2048
0
عصا موسى في بحر الشِعر يقود مركبة القصيدة ويعرف الطريق
بقلم: د.المتوكل طه – شاعر فلسطيني
ينعف صديقي المبدعُ موسى حوامدة حفنةَ ضوء في وجهي،عبر هذا الكتاب، العابر للأشكَال، فقد تبيّن أنه نقدٌ بامتياز،مثلما هو شهادة شاعرٍ حول الكتابة.
لكنه، مع هذا، نصٌّ مسبوك، رجراجٌ، يضفضف على سواحل النقد والبوح القريبة والبعيدة،بوضوح وجرأة، وبلغة احتفظت بشاعريتها العالية، ومن زوايا مختلفة.
كأن الشِعر بأسئلته الحارقة والثقيلة،تحت مجْهره الرائي؛بدءاً من أزمات الشعر الحديث أو المعاصر،مروراً بضرورة تثوير أعصاب القصيدة ومكوّناتها،وكيف أنها ابنة الحياة التي تحدو تطوّرها وتنمو معها، وعلاقة الشاعر بجمهوره الذي يدعوه لأن يتجاوز”النمط”، مع عدم إغفال ما يتعالق بتلك العلاقة من لبس وتوقَّع،أو ما واجهه الشعراء من انزلاق نحو الرتابة أو التكسّب أو التخشّب،والبقاء عند أقدام القدماء والسلاطين..وصولا إلى سبر غور الكثير من المقولات والنظريات التي امتلأت بها الساحات الشعرية،فغاص في حمأتها،وراح يجندلها أو يجادلها، بمعرفة وافرة،خلقت لآرائه وجاهة يعتدّ بها،على طريق تحرير القصيدة من مخلّفات الماضي،ومن الأغراض الخائبة،وصلتها بالآباء،ما يعني أهمية”القطع”و”قتل الأب”دون تعسّف،على مدرج أن تدفّ القصيدة بأجنحة جديدة تطلقها من إسارها أو انشدادها لأوتاد واهنة.
إن الكاتب هنا شاعرٌ وازن له نكهته الخاصة والمدهشة، كأنه سائقٌ ماهرٌ لمركبة الشِعر. وإذا كان الناقد،عامةً، هو الذي يعرف الطريق الذي يجب أن تسلكه المركبة، فإن أخي موسى هو ناقدٌ أيضا(يصنع الناي ويعزف عليه)، وبحِرفيّة حاذقة واثقة وبهيّة. وقليل من الشعراء الذين استطاعوا أن يزاوجوا، بقدرة لافتة وحقيقية متماسكة، بين أمري الشعر والنقد.
وهذا الكتاب دليلي على ما أقول، وليس بالضرورة أن نتماهى تماماً مع صديقي أبي عديّ في كامل ما جاء به،لكنّي أقرّ له بحقه في الإدلاء بشهادته النّوعيّة في قاعة الإبداع الكونية الكبرى، ليشارك الشعراء والشهود، فيما طرحه،ومعظمه مبرّر وصحيح.إذ ليس بالضرورة أن تدمّر الروح الشعرية لتكتب رواية!فالأشكال الأدبيةتسيل على بعضها البعض،فتكوّن لوحةً باذخة، لا تنتمي لشكل بعينه،وهذا اجتراح لا غبار عليه،وقد يأنس الكاتب لغير شكل ليعبّر عمّا يختمر في صدره.
وللشعر تعريفات بعدد قارئيه وكاتبيه.والشعر أكبر من أشكاله..فالأهم “الشعرية”،وليس الهيئة، موسى حوامده، بين دفتي هذا الكتاب؛ يعزز ويعمّق الحوار والنقاش، واجب الوجود، حول كل قضايا الشعر، ما يدفعه ليبرأ من مهابطه، ويتيح له هواء أكثر عافية.
