كانت تنعقد في الجزائر، وكان أهمها مشاركته في الملتقى السابع بولاية " تيزي وزو سنة 1973م، أين ألقي الشيخ سحنون محاضرة هامة بعنوان: '' التشريع الإسلامي و تطبيقه على غير المسلمين "..
في سنة 1982 م نُظم التجمع الكبير بجامعة الجزائر المركزية بقيادة ثلاثي الشيوخ أحمد سحنون و عبد اللطيف سلطاني و عباسي مدني - رحمهم الله جميعا - بحضور عشرات ألاف المشاركين، حيث أصدروا بيانا جماعيا بعنوان "الدين النصيحة "، ردا على الأحداث الأليمة التي حدثت بداخل "الحرم الجامعي" وتنديدا بحملة الاعتقالات الواسعة التي مست عناصر التيار الإسلامي بالجامعة وخارجها، وهو أول ظهور سياسي منتظم للتيار الإسلامي، كقوة معارضة ذات وزن حقيقي في الساحة، أرعب خصومه التقليديين من الشيوعيين و التروتسكيين، وكان البيان سلميا في 14 نقطة جمعت أسباب الأزمة وحلولها في نفس الوقت دون اللجوء إلى أي شكل من أشكال العنف !!
تأسيس " رابطة الدعوة الإسلامية ":
في سنة 1989 م أسس الشيخ أحمد سحنون رفقة مجموعة من الدعاة و الإطارات الإسلامية الصرح الدعوي الأول بعد جمعية العلماء المسلمين، و جمعية القيم ، باسم " رابطة الدعوة الإسلامية " كإطار عام يجمع كل التيارات السياسية والفكرية والاجتماعية الإسلامية، وكان الشيخ – رحمه الله – حريصا أشد الحرص على استقلالية الرابطة الإسلامية من تأثيرات السلطة أو الأحزاب أو الشخصيات الإسلامية التي كانت تسعى إلى جر الرابطة إلى صفها، وقد حاول جاهدا أن يوحد التيار الإسلامي لمواجهة الحملة الشرسة ضد الوجود الدعوي الإسلامي و قانون الأسرة و الحجاب ..
ولم يمنعه سنه المتقدم من تسجيل أكبر موقف تاريخي، عندما أشرف على تنظيم التجمع النسوي الضخم في 21 ديسمبر / كانون الأول 1989 م تحت رعاية رابطة الدعوة الإسلامية، الذي حضره مليون امرأة، أطلق عليه أيضا المسيرة " المليونية " وهذا لمطالبة المجلس الشعبي الوطني باسم الأغلبية الساحقة من نساء وحرائر الجزائر بتثبيت قانون الأسرة الصادر في سنة 1984 م باعتباره مستمدا في مجمله من الشريعة الإسلامية، وردا على المسيرات النسوية المنتمية إلى ما يسمى بالتيار الديمقراطي اللائيكي العلماني المطالبة بإلغائه، وهي المسيرات التي لم تجمع في أحسن أحوالها ثلاثة آلاف امرأة ..
و لا ننسى في هذا المقام موقفه الشجاع من المساجين السياسيين بعدما اشترك في تشكيل " لجنة الدفاع عن السجناء السياسيين " في بداية أزمة العشرية السوداء..
أيادي الغدر تريد إسكات صوت الاعتدال والتعقل ؟؟
الفتنة الدموية في تلك الفترة طالت هي الأخرى الشيخ أحمد سحنون الذي نجا بقدرة الله تعالى وعنايته من محاولة اغتيال، كان قد تعرض لها بداخل مسجد "أسامة بن زيد" بالعاصمة سنة 1996م، وأدخل المستشفى في حالة غيبوبة ونقل إلى العناية المركزة ليخرج منها بعد فترة متأثرا بالجروح التي تركت بصماتها في جسده النحيل وفي نفسيته الرهيفة إلى غاية وفاته، وبذلك تخطو الجزائر خطوة جديدة في المجهول في تلك الفترة العصيبة...
القيادة ليست محصورة في المجال السياسي أو الإداري أو العسكري
والقيادة أو الزعامة كما لا يخفى ليست محصورة في المجال السياسي أو الإداري أو العسكري كما يتبادر إلى الذهن حسب الشائع، بل هي مفهوم شمولي متكامل، وكما بقول شيخنا الدكتور الطيب برغوث، و هو من احتك بالشيخ سحنون و عرفه عن قرب، قوله:
" إني أزعم أن القيادة الفكرية والروحية هي أهم وأخطر أنواع ومجالات القيادة، لأنها قيادة مرجعية مؤسِّسَة للرشد العقدي والروحي والسلوكي لدى بقية أنواع ومستويات القيادة الفنية أو التقنية الأخرى، وهو ما تثبته الدراسات المعمقة في فلسفة التاريخ والحضارة، التي تؤكد بأن حركات التغيير والإصلاح والتجديد الاجتماعي ذات النفس أو المدى الحضاري، تنهض على كواهل قيادات فكرية وروحية كبرى، تشحذ وعي المجتمعات، وتبث فيها روح النهضة، وتنجز شروطها الفكرية والنفسية، وتضعها على طريق النهوض والإقلاع الحضاري الصحيح" ..
