429

0

مالك بن نبي...فكر يتجاوز الزمن ويدفع الجزائر نحو النهضة

إحياء الذكرى ال52 لوفاته

مرت اليوم اثنتان وخمسون سنة على رحيل فيلسوف الحضارة ومهندس الفكر النهضوي، مالك بن نبي، ذلك المفكر الذي تجاوز زمنه بفكره، واستشرف مآلات العالم الإسلامي بعينٍ ناقدة وروحٍ إصلاحية. 

شروق طالب 

واحياءً لهذه الذكرى، نظمت المدرسة الوطنية العليا للتكنولوجيات المتقدمة، يوما دراسيا، تحت شعار من الهندسة إلى الفكرة...فكر يصنع الإنسان وعلم يبني الحضارة.

شارك في هذا اللقاء، نخبة من الأساتذة والباحثين، منهم من عرف مالك بن نبي عن قرب، ومنهم من تتلمذ على أبرز تلاميذه، ومنهم من خصص مسيرته الأكاديمية للبحث في فكره وإسهاماته الحضارية.

استهل اليوم الدراسي بكلمة ترحيبية ألقاها مدير المدرسة، الدكتور عامر محمد فيصل، الذي أكد من خلالها أن المؤسسة تسعى إلى تخريج مهندسين جزائريين يمتلكون وعيا فكريا وحضاريا يؤهلهم لمواجهة تحديات التنمية في الجزائر.

 

الواجب أساس الحق في فكر مالك بن نبي

في مداخلته الفكرية، تناول المفكر الدكتور عمار طالبي الجوانب الأخلاقية والاقتصادية والميتافيزيقية في فكر مالك بن نبي، مبرزاً  مفهومين محوريين تناولهما بن نبي في كتابه «المسلم في عالم الاقتصاد»، وهما الواجب والحق.

قال طالبي إن مالك بن نبي أقام علاقة سببية بين المفهومين، حيث يرى أن الواجب يسبق الحق، فالحق هو ثمرة الواجب، والواجب هو إنتاج الفكر والأشياء، بينما الحق هو الاستهلاك.

وأضاف "إذا لم ننتج، فبماذا نستهلك؟ إن معادلة الواجب والحق تحدد مصير المجتمعات: فإما إنتاج وفير، أو إنتاج معتدل بقدر الاستهلاك، أو صفر إنتاج، وهو ما يعني التخلف".

وأشار إلى أن الجزائر بدأت اليوم فعلاً تخطو نحو ثقافة الإنتاج والاكتفاء الذاتي، خصوصا في مجال المواد الأولية والاستهلاكية، وهي خطوة في الاتجاه الذي دعا إليه مالك بن نبي قبل عقود.

مجتمع الواجبات قبل مجتمع الحقوق

أما الأستاذ ميلود خلف الله، عضو المجلس الأعلى للغة العربية، فقد استعاد في مداخلته تجربة شخصية جمعته بأحد أبرز تلاميذ مالك بن نبي، المفكر السوري جودة سعيد، صاحب كتاب «اقرأ وربك الأكرم».

وأوضح خلف الله أن جودة سعيد طرح سؤالاً جوهرياً: لماذا جمع الله بين «اقرأ» و«ربك الأكرم»؟

وأجاب بأن في ذلك دلالة عميقة على أن المجتمعات التي تقرأ وتفكر هي المجتمعات الحية والمبدعة، لأن القراءة المرتبطة بالكرم الإلهي تعني أن العلم هو أرقى صور العطاء.

وانطلاقا من هذه الفكرة، قال خلف الله "إذا قمتَ بواجباتك، نلت حقوقك، وإن لم تجدها في الأرض، نزلت عليك من السماء"، وهي مقولة جودة سعيد التي تلخص جوهر فكر النهضة عند مالك بن نبي.

وأكد أن المجتمع الذي يجعل الواجب أولوية هو المجتمع المؤهل للنهضة، بينما تضعف الأمم عندما تنقلب المعادلة فتصبح الحقوق مطلبا قبل الواجبات.

 

أزمة العلوم هي في جوهرها أزمة حضارة

في مداخلته حول فكر مالك بن نبي، تناول الباحث هشام شراد موضوع «إنتاج التكنولوجيا وفكر الحضارة»، مستشهدا بمقدمة ابن خلدون من جهة، وبمثال تفاحة نيوتن من جهة أخرى، ليوضح أن كل أزمة يعيشها الإنسان إنما هي في جوهرها أزمة حضارية، كما أكد ذلك مالك بن نبي في كتبه.

وأوضح شراد أن بن نبي عنون معظم أعماله ضمن سلسلة مشكلات الحضارة، التي ركز فيها على ما سماه الباحث شراد بخسوف العلوم والمعارف والثقافة والفنون،  في العالم العربي والإسلامي.