إذ تصدّى لفوضى الشعر ونشره دون ضوابط أو رقيب وحسيب،ما جرّ على الشِعر من تبعات سلبيّة قاتلة،ولا يغفل عمّا طرحه أخوته الشعراء من آراء نقدية وأدبية،تصدّى لها وحاورها،وانتصر لرأيه فيه، وتوقف مليّا أمام”مهمة”الشعر وما ينبغي له أن يفعله،دون أن يغمط “المتعة”المضمرة واجبة الحضور.
كما يحسب له أنه أعلن بجسارة منتمية انحيازه لقضية القرن فلسطين،التي نادى للاصطفاف حولها والتنفّس في ظَهرها، ليبعد العنت والاستلاب والمظلمة التي تتعرّض لها،غير غافل عن الأثمان التي دفعتها فلسطين من لحم أبنائها وبناتها،وأن الصراع المُشرع سيُفضي إلى خلاص أصحاب الحقّ الواقفين بثباتٍ على أرضِ حقّهم الراسخ.
واللافت أن أخي موسى قد ألقى عصاه في بحر شِعره،فعجمه وأضاءه،ودفعه إلى ميزان النقد،دون ادّعاء وتشاوف،بقدر ما أعلن،بتواضع العارف،عن مهابط التأتآت الأولى،والاخفاقات المتوقّعة في مسيرة أيّ مبدع.
والكاتب هنا،أيضا،يدرك مفهوم المقاومة الشمولي،لأن الاقتصار على شكلٍ نضاليٍ واحدٍ يتناقض مع جدلية النضال والمقاومة،التي تتسع لكل المفردات التي تنحاز إلى الجَمال في مواجهة البشاعة.
وأعجبني أنه أدلى بدلوه في ماء الصراع الموّار والمفتعل بين الرواية والشِعر!وأنا أميل مع الكاتب إلى القول الذي يؤكد على أن لا قاعدة ثابتة في الفن، ولا مدرسة تكون خاتمة المدارس، الدنيا أرحب والفن أرحب،وعلينا أن نجرّب ونشتقّ الصيغ..إلى أن يمتلك كل منّا عالمه الخاص به.
وأرى أن الكاتب انشغل كثيرا في أمر قصيدة النثر ومقاربتها مع “الشعر”السائد،لهذا؛أسأل: ما الذي يجعل من إبداعٍ ما..شِعراً؟ علماً أن النقّاد القدماء والمحدثين قد أشبعوا هذا السؤال أجوبةً، جعلت للشِعر تعريفات بعدد البشر!إضافةً إلى أنهم،قديماً،ميّزوا بين النَّظم والشِعر،على اعتبار أن الوزن الشعري لا يكفي وحده لأن يجعل من النّظم شِعراً،وعلى أساس أن ثمة عناصر لا بدّ إلاّ أن تتوفر في “البناء”حتى نشير أليه ب “الشِعر”. وحديثاً؛ ما فتئت الآراء تتباين حول قصيدة “النثر”، وتتقاطب ما بين معترف بها،بشروط صارمة،وما بين ناظرٍ إليها باعتبارها نصّاً أدبياً لم يرقَ إلى مجد الشِعر، لأنها لم تنهض على قوام التفعيلة والقافية وبحور الخليل، وكأن الموسيقى هي الشرط الأكبر والأساس لأن تكون هذه الكتابة شِعراً!وباعتقادي،فإن قصيدة “النثر”ما زالت تُكابد على طريق شرعنة ذاتها،ولم تتوصّل بعد إلى شاطئ يجمع شعث الآراء المتباعدة حولها،حتى وهي تعترف جميعها بهذا النوع من الكتابة،ذلك أن قصيدة النثر لا شكل نهائي لها،ولا حدود لها،حتى اللحظة،إذ نرى هذه القصيدة تتزيّا مرّة ب”الهايكو” أو”القصّ” أو “التدوير”..لتصل إلى “الكُتلة”،وتتكئ كثيراً على أشكال الإبداع الأخرى(القصّة،المقالة،السيناريو،الحوار، التقرير الصحفي،الخطاب،السرد،المسرح..الخ).
