بقلم إسماعيل يبرير
يكتب الكثير من المثقّفين والمتعلّمين والقراء الحقيقيّين وأشباه القراء على حساباتهم وصفحاتهم في الفايسبوك أراء متضاربة بخصوص بوعلام صنصال وكمال دواود، ويرى بعضهم أنّه على صواب ويدين البقيّة، وحين يتحوّل موضوع كاتب إلى الشّارع يكون الأمر صحيّا لو كان النقاش عن الكتابة والنصوص، لكنّه إذا نزل يصير نقاشا غير أدبيّ ولن يكون كذلك في أيّ شارع في العالم.
إنّ ادّعاء بعض الكتاب أنّهم لا يبالون بالذّوق العام وآراء النّاس، وأنهم يخلصون لفنّهم أو لأفكارهم فيه من البهتان الكثير، فبعض الكتابات تسعى إلى تجريح الآخر القارئ علنا، وتستهدف صناعة الإثارة وتراهن على الثيمات لا على أدبيّة النصوص، بل إنّ بعض الكُتّاب لا ينتشرون بكتاباتهم بقدر انتشارهم بآرائهم ومشاكساتهم واستفزازاتهم الدّائمة للجمهور، كأنّهم يتوجّهون إلى من لا يقرأ قصدا.
يحتاجُ النّاس إلى يقينيات وحجج لاستمرار الحياة والتمسّك بالأمل، ومن أهم يقينياتهم ارتباطهم بالوطن، وفي حالة الجزائر يصبحُ الارتباط بالوطن أكبر من مجرّد حاجة عابرة، فالأمر يتعلّق بإرثٍ لا تخلو منه عائلة، ببلدٍ صنعه تاريخُه وما زال يوجّهُ مواقفه ورؤاه، الأمر يرتبطُ بالوفاء لذاكرة متخمةٍ بالجراح، وبتوقٍ أبديّ للتحرّر وتوجّسٍ مقيم بالآخر المتربّص.
في مسألة داود أوّلا وصنصال ثانيا يبرز نقاشٌ يتخلّله الكثير من المضمر من الكلام والخطاب، فبعضهم يتكلّم عن "حريّة التعبير"! وهو خطاب تنازلت عنه أوربا وأمريكا منذ سنوات لضمان وضعٍ مُطمئنٍ في العالم الجديد، وبعضهم يتكلّم عن حريّات خاصّة لا مجال لها، فقد رصدها المواطن الغربي للرّهن مقابل ضمان العيش، والبعض عن الحريّة في الإبداع! والحقيقة أنّ أغلب من صادفتهم يتكلّمون عن هذه المبادئ التي ذبحت مرارا في السّنتين الماضيتين ليس لهم أثر أو تأثّر بالذي يحصل في غزّة ولبنان مثلا، وغير معنيّين بالأمر، وهم على دين صنصال ودواد ومن شاكلهم في إدانة المقاومة كفعل كرامة وإنسانيّة.
إنّنا بصدد كاتبين اختارا غير الجزائر، ولا يهمّهما البلاد التي نعيش فيها، بل البلاد التي يعيشان فيها، بل الأبشع أنّهما دائمَا التحفّز للتجريح في كلّ ما هو جزائري، وقد شيّدا صرح مجدهما بهذا السّلوك الشّاذ المزمن، والدّوائر التي تستثمر في هذا كثيرة، وحيلة النيل من الجزائر تجدي لدى كتاب بلا كرامة، ولها منافع في الشّرق والغرب.
