91
0
الاعترافات الإسرائيلية: أدلة دامغة على الجرائم وسياسات التفريغ في غزة

فادي أبوبكر كاتب وباحث فلسطيني
تسلط الاعترافات الأخيرة الصادرة عن الجيش الإسرائيلي الضوء على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، سواء فيما يتعلق بمصادرة ممتلكات المعتقلين الفلسطينيين من قطاع غزة أو تدمير مساحات واسعة من القطاع تحت ذريعة إقامة منطقة عازلة، فإن فحوى هذه التصريحات والشهادات – خاصة تلك الصادرة عن جنود شاركوا في العمليات البرية – يحمل دلالات عميقة ويشكّل مادة قانونية ثمينة لملاحقة الاحتلال ومحاسبته على جرائمه.
يعكس اعتراف الجيش بمصادرة ممتلكات المعتقلين، ورفضه تقديم تفاصيل أو إعادة هذه الممتلكات بحجة غياب البيانات أو السرية الأمنية، إقراراً بممارسات تنتهك القانون. فلو كانت هذه الإجراءات قانونية ومنظمة، لتم توثيقها والكشف عن تفاصيلها دون تحفظ. كما تؤكد شهادات المعتقلين المفرج عنهم، الذين تحدثوا عن فقدان مقتنياتهم الشخصية دون أي أمل في استرجاعها، أن هذه الممارسات تمثل شكلاً من أشكال العقاب الجماعي المنهجي.
أما ما كشفه تقرير منظمة "كسر الصمت"، والذي يستند إلى شهادات جنود إسرائيليين، فيمثل اعترافاً مباشراً بوجود خطة عسكرية لهدم مناطق واسعة من غزة ضمن نطاق يمتد حتى 1.5 كيلومتر داخل القطاع، وأن الأمر لا يتعلق فقط بأضرار جانبية ناتجة عن القتال، بل بتدمير شامل ومقصود لكل ما يقع ضمن هذا المحيط دون تمييز بين مدني ومسلح، وفق ما أشار إليه الجنود أنفسهم. وتهدف هذه السياسة إلى تفريغ المنطقة الحدودية من السكان، وتوسيع نطاق المنطقة العازلة، خصوصاً نحو مدينة رفح، في خطوة تنذر بتفكيك جغرافي لغزة وعزلها عن الحدود المصرية، بما يخدم استراتيجية فرض واقع جديد على الأرض.
تكمن أهمية هذه الاعترافات في كونها صادرة من الداخل الإسرائيلي، إما عبر مؤسسات رسمية أو من خلال أفراد شاركوا فعلياً في الميدان، ما يعطيها قوة إضافية كأدلة قانونية يمكن الاستفادة منها في المحافل الدولية. وتُضعف مثل هذه الشهادات الخطاب الإسرائيلي التقليدي القائم على تبرير كل فعل بالقضايا الأمنية، وتكشف عن وجه آخر للسياسة الإسرائيلية، قائم على إعادة هندسة الواقع الديمغرافي والجغرافي في القطاع بالقوة.
هذه المعطيات تفتح المجال أمام تحرك قانوني فلسطيني فاعل، يستوجب توثيق الشهادات ودمجها في ملفات قانونية يتم رفعها إلى المحكمة الجنائية الدولية، ضمن إطار واضح يحظى بمتابعة مؤسساتية ودبلوماسية متكاملة. وفي ذات السياق، يجب حشد الرأي العام العالمي باستخدام أدوات إعلامية فعالة تضع هذه الشهادات في صلب النقاش الدولي، مع التركيز على سردية الضحية وتوظيف الجانب الإنساني للتأثير في مواقف الرأي العام والمؤسسات السياسية العالمية.
الدور الفلسطيني لا يجب أن يقتصر على التوثيق والشكوى، بل يمتد إلى تفعيل الدبلوماسية الحقوقية من خلال التواصل مع منظمات الأمم المتحدة والدول الأعضاء فيها، للمطالبة بلجان تحقيق دولية مستقلة، إذ أن هذه الاعترافات تستوجب ضغطاً متزايداً على الدول الداعمة لإسرائيل، وربط المساعدات العسكرية والسياسية بمدى التزام إسرائيل بالقانون الدولي وحقوق الإنسان، إضافة إلى المطالبة بمحاسبة المسؤولين المباشرين عن هذه الانتهاكات.
إن الاعترافات الإسرائيلية الأخيرة لا يمكن التعامل معها كمجرد تصريحات عابرة، بل تشكّل فرصة حقيقية لكشف جوهر السياسات الإسرائيلية القائمة على القمع والانتهاك المنهجي. ويجب تحويل هذه الأقوال الصادرة عن جنود ومؤسسات عسكرية إلى أدوات فعّالة للمساءلة القانونية والضغط السياسي، بما يساهم في محاصرة الاحتلال على الساحة الدولية، ودفع المجتمع الدولي لتحمّل مسؤولياته تجاه جرائم الإبادة والانتهاكات المنظمة التي تُرتكب بحق الشعب الفلسطيني.