وهي تندلق على بعضها البعض،وتأخذ أو تستقرض من بعضها البعض،وتعجنه في وعاء واحد،وتقدّمه على اعتبار أنه قصيدة”حداثية”،لا يحقّ لناقدٍ أن ينال من شرعيتها،أو من حقّ الشاعر في أن يذهب عميقاً في “التجريب”،وفي اقتحام القرون الآتية،وكأنه سابق لعصره.وأعتقد أن الألوان المتنوعة،من كل الأشكال،إذا ما أحسنّا تناولها،ستقدّم لنا بورتريه عبقريّ،في حالة سالت وتماهت المكوّنات مع بعضها البعض .
وأقول؛هذا كلّه من حقّ الشاعر.ولا تثريب على أي مجتهد في أن يشقّ أسداف الآتي،أو أن يجترح صيغة إبداعية غير مسبوقة،أو أن يُطعّم قصيدته بجواهر يأتي بها من محيطات الأشكال الأخرى.
وله أن يُطلق عليها،أو لا يسمّيها بأي لقب أو اسم،وأن يلهث كما يشاء،دون حدود وشواخص وعوائق،بحريّة مُطلقة في براري الإبداع المفتوح بلا نهايات.
وأستدرك لأشير إلى أن الحرية التي لا شرط عليها إلا المزيد منها،هي حقّ سماوي،وبوابة الدخول إلى كل مكان وزمان،لكنها،مع هذا،مسؤولية ثقيلة،على مَنْ يدرك جوهرها وضرورتها،ولا تمنح نجمتها المتلألئة إلاّ لمَنْ حفظ لها علوّ قامتها وقداستها.
لهذا؛لا يحقّ لمَنْ يغصبها أو يحدّدها أو يخنقها أو يأخذها إلى أهوائه وطيشه وألعابه الجاهلة..لا يحقّ له أن يدّعيها أو يجأر بالدفاع عنها أو صيانتها،لأن الحرية هي الوصول إلى الكشف في لحظة تجهّم العتمة والسقوط،كما أنها رعاية للغابة وليس إحراقها أو تحطيم أشجارها لصناعة قارب هشّ ستطوّحه الأمواج الرّخوة.
إن الحرية المقترنة،أبدياً،مع الإبداع،تعني معرفة ووعي أدواتنا التي سنشكّل بها ملامح كتابتنا،ونبني عوالم إبداعنا،الذي يتغيّا سلامة كلّ خليةٍ ولونٍ وحرفٍ وإيقاعٍ واستطالة،في سياق الانسجام والتكامل..ما لم نتجرّأ على أُسس واجبة صارمة،هي أرض الكتابة(اللغة بمستوياتها القاموسية والشرعية والدلالية،قواعد النحو والصرف،فقه اللغة) في كل حال،إلاّ إذا كنّا نقصد “دادائيّة” جديدة،قد لا نعرف دوافعها ومقاصدها. ومع هذا،أرى أن على الشاعر أن يُخَلِّص”قصيدتَه”من الثرثرة،واللغة الفائضة المبذولة،وأن يجعلها أكثر توتراً مثل القوس المشدود،صياغة ومباغتة،وأن يشحن مفرداته بما يجعلها سهماً نورانياً،ينفذ إلى قلب المتلقّي بفتوةٍ وألق وكأنه يسمع بها لأول مرّة،في سياقها المتقشّف من الإجهاش.
بمعنى أنه عندما أطالع هذه القصيدة ينبغي أن تدهمني لغةٌ حساسة بِكْر،جديدة الدلالات،منفتحة على أفق غير محدود، وبعيدة عن عناصر المقالة أو الخطبة أو التطويل والشرح،وبحِيَل جمالية،تفهق مثل شِعاب البرق بين العيون.
