جامعة امريكية تستعد لتكريم أستاذة جزائرية، إحدى رائدات علم المكتبات المعاصر .
الدكتورة وريدة أوبراهم (رحمها الله)

محمد مصطفى حابس: جينيف / سويسرا
أتصلت بنا أستاذة فاضلة من أمريكا، ترغب في جمع تراث سيدة جزائرية فاضلة كنت قد كتبت عنها مقالا بالعربية والفرنسية، بل قل “كليمات” منذ عشر سنوات خلت او تزيد، مذكرة إياي بمقالي الذي كنت قد نسيته طيلة هذه المدة، بل وذهبت تشرح وتمدح عدد المواقع والجرائد التي نشرت المقال بلغات ثلاث (عربية وفرنسية وإنجليزية)، بالعربية منها الزمان اللندنية والبصائر وأخبار اليوم والمساء وغيرها لم أعد أذكرها – حاليا- كلها، أما الإنجليزية فلم أطلع عليها مطلقا، اما بالفرنسية فقد نشرتها لي – إن لم تخني الذاكرة – كل من :
Le jeune Musulman, L’expression, Le Quotidien d’Oran
كما أذكر أن جريدة جزائرية أخرى اجتهدت من جهتها معنونة مقالي بعنوان مستفز لوزارة الثقافة يومها فكتبت عن رحيل الجزائرية وريدة أوبراهم مديرة المكتبة الجامعية الكبرى ”ستيفنس” في ولاية نيو جيرسي الأمريكية،
Stevens Institute of Technology, 1st private research university in Hoboken, New Jersey – Since 1870
بالبنط العريض، هذا العنوان: “وزارة الثقافة لم تستثمر في طاقتها وعلمها؟” كتبت من خلال هذا الاتصال ترغب صاحبته مع مجموعة من زميلاتها وزملائها في الإدارة بمؤسسة أمريكية، التحضير لتكريم الأستاذة المرحومة الجزائرية وريدة أوبراهم، بجمع ما كتب عنها لمشروع لم يحدد بعد كتسمية مدرج أو معهد أو مؤسسة تربوية باسمها، أو شيء من هذا القبيل!!.
لم أخبر بعد بتفاصيل الموضوع، لأنه قيد التحضير لحد الساعة و لست أدري هل له علاقة أم لا بمناسبة الذكرى العاشرة لرحيل الأستاذة الجزائرية، لا علينا، لكن الذي أدهشني، كيف يعترف الغرب بعقول عباقرتنا وفحولنا وفحلاتنا من وراء البحار، ونحن صم بكم، لا نحرك ساكنا !!
سيرة سيدة من طرازها أجدر بالتكريم وتقلد المناصب من بعض التافهات عندنا
إن سيرة امرأة من طراز الأستاذة وريدة أوبراهم التي تميزت بالصرامة والصدق والثبات على المبادئ وعزة النفس حتى بحجابها في الغرب، كانت أولى وأجدر من العديد من التافهات لتقلد المناصب العليا في الدولة الجزائرية لتستفيد الأمة من عبقريتها، هذا الوضع جعل اليوم الكاتب الداعية والأديب الجزائري الشريف والنزيه، إن كتب لا يكتب إلا من خلال آهة أو دمعة. يكتب ليعبر عن آلامه وعذابات جيله وشعبه، من هنا طغت نغمة الحزن واليأس والإحباط في فترة ما بعد الاستقلال على الكثير من كتابنا الملتزمين. لا لشيء إلا لأن الوفاء قليل في البشر، و أوفى الأوفياء من يفي للأموات وللمبادئ النبيلة التي ماتوا من أجلها لتحي أمة الخير والعدل، وتزدهر وتتطور، لأن النسيان غالبا ما يباعد بين الأحياء وبينهم، فيغمطون حقوقهم، ويجحدون فضائلهم، هذه أمريكا العظمى، أول قوة دولية على المعمورة، ترغب في تكريم شخصية جزائرية مهاجرة مسلمة ومحجبة !!
