41

0

افريقيا وتحديات المستقبل

 بقلم: الحاج بن معمر

في قاعة تضج بالوجوه الإفريقية الثقيلة، كان المشهد أشبه بموعد تاريخي تستعيد فيه القارة وعيها السياسي والاقتصادي معاً.

الكلمة التي ألقاها الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون لم تكن مجرد افتتاح رسمي لقمة اقتصادية عابرة، بل كانت بمثابة بيان استراتيجي يضع إفريقيا على عتبة مرحلة جديدة: قارة غنية ترفض أن تكون مجرد خزّان مواد خام، ومجتمعات شابة ترفض أن تبقى رهينة للديون وشروط المؤسسات المالية العالمية، وزعماء يعلنون بوضوح أن زمن التبعية ولى، وأن المستقبل يُصنع بالأيدي الإفريقية لا في مكاتب الغرب.

منذ اللحظة الأولى بدى أن الخطاب يحمل أكثر من رسالة

داخليًا، أراد تبون أن يعيد تثبيت موقع الجزائر كقلب نابض في مشروع النهضة الإفريقية، وخارجيًا كان يسعى إلى إرسال إشارات واضحة للعالم: أن إفريقيا لن تبقى مجرد "سوق استهلاكية" أو "حديقة خلفية" للقوى الكبرى، بل قوة إنتاجية متكاملة تسعى إلى فرض شروطها في التجارة العالمية.

هذا المعنى تجسد أكثر في الحضور الكثيف والمتنوع لزعماء القارة، الذين جلسوا صفًا واحدًا على منصة واحدة، في مشهد لم يعد مألوفًا في زمن الانقسامات والحروب الداخلية.

الاقتصاد كان المدخل الأساسي في كلمة تبون

الأرقام التي استحضرها لم تكن جافة أو مجرد إحصاءات، بل كانت مشفوعة بتحليل سياسي يربط بين الثروة والسيادة. لقد شدد على أن السيادة السياسية لا يمكن أن تتحقق من دون سيادة اقتصادية، وأن استقلال القرار الإفريقي لن يكون إلا بتحرر القارة من التبعية التجارية والمالية.

وهنا كانت رسالته مباشرة: القارة التي تضم ثلث ثروات العالم الطبيعية لا يعقل أن تبقى في خانة "المتسول" على موائد المساعدات.

هذا البعد الاقتصادي لم ينفصل لحظة عن البعد السياسي. فحضور القادة الأفارقة لم يكن مجرد مشاركة بروتوكولية، بل كان بمثابة "تصويت جماعي" على مشروع التكامل الإفريقي.

القادة الذين اعتادوا في الماضي أن يلتقوا بوساطات غربية أو في مؤتمرات تحت رعاية دول مانحة، اجتمعوا هذه المرة في الجزائر، ليتحدثوا بلغة مشتركة أساسها: إفريقيا للإفريقيين.

إنها إشارة قوية إلى أن الزمن تغير، وأن التكتلات الإقليمية باتت ضرورة وجودية. السياسة الدولية بدورها لم تكن غائبة عن هذا المشهد.

فالعالم الذي يعيش على وقع أزمات الطاقة والحروب التجارية، يدرك أن القارة السمراء لم تعد هامشية، بل صارت ساحة تنافس حقيقية بين القوى الكبرى.

الولايات المتحدة، أوروبا، الصين، روسيا، تركيا… كلهم يتنافسون على الفوز بموطئ قدم داخل إفريقيا.

وهنا تأتي أهمية ما قاله تبون: أن الشراكة مع إفريقيا يجب أن تكون على أساس الندية والمصالح المتبادلة، لا على أساس الإملاءات والاستغلال.

الرسالة موجهة مباشرة للعالم الغربي

لم يعد بالإمكان التعامل مع إفريقيا بمنطق "النهب المشروع"، لقد تغيرت قواعد اللعبة، ولكي نفهم عمق هذا التحول، لا بد من مقارنة التجربة الإفريقية الناشئة مع تجارب قارات أخرى.

ففي آسيا مثلاً، استطاعت دول مثل الصين والهند وكوريا الجنوبية أن تتحول من اقتصاديات هشة إلى قوى صناعية هائلة، فقط حين قررت أن تبني تكاملًا إقليميًا وتستثمر في التصنيع المحلي بدل الاكتفاء بتصدير المواد الخام.

هذا ما يريده تبون للقارة

أن تتحول من قارة تصدّر النفط والذهب واليورانيوم والقطن، إلى قارة تنتج السيارات والتكنولوجيا والدواء.

أما في أمريكا اللاتينية، فالتجارب تحمل دروساً أخرى: حين حاولت بعض دولها كسر التبعية المالية للمؤسسات الغربية وبناء تكتلات اقتصادية إقليمية، واجهت ضغوطًا هائلة، لكنها نجحت في ترسيخ مبدأ أن الاستقلال الاقتصادي شرط للاستقلال السياسي.