إن قصيدة “النثر” التي تتكئ على الشاعرية والموسيقى الجوّانية والاختزال والمفارقة،تُطالب كاتبَها لأن يعتمد كلّياً على نفسه وأدواته الذاتية،لأنه يدخل القصيدة بلا موسيقى وإيقاع وتفعيلات،وينأى بقصدٍ عن مباهج “البلاغة”،وليس لديه إلاّ طينة الخَلْق،التي عليه أن يجعل منها قواماً له روح وأعصاب،وأنفاس تلفح،وأحلام قادرة على الجموح والنفاذ،وإشاعة النار في المواقد الباردة.
إنه،هنا،يشبه روبنس كروزو،الوحيد على جزيرته،والذي عليه أن يوفّر كل شيء ليحيا،وحده..على رأي الكاتب صبحي حديدي.
إن الكثير من الذين لا يتقنون “النوتة” يُلحِفون على أن يصيروا موسيقيين..فهل يستطيعون؟!كما أن العديد مِمَن يحملون القلم ولا يمتلكون موهبة “النّظم على بحور الخليل”يريدون أن يصبحوا شعراء!فهل يبلغون ذلك المدى؟أي هل الكاتب الذي لا يستطيع أن يكتب الشِعر المنظوم الموقُّع،هل يُعدّ قميناً لأن يلج عالَمَ الشِعر؟وهل الكتابة “النثرية” تكفي وحدها لأن تعطي صاحبها لقب شاعر؟ وجوابي على ذلك:أن الشِعر،الذي لا أًقرّ بتعريفٍ واحد وجامعٍ وشافٍ له،هو ذلك “القول” الذي يرقى فور سماعه أو قراءته إلى مراتب النيرفانا،ويجعلك تشهق،ويحدِث نبضة النار في خلاياك،ويبعث ذلك النحل الشرس إلى كل مسامةً فيك،أو أنه كلامٌ إلهيٌّ يأخذ روحك إلى رعشةٍ غائمة،ويُعكّر دمك بالعسل،ويتركك على مفترق التيه اللذيذ..
أرضه نارٌ ثلجية،وسماؤه أطفال المجرّات اللاعبين في فضاء غير مُدْرَك..بصرف النظر عن شكله،لأن الشِعرَ أكبر من أي شكل، لكنني أضع يدي على قلب القصيدة،من كثرة أولئك الذي رفعوا الكُلفة مع الكتابة ،عامةً،ومع الشِعر خاصةً،ومن ذلك الإسهال في عدد مَنْ مهروا كتاباتهم ب”الشاعر”!وكأنهم أَلفوا وتمكّنوا من كتابة الشِعر!فأصيبوا بداء الاستهتار في مصاحبتهم الكريهة والغاصِبة لهذا القول المقدّس،الذي اسمه الشِعر.
ومن هنا تأتي أهمية كتاب أخي موسى هذا،الذي يتصدّى لهذه الأسئلة الحارقة والمتوترة،ويسعى لتأصيل إجابات شافية لها.
وليس آخرا،أتفق مع صديقي المبدع أن خطاباً ثقافيا اختار أن يقف على الرصيف،فأنه بالتأكيد لن يستطيع إدراك الماضي وتحديد المخاطر والانتصار عليها،لأنه ببساطة توقف عن العقل والعمل.
وخطابنا الثقافي العربي والإسلامي- مع استثناءات قليلة – يشبه حالتنا المنكوبة،ولا يختلف عن واقع نكستنا كثيرا.بمعنى أن فعل الغرب الاستعماري،الهادف إلى بقائنا في حالة ضياع وتشظية وعدمية وجهل واستلاب وتغريب وصدام،قد نجح إلى حدّ كبير، ليس لأنه استراتيجي ومتواصل وشمولي ومدعوم فحسب،بل لأننا لم نخلق النظرية القادرة على خلق فعل أكبر لاستيعاب ومواجهة تلك الاستراتيجية،وأعني على الأقل،خلق فعل ثقافي فكري يكون قادراً على تعرية المؤامرة ومكوّناتها وأطرافها،وإنهاض عوامل البقاء والوحدة والهوية والانتماء والحضور،على أرض التعددية الطبيعية التي تُثري،وعلى مبدأ التجريب والحداثة المتصلة بالأصل والجذر،ومن منظور النقد باعتباره حالة دائمة وهدفاً تصحيحياً، بعيداً عن الإعدام أو الإتهام أو الوقوع في مقولات الإستشراق،أو تبني الأفكار الجاهزة أو المعدّة سلفاً.