فأين تكريم الجامعة الجزائرية ووزارات الثقافة والتعليم العالي والتربية، لهذه السيدة وغيرها من الفضليات الملتزمات، لماذا لا يسمى مدرج جزائري في جامعات باب الزوار أو بومرداس أو الحراش الذين استفادوا من خبرتها وعلمها، حتى يأتي اليوم الغرب العملاق كأمريكا ليفكر في تكريم العقول العربية المهاجرة الملتزمة، أملي فقط أن لا تتمادى مؤسساتنا في غرس رؤوسها في الرمال، كأن الأمر لا يعنيها، عيب وعار أن تزهد أمة في جهد رجالها ونسائها، مهما كانت الظروف والأوضاع !! .. أقول هذا الكلام عابرا ومعبرا عن ما تعلمناه من مدرسة نبينا الأكرم صلى الله عليه وسلم، أن نمدح المستحقين للمدح دون غلو مشين ولا إطناب مهين، لأن الناس معادن فهي أعمال وأخلاق، ونحن حينما نذكر العمل لا نريد به القاصر في عرف الفقهاء، وإنما نريد منه هذه الأعمال العامة النافعة لكل الناس التي فيها ما في النور والماء، من غذاء وقوة وحياة الأمم، وفيها ما في الدهر من استمرار وامتداد !!
متى تتذكر مؤسساتنا أهل الفضل عليها، لتكريمهم برد الجميل ؟
أقول هذا الكلام – الآن- لأن امرأة من هذا الطراز ترحل – أيامها – وسط لامبالاة الأوساط الإعلامية في الجزائر إلى اليوم، بل حتى وزيرة الثقافة (2002 – 2014) خليدة تومي يوم رحيلها تحديدا، حاولت التغطي عن الحدث، كما غطت قبل ذلك على رحيل الدكتور الهاشمي التيجاني، بفرحتها بقدوم “عملاق” الفن وقدوة الشباب الجزائري “الناجح” ـ كما تسميه هي- !! المطرب المدعو “الشاب خالد”، مقدمة إياه على أنه القدوة والمثل، وقد كَتَبتُ حينها عمودا في يومية الزمان اللندنية ونقلته يومية الفجر الجزائرية، بعنوان “هكذا تقلب الموازين في بلادي.. ولكن لا حياة لمن تنادي!!”
ونحن نترقب مع كل نهاية سنة دراسية واجتماعية لما تبدأ التكريمات وتسمية المؤسسات التربوية والجامعية الجديدة وغيرها، وحتى دفعات المتخرجين في مختلف فنون المعرفة المدنية والعسكرية وحتى الرياضية، علنا نسمع تكريما لرمز من رموز التربية والاصلاح منهم استاذتنا الفاضلة ” وريدة أوبراهم”، آملا من صميم قلبي أن يستدرك هذا الخطأ الفادح في حق علماء الجزائر و رموز الخير فيها عبر أجيالها.
أمام هذا المصاب الجلل، فإن أجيال اليوم والبارحة من تلاميذها وطلبتها وإخوانها ليعزون أنفسهم والأمة الجزائرية والإنسانية، وأسرة الفقيدة، ويعظمون لهم الأجر، يسألون الله لها الرضوان، والعفو والغفران، ومقام الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، ويدعون الله لأسرتها بالصبر والسلوان، وأن يعظم لهم الأجر في رحيلها عن الدنيا لتلقى ربها راضية مرضية {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}، و {إنا لله وإنا اليه راجعون}.
الجامعة الأمريكية تفتقد إحدى رائدات علم المكتبات المعاصر
وتحت عنوان : “الجامعة الأمريكية تفتقد إحدى رائدات علم المكتبات المعاصر: الأستاذة الجزائرية ” وريدة أبراهم” في ذمة الله” كتبت يومها – منذ عقد تقريبا – متحسرا متلعثما، هذه السطور :
فجعت الجالية الجزائرية أخيرا، كما فجعت الاسرة الجامعية الامريكية خصوصا و الإسلامية عموما، بخبر وفاة الأستاذة الجزائرية ” وريدة – عقيلة – أوبراهم”، عن عمر ناهز الستين سنة، تحديدا المرحومة من مواليد 1950 بالجزائر، وهي من أصول قبائلية مثل زوجها.
