714
0
عندما يُختزل الكيان في كلمة.. وتُختزل الدولة في إسم*
موريتانيا بين إهانة ترامب وضغوط التطبيع*

*بقلم: ضياء الدين سعداوي*
في قاعة أنيقة من قاعات البيت الأبيض وأمام عدسات الصحافة الدولية، لم يكن الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني يتوقع أن يقاطعه الرئيس الأميركي دونالد ترامب بنبرة فجة تشبه كثيرًا شخصيته المثيرة للجدل: "سوف نحتاج إلى المضي بسرعة أكبر من هذا، إذا كان بإمكانك فقط قول اسمك وإسم بلدك فسيكون ذلك رائعًا."
هكذا بكل بساطة قاطع ترامب رئيس دولة إفريقية مستقلة ذات سيادة في مشهد يختزل عقلية مركزية ما تزال ترى في الجنوب "هامشًا" لا دور له سوى إطاعة الأوامر والإسراع في تنفيذ التعليمات.
لكن هذه الحادثة العابرة شكلًا و العميقة مضمونًا، تأتي في سياق إقليمي ودولي بالغ الحساسية، إذ لا يمكن فصلها عن الضغوط الأمريكية المتصاعدة على بعض دول الساحل من أجل دفعها نحو ركب التطبيع مع الكيان الإسرائيلي، وهو ما يفتح بابًا لتحليل أوسع بشأن موقع موريتانيا في الخارطة الجيوسياسية الجديدة، وتبعات أي انزلاق محتمل على أمن المنطقة وعلى علاقاتها التاريخية خاصة مع الجزائر.
*موريتانيا.. بين ماضٍ من التطبيع وحاضر من الغموض*
ليست موريتانيا جديدة على ملف التطبيع ، فقد كانت من أوائل الدول العربية التي أقامت علاقات علنية مع إسرائيل في التسعينيات، وفتحت لها مكتبًا في نواكشوط. لكن سنوات ما بعد الانتفاضة الثانية (2000) وغزو غزة، وما رافقه من تغيرات سياسية داخلية، دفعت السلطات إلى تجميد تلك العلاقات رسميًا عام 2009.
غير أن العودة الأميركية القوية للضغط على نواكشوط خاصة بعد سلسلة التطبيعات في عهد إدارة ترامب الأولى (الإمارات، البحرين، السودان، المغرب)، تشير إلى رغبة واشنطن في استكمال بناء "جدار تطبيعي" يمتد من الخليج إلى غرب إفريقيا، وهو ما يعيدنا إلى سؤال اللحظة: هل ستطبع موريتانيا مجددًا؟
المؤشرات لا تخلو من ملامح مقلقة، فإختيار ترامب لمقاطعة ولد الغزواني بهذه الطريقة قد يحمل أكثر من مجرد دلالة بروتوكولية، فقد يكون تعبيرًا عن نفاد صبر واشنطن من بطء نواكشوط في الإلتحاق بالركب، وتذكيرًا –بطريقة مهينة– بأن المطلوب ليس كلمات بل مواقف واضحة: متى يتم الإعلان الرسمي عن "السلام مع إسرائيل"؟
*الداخل الموريتاني ..تطبيع في بيئة اجتماعية هشة*
موريتانيا رغم بعدها الجغرافي عن قلب الصراع، إلا أن التطبيع بالنسبة لها لا يُقرأ من زاوية العلاقات الدولية فحسب، بل أيضًا من زاوية داخلية معقدة: مجتمع قبلي تقليدي، يحمل في ثقافته السياسية رفضًا شبه جماعي للتقارب مع إسرائيل إلى جانب تيارات إسلامية وقومية فاعلة في الشارع قد ترى في أي خطوة تطبيعية استفزازًا مباشرًا ، ولا يمكن غظ النظر عن الوضع الإقتصادي الهش الذي يجعل من أي غضب شعبي خطرًا على تماسك النظام.
ورغم أن الرئيس الغزواني يحظى بدعم أجنحة من النخبة الحاكمة، إلا أن أي خطوة تطبيعية ستُقرأ داخليًا كتنازل سيادي لأجل الرضا الأمريكي، مما قد يخلق فجوة واسعة بين النظام والمجتمع خصوصًا في ظل الأزمات الإجتماعية المستفحلة والتفاوت الطبقي المتزايد.