ليسَ للمسِيسَين أيّ خطاب مُعارضة واضحٍ أو تشريحٍ حقيقيّ للوضع، وكلّ ما يملكانه هو مواجهة أيّ فرصة لبروز ما هو جمالي وحقيقي في الجزائر، وربّما يمكن ببساطة معالجتهما كحالتين مرضيّتين أدبيّا ووجوديّا، ولا أقول هذا للتحامل عليهما ولا يهمّني مجدهما الأدبي أو الإنساني، فالعالم مليء بالأدباء الأنذال، وبالكتابات العظيمة، وبالحكايات المتناسلة، ولكنّني أعتزّ بكوني جزائري، وأعتزّ بالأدب الجزائري الذي كتبه العشرات من المبدعين الكبار الذين تجاوزوا صنصال وداود أدبا وفنّا وإبداعا دون أن تقرع لهم الطّبول أو يرتّبوا في قوائم المتوّجين، ثمّ من يكونا في ميزان محمد ديب مثلا؟ الجوائز التي تكتب النصوص تندرج الجوائز ضمن لعبة القوى النّاعمة التي تستميل الكتاب والفنانين، وهي ملك لمانحيها، حتّى وإن حصل عليها أديب نظير ما ترشّح من أجله، فالجائزة تظلّ ملكا للمانح بوصفها صنيعتُه وتقديرُه للمُنتَج الأدبي وصاحبه، فمعايير مثل "آليات الاختيار والانتقاء والتتويج، توجّهات الكتابة، نوع المستهدفين، ورهانات الأسماء" كلّ ذلك لا يقدّم بالضّرورة أو يُملى مباشرة، تمامًا مثل الخطِّ الافتتاحي في الصّحافة، ليس هناك قانونٌ واضح يضبطه سوى اعتراضات التحرير التي يقدّمها المسؤول مترجما توجّهات المالكين فيعتادها المحرّرون، هكذا أيضا تصغي اللّجنة التي توكل إليها مهمّة التحكيم إلى مؤشّرات المانح، إذ لا يمكن أن يكون المانح بليدًا فيقدّم الجوائز والاحتفاءات لأسماء تعارضه أو تنال منه، وحتّى وإن فعل فإنّ هذا يأتي سحبا للممنوح/ المتوّج من موقفه إلى الموقف المرغوب، ولأنّ الجوائز تؤدّي دورا بارزا في تحفيز سلسلة الكتاب وتوزيعه، فإنّ النّاشرين والكتاب والموزعين والمكتبيّين كما القرّاء، مصابون جميعهم بهوس الجوائز، إذ لا يبيع الكتاب الجيّد بل الكتاب المتوّج خاصّة في عالم الأدب.
وبينما يحظى الكتاب المكرّسون والعالميّون بانتظام في المبيعات، يفجّر الكتاب الطارئون التوقّعات بتصدّر قائمة الأعلى مبيعا، وتلك حسابات لا يمكن دائما توقّعها، فأحيانا يكون الإقبال بسب الموضوعات وأحيانا بسبب الترويج القبلي وأحيانا كثيرة لأسباب متشابكة، غير أنّ الجوائز هي السّبب الأوضح في توسيع نطاق انتشار أيّ مؤلف بما في ذلك الرّوايات.
لقد أصبحت الجوائز تكتب النصوص، وكثيرا ما قارب المتنافسون الموضوعات الأكثر رواجا وقبولا لدى جائزة ما وحصلوا عليها، بل إنّ الكثير من الكتاب والمحكّمين يتبادلون أسرار التتويجات في المجالس الحميمية والخاصّة.