وللذين لا يعرفونها في عالمنا الاسلامي، فالسيدة أوبراهم، تعتبر رائدة من رواد علم المكتبات في أمريكا وهي تشتغل مديرة المكتبة الكبرى بجامعة ” ستيفنس بنيو جيرسي” الأمريكية ، بحيث تعد ” وريدة” – كما يحلو لزميلاتها تسميتها- تعد رائدة التطوير التقني والتغيير العلمي حقا بشهادة رئيس جامعتها الدكتور نارمان فافردين، كما كتب في كلمته التأبينية، وكما كتبت أيضا عنها إحدى زميلاتها فور سماع الخبر، قائلة: ” والله إنه لفقدان و خسارة كبرى لتخصص علم المكتبات المعاصر، تعجز الكلمات عن التعبير عن الحزن العميق والفراغ الرهيب لجامعاتنا في ميدانها”.
زوجها الدكتور يوسف أوبراهم يسرد لنا تاريخ حياتهما:
أما زوجها الجزائري الدكتور يوسف أوبراهم، فقد أوكل و طفليه سمير و سفيان أمرهم لله سبحانه، مطمئنين لقوله تعالى: “كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام” .. كما استطرد الدكتور يوسف في حواره لنا، محاولا سرد تاريخ حياة زوجته المفعم بالعطاء العلمي كامرأة مديرة لفريق عمل علمي مختلط الأعراق و الأجناس و التزامها الشرعي بينهم بدينها و حتى بحجابها ، كل ذلك في ديار الغرب. وعت السيدة وريدة بنباغتها، أن تغيير الوسائل يؤدي حتما إلى تغيير العقلية في البيئة التي يمارس فيها التغيير، و قد يكون هو الأمر الذي أرغمها أو حفزها مكرهة على مغادرة الجزائر، غير أن كون هذه الثورة هادئة لا تراق فيها دماء ولا تحتل فيها أراض، لأنها تعلم أن شعوبا كثيرة تظل على الهامش وفي منأى عنها، مكتفية، بل معتزة ببؤسها المعرفي.
و يعود تاريخ وصول الدكتور يوسف أوبراهم لأمريكا لأول مرة عام 1976 في ولاية أوهايو، ثم غادرها عائدا للتدريس في الجزائر وتحديدا بالمعهد الوطني للإلكترونيات ببومرداس{ جامعة بومرداس حاليا} ، حيث كانت السيدة حرمه مديرة المكتبة الجامعية لنفس المعهد. و اشتغلا سويا في الجزائر حتى عام 1983.
أمام إكراهات السياسة الأحادية و تعدد نزغات ووساوس البيروقراطية وجب الرحيل
ولأن البحث العلمي لا يريد التقييد، بل الحرية والاجتهاد المستمر، وأمام العراقيل فقد حاول العمل بصبر وتفاني خدمة للصالح العام لكن أمام إكراهات السياسة الأحادية و تعدد نزغات ووساوس البيروقراطية، ناهيك عن تفاقم الجهل الذي من أنفك ينخر رفوف المكتبة و يتسرب للمخابر العلمية في جزائرنا الفتية من طرف أشباه إداريين لا يحسنون للتصرف معنى و لا للتسيير قيمة و لا يعرفون للبحث العلمي أولويات ولا يمتون أحيانا حتى للوطنية بصلة التي كثيرا ما تغنى بعضهم بها، كل ذلك على حساب التحصيل العلمي الشريف للطلبة الأبرياء.
أمام هذا الوضع المتردي و لكي لا تؤنبهم ضمائرهم على التقصير الحاصل في حق الأجيال الجزائرية الذكية والواعدة، فضل الدكتور أوبراهم و زوجته “الانسحاب بشرف من ميدان الصراع” والرحيل بحسرة بعيدا عن أرض أجداده و العودة مكرهين للجامعات الأمريكية التي تحترم العلم و تحتضن العلماء..
وأنهى الدكتور يوسف سرد فصول قصته علينا بزفرة عميقة قائلا: “الحمد لله على كل حال، ما شاء الله قدر فعل، هذا قدرنا ..و “لا تدري نفس بأي أرض تموت” و “لا نقول إلا ما يرضي ربنا.. وإنا لله و إنا إليه راجعون” ثم تنهد ثانية و أردف يقول لنا :” كم من لحظات جميلة قضيناها هنا في أمريكا مع الجالية الجزائرية، خاصة في بداية تسعينيات القرن الماضي، كان هناك هجرة أدمغة لامعة وسواعد شابة محترمة، وكان بعض الطلبة الجزائريين في رمضان يأتون لبيتنا للإفطار معنا وهم عزاب حينها، بحيث تعد لنا المرحومة، أم سمير، الإفطار الجزائري تقريبا كل مساء، رغم أشغالها المتعددة في الجامعة وفي صفوف الجالية بالمركز الإسلامي دون كلل و ملل، وها هم والحمد لله شباب الأمس، رجال ونخبة الغد من العقول الجزائرية الواعدة في ولاية “نيوجيرسي” أصبحوا اليوم أساتذة و إطارات بعائلاتهم يردون لها الجميل بالتعزية والمواساة والترحم على روحها الطاهرة، بحيث حضر جمع غفير لتوديعها في المقبرة الإسلامية مع معارفنا الكثر من الامريكان و المسلمين..”