ويرى شراد أن هذا الخسوف ليس عرضا مؤقتا، بل نتيجة مباشرة لسقوط المنظومة الحضارية التي كانت تنتج الفكر والمعرفة والإبداع.

وأضاف شراد أن المجتمعات العربية والإسلامية اليوم أصبحت غير منتجة للأفكار أو الإيديولوجيات، مكتفية بتبنّي النماذج الغربية — كالرأسمالية أو الاشتراكية — دون إنتاج فكر متجذر في واقعها التاريخي والثقافي, وهذا ما يجعلها، على حد تعبيره، مجتمعات مستهلكة لا مبدعة.

وأشار إلى أن مالك بن نبي يعتبر العلم أحد فصول الثقافة، وأن أزمة العلوم ليست إلا مظهرا من مظاهر أزمة الإنسان نفسه.

فحين تتفكك شبكة العلاقات الاجتماعية ويضعف الوعي الجمعي، يظهر ما يسميه بن نبي «الإنسان القابل للاستعمار» — ذلك الفرد السلبي، الكسول، غير المنتج، الذي يعيش على هامش الجماعة ويستهلك ما تنتجه الطبيعة دون أن يضيف إليها شيئا.

وبين شراد أن هذا النمط من الإنسان، بضعفه النفسي ووهنه الحضاري، يهيئ البيئة المناسبة لعودة الاستعمار بأشكاله المختلفة، لأن الاستعمار لا يوجد إلا حيث يوجد إنسان قابل له.

وفي ختام مداخلته، وجه الباحث رسالة إلى الشباب الجزائري والعربي، قائلاً "هناك من يدعو اليوم إلى تجاوز فكر مالك بن نبي، لكننا لم نعرفه بعد ولم نطبقه بعد. علينا أولا أن ندرسه بعمق، أن نقرأه ونفهمه، ثم نحاوره ونطوره. ففكر بن نبي ليس تراثا نضعه على الرف، بل مشروع نهضوي ما زال ينتظر من يحييه.”

 

مالك بن نبي... المثقف الذي سبق زمنه

وتحدث المجاهد عبد الله عثمانية، الذي عرف المفكر الراحل عن قرب، قائلاً إنه التقى بمالك بن نبي عندما كان موظفا إداريا في قطاع التعليم العالي، حيث ذكر بأنه عُرض عن بن نبي آنذاك تولي منصب مدير التعليم العالي، وهو منصب رفيع في تلك الفترة، إلا أن بن نبي فضل مواصلة مسيرته الفكرية.

وفي سياق حديثه عن الجانب الثقافي للثورة الجزائرية، كشف عثمانية أن قادة الثورة أولوا اهتماما خاصا للبعد الثقافي والاجتماعي في مرحلة التحرير، مشيرا إلى أنه في عام 1961 تم جمع نخبة من المثقفين الجزائريين، لإعداد رؤية ثقافية للثورة.

وأكد أن آخر محطة فكرية في هذا المسار كانت وثيقة طرابلس، التي تضمنت تصور شامل للنهضة الجزائرية بعد الاستقلال.

 

مالك بن نبي شخّص داء الأمة وقدم حلولا واقعية

من جانبه، قال الأستاذ عيسيو محمد، الجامعي المتخصص في الذكاء الاصطناعي والإلكترونيات، ان المفكر الراحل "شخّص بدقة المرض الذي كانت تعانيه الأمة العربية، وعلى وجه الخصوص الجزائر، ووضع له حلولا موضوعية قابلة للتطبيق”.

وأوضح أن تلك الحلول كانت تهدف إلى تحقيق نهضة شاملة تحفظ للجزائريين مقدساتهم وقيمهم، وفي الوقت ذاته تدفعهم نحو التقدم العلمي والمعرفي. 

وأضاف أن أفكار بن نبي لا تزال تجد صداها اليوم في السياسات الحديثة للدولة الجزائرية، خاصة من خلال وزارة التعليم العالي والبحث العلمي بقيادة الوزير كمال بداري، إلى جانب وزارة اقتصاد المعرفة والمؤسسات الناشئة، اللتين تعملان على بناء جيل جزائري واعٍ ومنتج يجمع بين الهوية الوطنية وروح الإبداع العلمي.

 

شارك رأيك

التعليقات

لا تعليقات حتى الآن.

رأيك يهمنا. شارك أفكارك معنا.

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services

barakanews

اقرأ المقالات البارزة من بريدك الإلكتروني مباشرةً


للتواصل معنا:


حقوق النشر 2025.جميع الحقوق محفوظة لصحيفة بركة نيوز.

تصميم وتطويرForTera Services