هناك الكثير من الأسباب التي تجعل تتويج داود يبدو مثل نبتة أدبيّة تنمو بماءِ التفاهم الإيديولوجي الفرنسي، وقد أصبحت روايته "حوريات" حديث الأوساط الأدبيّة، وسارع عدد من الذين لم يقرؤوا الرواية ولا الروايات التي نافستها إلى تبرير الفوز والتعبير عن الفخر به، واعتبار أنّ أدبيّة داود لا علاقة لها بمواقفه وأنّ الغونكور جائزة لا يرقى لها الشكّ، بينما تقبّل القارئ الفرنكفوني والفرنسي تحديدا الحكاية وأدان التّحامل غير المبرّر الذي تضمّنه هذا النص على الفضاء (وهران/ الجزائر)، والكثير من القرّاء عبّروا عن ذلك في منشورات وفيديوهات تستهجن خيارات التتويج غير الأدبيّة، وهي خيارات منتشرة في الغونكور وخارجه، فهل يمكن لدواد أن يُتوّج بحكاية لا تتعرّض للجزائر وتدور في فضاء جمالي وتعتمد على التخييل وحده وعلى جماليات الكتابة، ولا ينسّقها محرّرون يركّزون على وجهة نظر كولونيالية بحتة؟ الأدبي وغير الأدبي في حياة الآخرين إنّ انتحال حكايات الآخرين أو السّطو عليها ليس فعلا أدبيّا، إنّما هو مزج بين الاستغلال والجشع الصّحفي، وليس من الأدب في شيء، وهنا أودّ أن أشير إلى الخيط الرّفيع بين بعض الأنواع الصحفيّة والكتابات السّردية، وحتّى وإن كان داود كاتبا صحافيا، وتكوينه الأدبي محدودا معرفيّا، فلا بدّ أنّ القارئ فيه يملك نموذج الرّواية والقصّة، كما يملك نموذج الكتابات الصّحفيّة والشهادات والاعترافات وغيرها، وكثيرون عرفوا الرواية والصحافة باقتفاء الخطى والكتابة على النموذج.
إنّ الكاتب الذي يحتاج إلى قصّة منقوصةٍ ليكملها، وإلى وقائع مسرودة ليدوّنها، وإلى شخوص ماثلة ليستثمر فيها، قاصر في الخيال وساذج في الخيار، إذ يمنح خيال الكاتب القدرة على ابتكار حكايات أكثر تراجيديّة من الواقع، ويمكنه أن يُهرّب الحكايات الحقيقيّة ويخفيها بتفاصيل ومسارات تجعل من المستحيل اكتشافها حتّى من البطل الواقعي، وتصير عبارة من قبيل "أيّ تشابه بين شخوص هذه الرّواية والواقع غير مقصود" ساذجة ومبتذلة.
فهل يحقّ لنا امتلاك حكايات غيرنا؟ طبعا لا يمكننا أن نكتب حكايات الآخرين، وحتّى السير الغيرية التي تتحدّث عن أعلام الفكر والأدب ونجوم الفن ورجال التاريخ والسياسة والشخصيات العامّة لا تدوّن كلّ التفاصيل إذ لا يملكها ولا يصل إليها الكاتب بسهولة، وإذا حصل فسيتحوّل الأمر إلى تعرية أو فضح، ولا ينجو كاتب تجر أ على هذا من ملاحقة المكتوب عنه أو ذويه، فالتفاصيل قد تحمل لهم الأذى إن لم يكن الإحراج.
ولا تتجرّأ السير الغيرية غالبا على الحميميات واللّحظات المحرجة، هذا الخلو من الكشف الكامل يكون أيضا في السير الذاتية، ولعلّ الكثير من الكتاب دوّنوا سيرهم غير كاملة، ولسان حالهم: "نقول الحقيقة، ما يفي بالغرض ويكفي".
لقد سحب توقُ الكتابة وشبقُ التجريح داود إلى منطقة اللامبالاة، فازدرى الفتاة من حيث صُوّر له أنّه ينتجُ حكايتها أو يشفي بطلته المتخيلة، وهو في الحقيقة يعتدي على خصوصيّة الفتاة التي عاشت تجربة قاسية، ويعرّي جزئيات كان يفترض أنّها محفوظة لدى المساعَدَة الطبيّة، وموعودة بالنسيان بعد المواجهة ضمن مسار التشافي الذي يتعاقد عليه الطّبيب ومريضه، ويمكنُ لأحد الكَمَاليّين أن يدّعي أنّ الفتاة هي من فضح الأمر، والحقيقة أنّ خروج الفتاة إلى العلن هو شجاعة كبيرة منها، أمّا الكاتب فلو اتكأ على خياله لكتب تفاصيل أقدر والخيال عالمُ ما بعد الممكن.