ثم أضاف يقول الدكتور يوسف مفتخرا ” وأنا أسرد قصتها مستشهدا بهذه التضحية و الجندية الرائعة لزوجتي الكريمة و أم أولادي المصون، لا يمكن أن أنسى بحال إحترام زملائها الأمريكان لها في الجامعة ، وهي تشتغل معهم صائمة في رمضان، فيحاولون الإشفاق عليها أثناء وجبة الغداء، لكن لا تبالي، فالأمر عندها سيان، وحتى من جهة إدارة الجامعة لم يلمسوا لديها أي تعب او إرهاق في رمضان أو حتى في غير رمضان مقارنة بباقي أشهر السنة، بل كانت كلها نشاط وحيوية وعطاء .. وحتى حين اكتشاف الورم الخبيث الذي بدأ ينخر جسمها النحيف منذ ثلاث سنوات خلت، لم تستسلم و لم تطلب راحة و لا عطلة، بل أوكلت أمرها لله، صابرة محتسبة كجندية مسبلة في سبيل رسالة ” إقرأ” التي جاء بها خاتم الرسل سيدنا محمد{ص}، بل منذ أشهر فقط قبل وفاتها قدمت “مشروع التطوير الإلكتروني للمكتبات” عبر النقل التلفزي المباشر، لوفد من الخبراء و ضيوف الجامعة، مباشرة من المستشفى وهي تخضع حينها لعملية ” العلاج الكيماوي “، و لم يلحظ أحد عنها أي إرهاق أو ضعف أو تعب .. بل الأغرب أنها أخفت أخيرا حتى على والدتها مرضها بداء السرطان، وأكتفت بالقول أنها مريضة بضعف و إرهاق و سوف تعود لعافيتها بعد أشهر، بحول الله”.
على أن تفتح الأبواب للعقول المهاجرة لاستدراك نهضتها العلمية المتعثرة
وأمام هذه الفاجعة، ليس فقط كجزائري وقارئ نهم للكتاب عموما، بل كرجل أشرف ولو لوقت وجيز على دار نشر مع بعض الاخوة و متابع لحركة الكتاب عموما مدة ربع قرن، أشعر بخسارة كبيرة بفقدان السيدة الفاضلة وريدة أوبراهم، ليس للعالم الإسلامي والجزائر فحسب، بل بفقدان هذا النوع من النبتة الطيبة لإحدى بنات الاسلام التي استطاعت التعايش السلمي مع الاخرين حتى في بلاد الغرب. وبكلمة واحدة فإن مجال الكتاب الإلكتروني لا يزال فرصة للبلدان المتخلفة كالجزائر و باقي دولنا العربية لدخول عالم المعرفة إنتاجا وتداولا. بل تكاد دراسات أوروبية أن تجزم أنه باستطاعة بلد مثل الجزائر خاصة بما حباها الله من طاقات بشرية ومادية خاصة مع وفرة أموال بترول صحراء الجزائر وغازها، على أن تفتح الأبواب للعقول المهاجرة لاستدراك نهضتها العلمية المتعثرة
الكتاب محرك التاريخ وباعث الشعوب من سباتها
فقد وعت – رحمة الله عليها- منذ نعومة أظفارها في مسقط رأسها بالجزائر أثناء كابوس الاستعمار الفرنسي الحالك لأرضنا، أن قيمة الكتاب غالية و هي فعلا – كما يقول المثل الصيني ” أفتح كتاب، يفتحك” أو المقولة المعاصرة” الكتاب محرك التاريخ وباعث الشعوب من سباتها”، بل أيقنت- رحمة الله عليها-، أنه بالكتابة والكتاب وحده انفصلت الأمم المتحضرة عن أطوارها البدائية، وبقدر شيوع الكتابة والقراءة تترقى الشعوب في مدارج التقدم والرقي الحضاري. لا لشيء إلا لأن الطفلة” وريدة” ترعرعت في أحضان عائلة مؤمنة مجاهدة تفقه أول كلمة نزلت من القرآن الكريم هي فعل أمر: “إقرأ” النورانية، رغم ليل الاستعمار الفرنسي الداكن، لتفهم بعدها مع فجر الاستقلال “أن الحضارة العربية الإسلامية بدأت عمليا من خلال عملية التدوين والترجمة و بالتالي إحترام قيمة القرطاس والقلم”..