الثورات يهيئها العلماء، وينجزها المجتمع، ويرثها الانتهازيون !
وتجسد هذه الرؤية، المقولةُ الشهيرة في علم الاجتماع السياسي أو علم اجتماع التغيير عامة، التي لاحظت بأن:
" الثورات أو التغييرات الكبرى، غالبا ما يهيئها العلماء والمفكرون، وينجزها المجتمع الواثق فيهم، ويرثها الساسة أو الانتهازيون " !
وهي ملاحظة في غاية الأهمية، إذ تؤكد من ناحية على الدور المحوري المؤسس للمرجعية الفكرية والروحية، كما تشير من ناحية أخرى إلى أن الانحرافات الهيكلية المميتة في حركات التغيير الاجتماعي والحضاري، تحدث عندما تفقد هذه الحركات قياداتها الفكرية والروحية، سواء بالموت، أو بالتصفية، أو بالإزاحة، أو بالتهميش، أو الاحتواءات المضادة..
فالمجتمع الذي يستطيع أن يفرز بشكل موضوعي، قيادة فكرية وسياسية رسالية، على مستوى عالي من الإحساس بأمانة المسئولية الاجتماعية، وعلى مستوى عالي من التأهيل الفكري والنفسي والروحي والسلوكي والإداري الفني والاستراتيجي، المنسجم مع ذاتية المجتمع وهويته الحضارية، والمستجيب لحاجات وتطلعات نهضته، والواعي بالتحديات المحيطة بها، هذا المجتمع يمتلك الشرط الأساس لنهضته الاجتماعية والحضارية التي ستتحرك بأصالة وفعالية واطراد، في اتجاه البناء والتكامل والإنجاز التاريخي المعتبر.
اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده، واجعلنا خير خلف لخير سلف
وبهذه المناسبة ، ذكرى رحيل شيخ الدعاة الرساليين في الجزائر، وصوت الاعتدال والتعقل أثناء المحن، لا يسعنا إلا أن نقول: اللهم أرحمه وبارك فيما تركه من أثر في المجتمع والأمة، وأجزه عنه خير الجزاء، وألحقه بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
اللهم امنحنا شيئا من صبر الشيخ أحمد سحنون، وشفافيته الروحية، وسموه الأخلاقي، وزهده فيما عند الناس، وإقباله على ما عند الله، وقناعته وثباته على خط الرسالية، واعتزازه به، وتضحيته من أجله.
اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده، واجعلنا خير خلف لخير سلف، وأعنا على المضي على طريق الرسالية المباركة، التي مضت عليها أجيال الأمة جيلا بعد جيل، وثبت خطانا عليه، واعصمنا من الزلل والغواية وسوء العاقبة.
اللهم وفقنا لنحقق جزءا من مشروع النهضة الحضارية لمجتمعنا وأمتنا وإنسان عصرنا، وألهمنا مراشد أمورنا، وخذ بأيدينا إلى مفاصل الأمور وعظائمها، ولا تشغلنا بجزئياتها وصغائرها.
اللهم إنا نبرأ إليك مما صُنع من سوء تسيير و تقدير لدولنا المسلمة، وما لحق بها وبشعوبها ومقدراتها وسمعتها وتاريخها من خسائر جسيمة، ونستغفرك ونتوب إليك من كل تقصير أو سوء تقدير أو تصرف اجتهادي بدر من بعضنا.
اللهم يسر سبل خروج بلدنا وسائر بلاد المسلمين من غمم الفتن، وألِّف بين قلوب المسلمين، وأصلح بالإسلام أمرهم، واجمع به شملهم، واشدد به أزرهم، وأعل به شأنهم، على طريق الوسطية الحضارية الإسلامية القائمة على العبودية والعالمية والإنسانية والكونية.
اللهم أحينا مسلمين، وأمتنا مسلمين، واحشرنا في زمرة المسلمين لا مبدلين ولا مغيرين. وحبب اللهم إلينا الناس أجمعين، وأعنا لنكون رحمة للعالمين.
أمين
للمقال مراجع :
- الطيب برغوث : أسرار القوة والقدوة في المسيرة الدعوية للشيخ أحمد سحنون/ 2004.
- سلسلة كتب الشيخ أحمد سحنون، الأجزاء (1-4)، دار التحدي للنشر والتوزيع، برج الكيفان / الجزائر.