إنّ النُّصوص الكيدية التي تنطلقُ ساعيةً لإحراج مجموعة ثقافيّة أو إدانتها أو للتجريح في موقعها، هي نصوص نازحة من القراءات السياسيّة والسوسيولوجية وخاضعة للمواقف الإيديولوجية، وأميل إلى أدوات النقد السياسي منها إلى أدوات الكتابة الأدبيّة، لهذا فإنّ أيّ حكاية أو موقف يعتبر في نظرها صيدًا ثمينا، وتلك حالة عجز في الخيال والتخييل معا؛ فالكتاب يُشيّدون عوالمهم الممكنة، ولهم مدنُ وحيوات موازيةٌ تغنيهم.
رواية استثنائيّة وحيدة ! لقد انتشرت رواية داود بوصفها عملا يكشفُ حقبة تاريخية موجعة في الجزائر، والحقيقة أنّ أعمال جيلين سابقين لا تخلو من أجواء وحكايات ووقائع التسعينيات، وكان النّقاش سابقا هل يمكننا أن نكتبَ عن الوقائع الآن أم علينا أن ننتظر؟ ووُصمت الرّواية آنذاك بالأدب الاستعجالي، وقتها لم يكن داود كاتبا بعد، ولا يمكن منع الكاتب من موضوعات الكتابة كلّها، كما لا يمكن تخصيص موضوع كتابة لشخص بعينه، ولو عدّدنا من كتب عن الأزمة لصدمنا داود ومن قرأ له باندهاش، لكنّ آلة الترويج قاصرة وكسيحة، والجوائز والاحتفاءات شحيحة، والكاتب الجزائريّ باللّغة العربيّة محاصر أكثر من مرّة، من النّاشر المحلّي الذي لا يجد فرصا خارج الحدود، ومن المشهد الأدبي العربي الذي وقع أسيرا للجوائز والعلاقات الشلليّة، ومن زيف بعض المواعيد التي تنتهك معنى الكتابة، باسم منح الفرص للجميع مرّة، وباسم الأجيال القديمة واللاحقة مرّة، وباسم تحرير النّشر والكتابة مرّات، هكذا غمّت فوضى النّشر والكتابة، ولم يعد بإمكاننا أن نشير إلى روايات بشير مفتي ومحمد جعفر وعبد الوهاب بن منصور وعبد الباقي كربوعة واليامين بن تومي وأمينة شيخ وأمين الزّاوي ومحمد مفلاح وواسيني الأعرج والحبيب السايح ومحمد ساري وإبراهيم سعدي، بل ولم نعد نقرأ بإعجاب وافتخار مرزاق بقطاش والطاهر وطار ورشيد بوجدرة، وبسبب ضعف الاهتمام والترويج وانحسار النقاش الأدبي صارت تلك الكتابات الفارقة في زمنها منسيّة أو غير متداولة سريعا.
ليس كمال داود روائيّا مميّزا، ليس أفضل من محمد ديب أو رشيد بوجدرة أو مايسة باي أو محمد مقني أو يحي بلعسكري أو فطيمة بخاي أو جميل عبد القادر راشي أو أنور بن مالك أو حميد سكيف أو سمير تومي أو أمين آيت هادي أو محمد عبد الله أو عائشة بوعباسي أو غيرهم من كتاب الرواية الجزائرية باللّغة الفرنسيّة، إنّه رجل اكتنفته الآلة الثّقافية الفرنسية، وتمّ وضعه في موقع يرتضيه طواعيةً، وهو في مقياس الولاء صنو بوعلام صنصال وياسمينة خضرة، مع فوراق في الخيارات الأدبية، وفي خطاب تمجيد الكولونيالية وفي منسوب الغلامية، إنّ داود من خلال تموقعه وخطابه الأدبي والإعلامي هو النموذج الأمثل للفرانكولونيالية في الجزائر، لقد حصل على الغونكور بتقطيبه لفم الفتاة الذّبيحة، فقد أعادَ سرقة صوتها مجدّدا، إذ لم تحك هي حكايتها بل ارتقى هو الرّكح واستغلّ حكايتها ليبدو نجما، وحرمها وإلى الأبد من حقّها في امتلاك حكايتها.