وأيقنت خاصة، كتلميذة من بنات الحراش بالعاصمة الجزائرية، أنه لا طريق لتنمية العقول وترقية الأذواق، أي تثقيف الإنسان، غير طريق الكتاب والقراءة. هذا أمر تأكد معايشته لما وصلت لأمريكا لأول مرة، أن الدول المتقدمة كانت قد وعته بعمق و بالتالي أصبح أمر تهييئ ظروف القراءة والاطلاع جزءا من برامجها السياسية التي تثير اهتمام الجمهور، بل أكثر من ذلك، لما لا وهي أول دول العالم حضارة و تقدما حينها واليوم خصوصا..
كما وعت – رحمة الله عليها- أيضا، سر تقدم وتطور العالم، فبعد القرطاس والقلم، جاء دور التكنولوجيا والطابعة التي اختصرت المسافات بسرعة البرق لما فتحت المجال “للبديل الإلكتروني” و”الكتاب الرقمي” الذي بدأ بحق و حقيقة يسري في أحشاء العالم الحديث ثورة معرفية ذهنية مذهلة ، شبيهة بتلك التي اجتاحت العالم وهو ينتقل من الشفوية إلى الكتابة، أو هي، على الأقل، شبيهة بتلك التي سرت في أحشائه منذ منتصف القرن الخامس عشر عندما اخترع جوتنبرج المطبعة (سنة 1456م)، فكان ذلك وسيلة لتعميم المعرفة على نطاق واسع، ساهم في التهيئة للنهضة الأوروبية وتسريعها، كما يؤكد ذلك الباحثون اليوم في هذا المجال المعرفي التنافسي المتشعب الأطراف.
تغيير الوسائل يؤدي حتما إلى تغيير العقلية في البيئة التي يمارس فيها التغيير
وقد وعت السيدة وريدة بنباغتها، أن تغيير الوسائل يؤدي حتما إلى تغيير العقلية في البيئة التي يمارس فيها التغيير، على حد تعبير المفكر الجزائري شاهد القرن الأستاذ مالك بن نبي، وقد يكون هو الأمر الذي أرغم الفقيدة أو حفزها مكرهة على مغادرة الجزائر، غير أن كون هذه الثورة هادئة لا تراق فيها دماء ولا تحتل فيها أراض، لأنها تعلم أن شعوبا كثيرة تظل على الهامش وفي منأى عنها، مكتفية، بل معتزة ببؤسها المعرفي. وقد كانت تخشى كما كان يخشى أقرانها من علماء إستقراء المستقبل، أن يتطلب دخولنا للمجال الإلكتروني في البحث العلمي عدد القرون التي تطلبها دخول المطبعة للعالم العربي، حينها تكون الرزية الكبرى و الثمن أغلى و بالتالي نبقى في ذيل ترتيب الأمم، لا قدر الله.
ولقد صار من نجاعة المعالجة الإلكترونية للمعرفة تخزينا وتداولا ما جعل “الأستاذة وريدة” تقدم مشروعا متكاملا متسائلة بحذر عن مصير الكتاب الورقي؛ هل ستبقى له وظيفة بعد الوصول إلى تحويله إلى معطيات رقمية جاهزة للقراءة والتحميل مجانا أو بمقابل رمزي كي يستفيد منه الباحثون والطلبة عبر العالم أجمع، بحيث تصبح العملية في منتهى البساطة، بحجم لعبة الأطفال، بنقرة واحدة على حاسوبك و أنت على بعد آلاف الكيلومترات يمكنك أن تشفي غليلك المعرفي من محيط العلوم الواسع المترامي الأطراف..
