158
0
الكوفية الفلسطينية… لغة لخصت حكاية فلسطين … من لباس للفلاح إلى رمز الكفاح

بقلم : د. محمد عبد الجواد البطة عضو الاتحاد الدولي للمؤرخين
لا يخفى على أحد أن شخصية الرئيس الراحل ياسر عرفات أبو عمار رحمه الله من ناحية الشكل كانت أيقونة امتازت بثلاثة أشياء رئيسة هي: البذلة العسكرية؛ التي تعبر عن شرعية المقاومة وعدالة القضية؛ ومسدسه الذي تحزم به ويرمز إلى؛ الكفاح المسلح وحماية الحق بالقوة، والكوفية التي عرف بها ولم تفارقه حتى استشهاده، وترمز للهوية الوطنية للقضية الفلسطينية، وبفضله أصبحت لغة خاصة لخصت حكاية فلسطين.
ويمكن القول بلغة البرمجة الحديثة أنها أصبحت باركود (QR) للقضية الفلسطينية؛ لمجرد رؤيتها تعرف فلسطين وقضيتها ومعاناتها وتراثها ومورثها الثقافي. وتشكل الكوفية وباقي الموروث الثقافي مكون أساسي من مكونات النضال الفلسطيني وفي هذا الخصوص تعد فلسطين غنية بموروثها الثقافي والشعبي، الذي يمثل هويتها الوطنية والبصرية ولغتها الخاصة أمام العالم،التي تختصر المعنى بمكون ثقافي محدد من ثقافتها المعشوقة والمحبوبة لدي الشعوب والأمم الأخرى في كل مكان. فأهم ماتشتهر به الثقافة الفلسطينية علي سبيل المثال وليس الحصر هو: الدبكة والموال الفلسطيني، المشهور بعتابا وميجانا وظريف الطول، وهناك الدحية والحدية والأهازيج والزجل الفلسطيني، والقصص الشعبية، والمأكولات المشهورة في الحياة الفلسطينية منها: المقلوبة والمسخن ورز القدر والمجدرة والسماقية والعكوب والمنسف والكنافة والكثير الكثير من المأكولات التي تزخر بها الحياة الاجتماعية بموروثها الثقافي للفلسطينيين.
وفي مجال الألبسة والمنسوجات يأتي الثوب الفلسطيني الذي يعد زيا رسميا لكل نساء فلسطين موروث من الحضارة الكنعانية، ودأبت الكثير من البيوت بتوريث الثوب وبعض الحلي من الأم لابنتها عند الزواج، والذي قد تكون ورثته من جدتها أيضًا، ليصل عمر بعض الأثواب من ثلاثة إلى أربعة أجيال، أي قرابة المائة عام في الأسرة وكان النساء يفتخرن بذلك ، وتمتاز كل مدينة وقرية بثوب خاص بها يميزها عن غيرها؛ فثوب عروس المجدل يختلف عن ثوب عروس غزة، وكذلك يافا، والقدس وبيت لحم ونابلس و صفد وبيسان والبصة وغيرها.
وأما بخصوص الزي الرسمي للرجال في العصر الحديث لأهل المدن كان اللباس يتوافق مع المهن الحكومية وحسب دور الفرد؛ فكان الرجال يرتدون البذلة الرسمية والطربوش وهو غطاء للرأس يستخدمه الباشاوات والبكوات والأفندية، وأما الفلاحين وسكان القرى والذين كانوا يمتهنون الزراعة فكانوا يرتدون لباسًا خاصًا هو القمباز وهو رداء طويل مشقوق من الأمام، ضيّق من أعلاه، يتسع قليلاً من الأسفل، والحطة والعقال والمشهورة بالكوفية الفلسطينية.
والكوفية كانت في فصل الصيف بيضاء ناصعة البياض، وفي الشتاء كانت بيضاء مطرزة بخيوط سوداء بشكل هندسي شبكي جميل يعبر عن بيئة الساحل لفلسطين وامتهان الصيد من قبل قطاع واسع من الفلسطينيين، وتتزين في أطرافها بخيوط ترمز إلى ورق الزيتون الذي يعبر عن البيئة الجبلية الداخلية لفلسطين.
وهنا يأتي السؤال الأهم كيف تحولت الكوفية من الغاية الوظيفية إلى القيمة الرمزية أي من لباس للفلاح إلي رمز للكفاح؟ ومتى أصبحت أحد أدوات النضال الفلسطيني؟وللإجابة عن هذه الأسئلة يتوجب علينا أن نرجع إلى أصل الحكاية، والتي كانت تعد فيها الكوفية جزًء رئيسًا من لباس الفلاح في قري فلسطين، بغرض التزين بها مع عقالها الأسود، وللحماية من حر الصيف، وللتدفئة من شتاء فلسطين القارص.