إفريقيا اليوم تقف على أعتاب تحدٍ مشابه، والفارق أنها تمتلك مخزونًا هائلاً من الثروات يجعلها مؤهلة لتجاوز ما عجزت عنه قارات أخرى.

لكن الرسالة الأهم في خطاب تبون لم تكن اقتصادية بحتة، بل حضارية بالمعنى العميق للكلمة.

فهو لم يتحدث فقط عن تجارة واستثمارات، بل عن مصير شعوب شابة تبحث عن مكانها في العالم.

إفريقيا هي القارة الأكثر شباباً، ونصف سكانها تحت سن الخامسة والعشرين، ما يعني أن أي مشروع اقتصادي هو في حقيقته مشروع حضاري يعيد تعريف علاقة الأجيال الجديدة بالعالم.

إذا ما استطاعت القارة أن توفر لشبابها فرص العمل والإبداع والإنتاج داخل بلدانهم، فإنها ستتحول إلى قوة لا يمكن لأي نظام عالمي أن يتجاهلها. الحضور الإفريقي الكثيف في الجزائر كان في حد ذاته إعلانًا لميلاد وعي جديد.

لم يعد القادة يخجلون من القول إن القارة تعرضت لنهب تاريخي ممنهج، وأن الوقت قد حان لاستعادة زمام المبادرة.

الجلوس تحت سقف واحد كان تجسيداً لفكرة أن المصير مشترك، وأن الانقسامات القديمة لم تعد سوى عائق أمام بناء قوة اقتصادية وسياسية قادرة على فرض نفسها. ولعل أبرز ما ميّز الخطاب هو تركيزه على أن التكامل الإفريقي ليس خياراً سياسياً فقط بل هو ضرورة اقتصادية.

فالاقتصادات الإفريقية إذا ما بقيت متفرقة ستظل ضعيفة، أما إذا اندمجت ضمن سوق موحدة، فإنها ستشكل قوة شرائية هائلة تفتح المجال لنهضة صناعية وتجارية.

هذا المنطق يعيد إلى الأذهان تجربة الاتحاد الأوروبي، الذي لم يولد من رحم السياسة بل من رحم الاقتصاد: سوق مشتركة تحولت لاحقاً إلى قوة سياسية كبرى.

إفريقيا تسعى اليوم إلى أن تسلك الطريق نفسه، لكن بخصوصية إفريقية تراعي تنوعها الثقافي والديمغرافي.

في العمق، كان خطاب تبون إعلاناً بأن الجزائر لا تريد فقط أن تكون منصة اقتصادية، بل زعيمة لمشروع إفريقي شامل.

وهو طموح مشروع بالنظر إلى تاريخ الجزائر النضالي في دعم حركات التحرر الإفريقية، ومكانتها الجغرافية والسياسية.

وهنا تكمن الرسالة للعالم: أن الجزائر ليست مجرد لاعب إقليمي، بل دولة تسعى لتكون قوة محورية في إعادة تشكيل موازين القوى داخل القارة.

رسائل بعثها الحدث

للعالم الغربي، أن إفريقيا لم تعد تقبل دور الضحية؛ للصين وروسيا، أن الشراكة مرحب بها ما دامت قائمة على الاحترام المتبادل؛ للشعوب الإفريقية، أن زمن الانقسام والتبعية انتهى، وأن المستقبل يُصنع باليد لا بالانتظار.

أما الرسالة الأعمق، فهي أن الاقتصاد ليس مجرد أداة للتنمية، بل سلاح للتحرر السياسي. وبينما كان القادة يتبادلون الكلمات والابتسامات، كانت الأعين تراقب المشهد من الخارج بقلق: أوروبا التي تخشى فقدان أسواقها، أمريكا التي لا تريد منافسين جدد، الصين التي تترقب فرص الاستثمار، وروسيا التي تبحث عن موطئ قدم في إفريقيا الجديدة.

الكل يدرك أن ما جرى في الجزائر ليس مجرد قمة اقتصادية، بل لحظة ميلاد لوعي سياسي–اقتصادي جماعي قد يغيّر موازين العالم.

في النهاية، يمكن القول إن كلمة تبون لم تكن خطاباً عادياً، بل إعلان رؤية: إفريقيا قادمة بقوة، إفريقيا لن تبقى خزاناً للمواد الخام، إفريقيا تتوحد لتفرض كلمتها.

إن حضور الزعماء الأفارقة في الجزائر هو الدليل الأوضح على أن هذه الرؤية لم تعد مجرد حلم، بل مشروع قيد التنفيذ.

والمستقبل وحده سيكشف إن كانت القارة ستنجح في تحويل هذا الحلم إلى واقع، لكن المؤكد أن العالم لم يعد قادراً على تجاهل صوت إفريقيا، ولا على تجاهل أن الجزائر وضعت نفسها في قلب هذا التحول.

 

 

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services