وكما كانت – رحمة الله عليها- تتوقع كما توقعت العديد من الدراسات الغربية أنه يتم في سنوات قليلة قادمة إدخال جميع المكتبات العالمية إلى المجال الإلكتروني، غير أن الواقع المغاربي خصوصا والعربي عموما لا يبشر بخير في هذا المجال، فقد أشار قبلها تقرير أممي إلى أن التجهيز مازال دون المعدل العالمي بكثير، وهذه إحصائيات 2003 رغم قدمها تكشف عيوبنا وعورات منظومتنا التربوية (18 حاسوبا لكل ألف مواطن في العالم العربي، مقابل معدل عالمي يصل إلى 78.3 حاسوب، ولا يتجاوز عدد مستعملي الأنترنيت 1.6 من كل ألف)، ووتيرة التغيير ضعيفة جدا، خاصة مع وضع دول العالم العربي السياسي الحالي، وخوف انتكاس بعض تجارب الربيع العربي الفتية..
فرصة للجزائر أن تفتح الأبواب للعقول المهاجرة لاستدراك نهضتها العلمية المتعثرة، تسبب فيه جهل مركب في العديد من رفوف و أروقة مجتمعنا.
وبكلمة واحدة فإن مجال الكتاب الإلكتروني لا يزال فرصة للبلاد المتخلفة كالجزائر و باقي دولنا العربية لدخول عالم المعرفة إنتاجا وتداولا. بل تكاد دراسات أوروبية أن تجزم أنه باستطاعة بلد مثل الجزائر خاصة بما حباها الله من طاقات بشرية ومادية خاصة مع وفرة أموال بترول صحراء الجزائر وغازها، على أن تفتح الأبواب للعقول المهاجرة لاستدراك نهضتها العلمية المتعثرة منذ أزيد من عشرين سنة خلت، رغم ما تعشش من جهل مركب في العديد من رفوف و أروقة مجتمعنا بحيث ضيعت فرص غالية على أجيال و أجيال من أبناء الجزائر و بناتها..
السيدة وريدة ، امرأة موهوبة بامتياز، انتقلت من تخصص البيولوجيا لتحط رحالها في علم المكتبات المتشعب الفنون و الأذواق، وبالتالي جمعت بين الحسنيين، ووعت بحق مقولة الأصمعي الذي نصح أحد أصحابه يوما بقوله :” ألا أدلك على بستان تكون منه في أكمل روضة، وميت يخبرك عن المتقدمين، ويذكرك إذا نسيت، ويؤنسك إذا استوحشت، ويكف عنك إذا سئمت؟ قال: نعم، قال له: عليك بالكتاب، فلا يخلو كتاب من فائدة تنفع من يعمل بها أو تحذر من أمر ما، كما أنها تعد خير وأجمل جليس وأحسنه وأكرمه وأنفعه للفرد وللمجتمع” .
امرأة موسوعة بحق، تهوى الارتماء في أحضان عالم الكتب الساعات تلو الساعات
الأستاذة وريدة، امرأة موسوعة بحق، تهوى الارتماء في أحضان عالم الكتب الساعات تلو الساعات ليلا و نهارا ، دون ملل أو كلل، عاملة بنهج أحد العقلاء العرب، الذي يصف حياته على مر سنين العمر فكتب يقول”: صحبت الناس فملوني ومللتهم، وصحبت الكتاب فما مللته ولا ملني” ، وهذا يذكرنا بقول الشاعر: وخير جليس في الزمان كتاب *** تسلو به إن خانك الأصحاب
وقال آخر:أعز مكان في الدنيا سرج سابح *** وخير جليس في الأنام كتاب.
“هجرة السيدة وريدة” لأمريكا عملا بتوصيات صاحبة “تراجم سيدات بيت النبوة” رحمها الله
على ضوء تلك المقولات، فالسيدة وريدة، رغم أنها تعلم كغيرها أن العبرة ليست باقتناء الكتب في المكتبات وتصفيفها في الرفوف و الأدراج، على حد تعبير المثل الجزائري “العلم في الرأس وليس في الكراس“، ولكن العبرة بالفهم والمطالعة فيها، فأصبحت من كثرة معرفتها بالكتب موسوعة متحركة بين التخصصات المعرفية المعاصرة والقديمة، تعرف محتويات جل تخصصات الكتب وما بها من فوائد علمية واجتماعية وثقافية وحتى شرعية ومما تحتويه هذه الكتب من شتى المجالات التي تخدم الإنسان في حياته العلمية والعملية..