بقى هذا الحال قرون طويلة من الزمن، إلى أن جاء التحول الأول مع ثورة 1936 عندما اندلعت الثورة واستمرت بين عامي 1936-1939،وتوحدت الأحزاب الفلسطينية والمجلس الإسلامي الأعلى في جسم واحد، عرف باسم اللجنة العربية العليا لقيادة الإضراب في بداية الأمر،ثم تطورت بعد انتهاء الإضراب إلى الهيئة العربية العليا بقيادة مفتي فلسطين الحاج أمين الحسيني،في هذه الثورة نشطت المقاومة بعمليات فدائية استهدفت قوات الانتداب البريطاني، والعصابات الصهيونية، قام بها الثوار الفلسطينيون وهم يرتدون الكوفية كنوع من التمويه والتخفي، وتنبه جنود الانتداب أن من يقوم بهذه العلميات الفدائية شباب من القرى،و يرتدون الكوفية السمراء، وكان أهل المدن يرتدون الطربوش، وكان من السهل تمييز الفدائي الثائر من قبل قوات الانتداب البريطاني وإلقاء القبض عليه، كما كان يتم إلقاء القبض على أي شخص يرتدي الكوفية ولم يكن له صلة بالمقاومة فقط لغلبة الظن، وعندما تبين هذا الأمر لقيادة الثورة، أصدرت قرارًا بارتداء الكوفية كلباس رسمي لجميع الرجال في فلسطين،مهما كانت صفتهم باشاوات وبكوات وأفندية وفلاحين جميع الرجال دون استثناء، بهدف التمويه عن الفدائي الثائر وحماية لسكان القري الذين كانوا في المدن،.
لم يتوقف تنفيذ القرار على متابعة لجان الثورة بل أصبح هناك هتاف لعامة الناس يقول: ( الكوفية والعقال ب خمسة قروش والندل لابس طربوش) وهنا أصبح ارتداء الكوفية واجب،يرمز إلى التضامن مع الثائر، ودعم للثورة، ولا يجوز التراخي مع هذا القرار الذي طبق على كل فلسطين وكل من يدخل فلسطين أيضًا احتراما ودعما للثورة وتمويها لحماية الفدائي الثائر. أصبحت الكوفية الزي الرسمي للفدائي الثائر في القرى ويظهر هذا على صورة القائد العظيم عبد القادر الحسيني الذي قاد معركة القسطل واستشهد في ابريل 1948، وكان معه الثوار يرتدون الكوفية لترسم للأجيال صورة الثائر الفلسطيني.
أما التحول الثاني: كانت بعد معركة الكرامة في 21مارس اذار1968وانتصار المقاومة الفلسطينية فيها الأمر الذي دفع أعداد كبيرة من الفلسطينيين والعرب للالتحاق بمعسكرات التدريب العسكرية التابعة لحركة فتح وهنا بدأت الكوفية تلازم الفدائي كتميمة يتوشح بها لإخفاء ملامحه أثناء تنفيذ العملية، وأخذت شهرة أكبر عندما لبسها الزعيم الراحل أبو عمار بعد معركة الكرامة في أول لقاء إعلامي له معقبا على انتصار فتح في معركة الكرامة وهو يقول كنا لاجئين والآن أصبحنا مقاومين وهذا مهم. وبعدها أصبحت تسيير العمليات الفدائية من خارج فلسطين لتنفيذ عمليات فدائية ضد أهداف صهيونية داخل فلسطين منها: عملية دلال المغربي وعملية العمارة في الخليل وفندق سافوي وغيرها الكثير الكثير، على أثر هذه العمليات بات يعرف الفدائي الفلسطيني بالكوفية، وهذا ما ترجمته الأفلام العالمية بصورة الفدائي الفلسطيني وهو مرتدي الكوفية. وجاء التحول الثالث مع الانتفاضة الأولى عام 1987 ، حيث أخذت الكوفية شهرة أكبر وأصبحت مكونا نضاليا مهما في معركة المقاومة الشعبية اليومية باستخدامها من قبل أشبال وشباب الانتفاضة، وأيضا من قبل عناصر القيادة الموحدة التي قادت الانتفاضة، ولم تكن الكوفية غائبة عن الانتفاضة الثانية عام 2000، فحتى الآن لا يزال المناضلون يرتدون الكوفية لذات الأسباب لثورة عام 1936.
والأمر الأهم الذي صاحب جميع هذه التحولات هو الاهتمام بالكوفية كهوية وطنية، وأقصد بها اهتمام الأدباء والشعراء والفنانين، وأيضا أحرار العالم المتضامنين مع قضية فلسطين وظهر هذا جليًا في: رسومات الفنانين منهم ناجي العلي، وأشعار درويش، والفرق الفنية الفلسطينية منها الدبكة والمسرح، وغني لها محبوب العرب محمد عساف بأغنية علي الكوفية، وفي فبراير 2022اعتمد طلبة جامعة هارفرد في الولايات المتحدة الأمريكية يوم الخميس من كل أسبوع يوم خاص للتضامن مع الشعب الفلسطيني بارتداء الكوفية الفلسطينية.
كما أن الكوفية اليوم حاضرة بقوة في فعاليات كأس العالم نوفمبر تشرين ثاني 2022 المقام في قطر، تتوشح بها الجماهير العربية بكافة فئاتها، كنوع من تأكيد الهوية العربية لفلسطين، وقضيتها العادلة، ورسالة جماهيرية من الشعوب تؤكد رفضها للتطبيع. وعلى المستوى الرسمي أولت وزارة التربية والتعليم الفلسطينية اهتمامًا كبيرًا بالكوفية واتخذت قرارا عام 2015، باعتبار يوم السادس عشر من نوفمبر تشرين الثاني يومًا للكوفية، كما اتخذت وزارة الثقافة يوم الخامس والعشرين من تموز يوليو بناءً علي قرار الرئيس محمود عباس الصادر في آب أغسطس 2018، يومًا للزي الفلسطيني كنوع من تعزيز الصمود والمحافظة على التراث الشعبي الفلسطيني المستهدف بالسرقة والتزوير من قبل الاحتلال.