والجميل عند الكاتب أنه لا يتنطّح ضد أي فكرة أو مقترح جماليّ أو عقيدة أدبية،ولا يأخذ موقفاً مسبقاً من أيٍّ منها،ولا يُعلن تبنّيه لأي صبغة أو صيغة خاصة أو نخبوية.وهذا هو جوهر الحرية والحداثة معاً،لأن الحداثة ليست “زمنا”إنما هي “موقف”.
وربما أشارك المبدع،هنا،في إثارة غير فكرة أو سؤال يتصل بالشعر،فأقول؛هل الشعر علاقة انفصال أم اتصال بالعالم؟هل هو علاقة تدمير وإفناء وإلغاء،أم علاقة تكامل وتآلف؟ قد يبدو السؤال قديماً قدم الألم والفرح والخيبة والأمل!ولكن أليس الشِعر مثل اكتشاف النار والعجلة والكهرباء؟وإذا كانت تلك قد جعلت من الواقع أسهل وأقل تعقيداً وأكثر عرياً وفقراً وقلَّة غربة،فإنَّ الشعر يغيِّر وظائفه مثل ما نغيِّر قمصاننا. الشعر من مشغولات العالم،يأخذ منه بنيانه وهندسته وألفاظه،ولكنَّه سرعان ما يتحوَّل إلى مشغولات سماوية،فالعالم الذي ينهار يوماً فيوماً،ويتآكل بوتيرة عالية،ويُنتهك لحظةً بلحظة ،ويتذاوب في المختبرات،يتحوَّل إلى مُكتَشفٍ مُذهلٍ في الشِعر.
هناك عوالم بعدد القصائد التي كُتبت أو قيلت.
هناك عالم واحد يتخلَّق في ملايين القصائد التي كُتبت وستكتب،وهناك حلم واحد يشترك في تأليفه كل شعراء الدنيا الذين خُلقوا والذين لم يُخلقوا بعد. فمن شعر الخوف إلى شعر العقل والمجالدة إلى شعر السِّحر والأحلام،إلى شعر التدمير إلى شعر التأمل،هناك رغبة واحدة وحلم واحد – وربما هدف واحد – إلاَّ وهو فحص هذه الذات أمام هذا الواقع. يتقدَّم الشاعر بقصيدته ليغزو العالم أو ليفهمه أو ليرفضه أو ليفسِّره أو ليصرخ في وجهه، يرغب الشاعر أن يحشر العالم الواسع في لغة ضيقة،ويرغب الشاعر أن يضغط الزمن في ثانية ،يتمنَّى الشاعر أن يلمس بروحه هذا الرحيق العجيب الذي يُدعى الحياة،بلغة بشرية ليس إلاَّ، لغة بشرية بائسة وفقيرة وعاجزة،وأنّى للشاعر أو للشعر أن يقبل بالبؤس والفقر والعجز . الشعر يدَّعي كثيراً ،ويطلب النبوءة والكشف والاختراق والإحاطة.
الشعر فيه “آخرُنا” و”خارجنا” و”زمننا” و”مكاننا”. لكم يتواجد في الشعر من “الخارج”! لكم تتطامن الذات في التعبير عن نفسها!