وبالتالي نكاد أن نجزم بأنه في “هجرة السيدة وريدة” لأمريكا، تكون قد عملت بتوصيات صاحبة “تراجم سيدات بيت النبوة“، الكاتبة الموهوبة عائشة بنت الشاطئ رحمها الله في موسوعتها المعرفية وفي جنديتها وعطائها وتربيتها وتضحياتها، لما تفسر الآية 22 من سورة التوبة{الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ }، مركزة على أهم ثمانية دروس هجرة الرسول {ص}، منها أولا بناء المساجد، ثانيا بعث المؤسسات التعليمية { المدرسة القرآنية}، ثالثا المؤاخاة بين الانصار والمهاجرين، رابعا ربط العلاقة مع أصحاب الديانات الاخرى بمواثيق مع يهود المدينة المنورة، خامسا تنظيف شوارع المدينة، سادسا حفر آبار المياه، سابعا إجتثاث الفقر بحيث لم يبقى في المدينة فقير مسلم، وثامنا إشاعة الأمن و السلم في ربوع المدينة المنورة“.
زرع روح الثقة في نفوس الذين يشتغلون معها رغم اختلاف تربتهم الثقافية والدينية
كل هذه الدروس جعلت من مهاجرة جزائرية، كالسيدة وريدة ” تزرع روح الثقة في نفوس الآخرين الذين يشتغلون معها رغم اختلاف تربتهم الثقافية و الدينية، كما سعت بحنكة على شحذ الهمم بعد أن علمتهم كيفية وضع الأهداف وإمكانية تحقيقها وكيفية غرسها في طلبة العلم. كما علَّمت الجالية الإسلامية في أمريكا عموما فنون التواصل والتأثير في الآخرين وكسب صداقتهم، علمت أيضا الوافدين العرب و هي أمازيغية الأصل، كيف يعتز العربي بلغته ويفهم الإنسان ذاته ويكتشف قدراته لتصبح الحياة لها معنى و الجهد له مقصد، كل هذا حدث في زمن شعر فيه المسلمون في أمريكا بنزول مستوى الأمل والتطور في الأمة الاسلامية خاصة بعيد أحداث 11سبتمبر 2001. رغم تلك المحن والصعاب التي وقعت على رؤوس الجالية المسلمة ظلما وعدوانا، لكن بلطف الله استطاع المسلمون في أمريكا بصبر واحتساب رص صفوفهم في هيئات ومنظمات وجمعيات أهلية فوتت الفرصة على البغاة، وبالتالي وفق الله كوكبة من خيرة المسلمين المهاجرين لرفع التحدي برجال ونساء كل في تخصصه وكل حسب موضعه من طراز هذه السيدة الفاضلة وغيرها كثير..
هنيئا لك، يا أختاه بالأجر والثواب، يا مُعَلِّمة الناس الخير !!
هنيئا لك، يا أختاه، كمهاجرة بالأجر والثواب، لما بذلتيه من جهود جبارة في غرس التفكير الايجابي واستنهاض همم الشباب، والتفنن في تغيير السلوك البشري وتطويره نحو الأحسن أين ما حللت و ارتحلت، لقد كنت نِعْم المعلمة، و نِعْم المدربة .. ورحمك الله يا شهيدة القلم وأسكنك الله فسيح جناته، وجعل الله كل خطواتك وحركاتك في ميزان حسناتك.. وبشراك بحديث الرسول (صلى الله وعليه وسلم) حينما قال:” إن الله وملائكته وأهل السموات و الأراضين، حتى النملة في جُحْرِها وحتى الحوت لَيُصَلُّون على مُعَلِّم الناس الخير.”
سوف تبقين في قلوب كل معارفك حيةً وللأجيال خالدة لتستلهم من أدبك وجميل خصالك ما يعينهم على الدرب في الطريق الذي سرت عليه، وسوف تبقى تلك المبادئ التي وهبتي روحك وحياتك من أجلها نبراساً وتاجاً فوق رؤوس طلبة العلم عموما.
رحمك الله وأكرم مثواك ووفق تلاميذك والمستهدين بنهجك من جاليتنا في المهجر، نحو غد أفضل، و أن غدا لناظره قريب، “وإنا لله وإنا اليه راجعون”.