*هل يستطيع الغزواني الصمود أمام ترامب؟*
ترامب ليس سياسيًا تقليديًا، أسلوبه في الإهانة المباشرة والضغط الوقح ليس جديدًا، وقد سبق أن أستخدمه مع دول أكبر وأقوى ، لكن المقلق هنا أن الغزواني لم يرد، لم يعترض، ولم يُظهر أي تململ علني ، وهو ما قرأه البعض على أنه ضعف في الموقف الموريتاني أمام الهيمنة الأمريكية.
لكن هل يملك الغزواني فعلاً القدرة على رفض الصفقة؟ هل تستطيع نواكشوط –التي تعاني من ضغوط إقتصادية ومحدودية في الأوراق الجيوسياسية– أن تقول "لا" لترامب؟
هنا تتعقد الإجابة، لأن الغزواني قد يجد نفسه بين مطرقة الداخل وسندان الخارج ، فلا هو قادر على خيانة المزاج الشعبي الرافض ولا هو مؤهل ماليًا وسياسيًا لخسارة الدعم الأميركي.
*ماذا عن الجزائر؟*
موريتانيا ليست دولة جوار مباشر للجزائر ، لكن أي تطبيع جديد في المنطقة يمسّ مباشرة الأمن القومي الجزائري خاصة حين يكون على حدود جغرافية قريبة من الساحل والصحراء. الجزائر التي تقف كـ"قلعة صامدة" في وجه موجة التطبيع.تنظر بقلق إلى تمدد التطبيع على حدودها : مالي تعيش حالة فوضى بعد الإنقلاب والإنقلابيون فيها أكثر استعدادًا لعقد "صفقات نجاة" مقابل الإعتراف الدولي ، كما أن النيجر بدورها قد تسلك الطريق ذاته ، فيما نجد ليبيا مفككة وصعود أطراف موالية للإمارات وإسرائيل فيها يجعل التطبيع محتملًا.
والآن موريتانيا إذا انضمت إلى هذه السلسلة فإن الجزائر ستكون محاطة بحزام مطبعين من كل الجهات.
والسؤال الأخطر هنا : هل يتحول "التطبيع" من كونه ملفًا دبلوماسيًا إلى "سلاح استراتيجي" يهدد الأمن القومي الجزائري؟
الجواب المرجح ، نعم فإسرائيل لا تأتي بعلاقات إقتصادية فقط بل بمصالح استخباراتية ونفوذ عسكري وصفقات أمنية وتعاون في مجالات التكنولوجيا الحساسة، خاصة في مجال المراقبة والطائرات المسيرة.
وبالتالي، فإن الجزائر لا تملك ترف تجاهل ما يحدث في موريتانيا لأنها تدرك أن كل تطبيع جديد هو خرق إضافي لجدار الرفض العربي وتوسيع لدائرة النفوذ الصهيوني على أطرافها الجنوبية.
فما حدث في البيت الأبيض ليس مجرد زلة لسان بل صفعة دبلوماسية مهينة تُخفي خلفها أجندة أميركية استعجالية تريد من موريتانيا اللحاق بركب المطبعين دون نقاش.
موريتانيا تقف اليوم أمام اختبار سيادي صعب: هل تصمد أمام الضغط وتعيد بناء تموقعها الإستراتيجي من منطلق السيادة والكرامة، أم تختار طريق الإنبطاح؟
الجزائر بدورها مدعوة إلى مراجعة خرائط التأثير والتحرك عاجلًا لتعزيز علاقاتها بالفاعلين الصادقين في الساحل، وتحصين حدودها من "الغزو السياسي" الإسرائيلي.
أما المنطقة، فهي أمام لحظة حاسمة: إما أن تعيد بناء فضاء مغاربي وساحلي مستقل ومقاوم، أو تسلم مفاتيحها لكيان لا يؤمن إلا بالتفتيت والابتلاع.
فهل يتحول "الاسم والبلد" إلى ما هو أعمق من مجرد تعريف رسمي؟ هل ينجو الغزواني من الإغراء الأميركي؟ وهل تصمد موريتانيا في وجه "إملاءات البيت الأبيض"؟
الأيام القادمة وحدها تملك الجواب.