ولكم تخوننا لغتنا فلا تصبح مثلنا ولا كما نريد! وللشعر رغبة في المُقدَّس،ذلك المقدَّس الذي يأتي من غريزة الخوف والعودة إلى الحضن الأول،فيأتي النصُ محمولاً ومضمَّخاً بالغامض والغارق في التأويل،والتأويل هو المنطقة المشاع التي نختلف فيها ونتعارك عليها ونقيم أصنامنا ومعبوداتنا عليها. التأويل “لآخرنا” و”لنا”،أيضاً! يا لهذا الشعر الذي يجعلنا أو يوهمنا بأنَّنا أقوى وأقدر !
لأعترف أنَّ كتابة الشعر تعني مقاربة ومقارفة “الثورة”! لأعترف أنَّ القصيدة نقيض و”تحريض”. لأعترف أنَّ الشعر – كما اكتشف الجرجاني ذات يوم – لا علاقة له بالسائد والمتعارف عليه القصيدة “توهمني”بأنَّني أرى من أعلى،وبأنَّني “أُشرف” من قمّة!
القصيدة تقدّم لي “الإرث” كلَّه،لأجبل منه تمثالي،وتقدّم لي الكرم كلَّه لأصنع منه نبيذي. الشِعر فوق الزمن إذا تأمَّل..الشِعر فوق التاريخ إذا رأى.. نحن نجد أنفسنا دائماً في الشعر القادر على حثِّ فضولنا واستثارة كوامننا واكتشاف طاقاتنا الراقدة. ولأنَّ الشعر تراكم التجارب واستخلاصات التاريخ ومفاجآت الاكتشاف،ولأنَّه يُحمل بالموسيقى والإيقاع والغموض،فإنه بقدر ما يجعلنا في “غربة” عن عالمنا،بقدر ما “يجمِّل” هذا العالم.، يا لله!كيف لهذا الشِعر أن يُشعل الغابات في لحظة،وكيف له أن يُنضج دلَّة قهوتنا الصباحية في لحظة أُخرى! للشعر أحابيله وأساليبه وألاعيبه،وللعالم قوانينه ونواميسه،والعلاقة بينهما كعلاقة الثائر بالتاجر،أولهما يرى في النهر مرآة،وثانيهما يرى فيه سمكاً. لهذا الشعر – وهو من قولٍ لغوي ليس إلاّ – قوة التجميع وقوة التفريق،اللغة تحكم العالم، وتهدمه،أيضاً!
والشِعر،بما فيه من خيال وتغريب، حاول – في الماضي على الأقل – أن يتآلف مع العالم، فصاغ أساطيره جميعاً،أما اليوم،فإنَّ الشعر يصوغ أُسطورته لنفسه،إنَّه يتواضع وينزوي،بعد أن صار الخيال والتغريب من صنع التكنولوجيا،ولهذا؛فهو يحتفي بجمالياته وأساطيره بشكل انفرادي بعد أن فقد الجماهير.
للجماهير أوهامها،ولإعلام التكنولوجيا أفانينها.
لعالم اليوم نثره وسردياته وصوره،وللشعر أن يتعوّد انصراف الجماهير عنه،بعد أن فقد هذا الجمهور آذانه واستعمل عيونه فقط.لم يُغمض “بوذا” عينيه عبثاً،كان يريد أن يسمع. نحن اليوم في عصر العيون بدل الآذان! والشِعرُ الذي كان يرغب دوماً “بالاتصال” يذهب الآن باتجاه “الانفصال”،حاملاً معه غضبه وغموضه وادعاءاته! والشاعر يلهث للحاق أو الإمساك بما تبقى له من مساحة تسرقها منه تكنولوجيا البصر،التي تكفي الإنسان شرَّ الخيال،بما تقدِّمه له من عمليات إبهار مذهلة. الشاعر – والفنَّان – عموماً،يسابق التكنولوجيا في تغوِّلها وسيطرتها،ولهذا فهو يضطر إلى أن “يُشكِّل” قصيدته فيما بقي له من هوامش! والأزمة – هنا – هي أزمة تاريخ لا أزمة شعر !